}

مكاني الأول

نجيب نصير نجيب نصير 13 مايو 2021
سير مكاني الأول
(بريشة الفنان التشكيلي العراقي محمود صبري)

لا أعرف على وجه التحديد، ما إذا كان يحق لابن موظف متنقلّ بين المدن والبلدات السورية، أن يكون له مكان أول، ربما وعلى وجه التقريب يمكن أن يحصل على مرات أولى، أو تجارب أولى في حياة سوف يعيشها، تمامًا مثل القبلة الأولى، واحتدامات الجسد الأولى، تجارب التدخين، وتعلم السباحة، وإلى ما هنالك من فسحات تضيئها الذاكرة، لوقائع مرت ولا يمكن تصحيحها، ولا يتبقّى لنا نحن الأحياء، إلا الإدّعاء بأنها وقائع جميلة بحكم إمكانية انتمائها للسرد، الذي ربما يُحدث فارقًا.

لما تزل الكتابة بالنسبة لي، عملًا مدرسيًا شاقًا، تمامًا مثل دروس الإملاء، ووظائف الإنشاء المنزلية، وأتطيّر من اضطراري للجوء إليها على سبيل إراحة نفسي واستعادة توازني، لكنها الحل الوحيد للملمة ما ينتجه عقلي الذي يراكم المعلومات، ومن ثم يضيق بها، وتضيق به، كمن يكتب موضوع إنشاء، ليس للمدرسة هذه المرة.

أنا من مواليد دمشق عام 1958، المكان الذي عدت إليه بعد رحلة في الأمكنة السورية التي دامت أربعة عشر عامًا، تخلّلتها عطل صيفية، إلى بيت جدتي الواقع في شارع بغداد المجاور لمقبرة الدحداح، والقريب من منطقة الصالحية، مركز السينمات والمسارح، ومشاوير البلد العمومية، وبهذه العودة انتهت مرّاتي الأولى، لأبدأ مكاني الثاني بخبرة مرّاتي الأولى تلك.

فيما بعد علمت أنه جسر دير الزور المعلّق بالحبال، كأول ذاكرة بصرية لي. كان الخوف هو أول ما عرفت، وهو ما استفزّ جملتي العصبية الطفولية لتسجّل أول صورة لي في ذاكرتي التي أعرف الآن. رجال شرطة وجيش، يلوبون في محيط السيارة التي تقلّنا، صور عبد الناصر المطبوعة على أوراق فستقية وبرتقالية ملصقة على نوافذ بضع سيارات موجودة في المكان. كنت مع أشخاص مرتبكين داخل سيارة، من عرفت لاحقًا أنها أمي، يرتجف ذقنها على هلع، ورجل ينهرها مهدئًا طالبًا عدم إرباكه وهو يحاول التفاهم مع رجال الشرطة والجيش، مبرزًا أوراقًا وبطاقات وهويات، تثبت أنه موظف حكومي منقول إلى البوكمال، ولا يدري بالذي حصل، فقد بدأ رحلته من "فيق" على الجبهة في الجولان، إلى دمشق فحلب، وهو الآن بصدد متابعة مهمته الحكومية والالتحاق بمركز عمله. لغو وأخذ ورد، فهمت منه أنهم أقوى من هذا الرجل الموجود في المقعد الأمامي من السيارة إلى جانب السائق ذي الرقبة المتعرّقة بشدة، كان راجيًا، متمسكنًا وعطشًا، يريد شيئًا لم يجرؤ على طلبه، هذا الرجل صار أبي، بعد وهلة أشعلت المرأة لفافة من علبة ورقية خمرية اللون واحتفظت بعود الكبريت المحترق بيدها، والسيجارة ترتجف بين إصبعيها. طُلب من الرجل الذي صار أبي، أن يترجّل ليقابل الملازم أول، سرت رعشة في السيارة، امتثل أبي ولكن السائق سأله قبل أن يترجّل عن أجرة السيارة، ارتجف وجه أمي وبدأت بالبكاء بصمت. شاهدت أبي على بعد أمتار وهو يجيب الملازم أول الذي يقلّب الأوراق بين يديه، إبتسامة عجينية لازمته طوال حياته فيما بعد، منذ إصابته بمرض "اللقوة". عاد أبي إلى السيارة جلسنا منتظرين البرقية، التي لا أعرف ما هي.

رجل وامرأة وطفلان، واقفون على طرف رصيف شارع في مكان ما، عاودني ذلك الشعور المبهم ونحن في لجّة فراغ، لشارع فارغ من الناس فالسائق أنزلنا مكررًا بكثرة كلمة "منع تجول"، وغادر. تحرّك أبي مغادرًا هو الآخر، شعرت بخوف يدعوني إلى التبوّل، أمي ارتبكت فأخي الأصغر تبول في ثيابه فعلًا، ربما بسبب الخوف الذي انتقل إليه مني، أو بسبب رؤيتنا لهذه المرأة المُهانة بخوفها، جرّتني بعنف إلى حائط كي أقضي حاجتي عليه، عندها انفتح باب يتوسط نافذتين وتطلّ امرأة تغطي رأسها بمنشفة، تسأل أمي عن خبرها، طفقت أمي بالبكاء والارتجاف، متعلثمة بشهقاتها، ليطلّ رجل من خلف المرأة مستطلعًا.

لا أتذكر إلا كلمة خير إنشالله، تُقال بعدة نبرات وأنغام، ابتدأت بكلمة واحدة، خير خير خير، ليش تبجين (تبكين)؟ طوّقتها بذراعها وأدخلتنا في الباب الواقع بين نافذتين، متابعة ترديد "خير إنشالله" بين كلمة وأخرى. في غرفة لوحدنا، جلسنا حول أمي الخائفة من ضياع أبي عنها، لم يدخل إلينا أحد بعد جلسة قصيرة مع المرأة التي سكبت شايًا، ودخّنت مع أمي سيكارة "مرجان"، أعطتنا بعض الملبن والحامض حلو، وسمحت لنا بأكل السكر من العلبة المصاحبة لأبريق الشاي، ثم خرجت.

على شرشف من النايلون المطبوع مُدَّ على الأرض، صفّت أنواع من المطبوخات برائحة زكية عشقت الفاصولية البيضاء بعدها، جلسنا بصف واحد أنا وأبي وأمي وأخي منتظرين أن يأتوا لنأكل. ولكن أحدًا من أهل الدار لم يأت، أتلوى جوعًا وتردعني أمي بلؤم.. علينا الانتظار.

ألا تأكلون من أكل الغرباء؟ سألت المعزبة (المضيفة)، ألم يعجبكم الطعام؟

طفقت أمي بلهجة إعتذارية شاكرة، تفهمها بأننا بانتظارهم، وقد أرهقنا الجوع، فنحن لم نأكل منذ حلب في الخامسة صباحًا. دخل الرجل إلينا، وشرح أنه من العادات الديرية (من دير الزور)، لا يصح أن يراقب المضيف ضيوفه وهم يأكلون، وعليه أن يتركهم ليتصرّفوا كما يشاؤون في عزلتهم. حلفت أمي أنها لن تأكل ما لم نجلس جميعًا، جلسوا وحكوا عن الانقلاب، وعن منع التجول، وعن البوكمال، والأرصاد الجوية، شتم المعزّب عبد الناصر وهو يقول إن الدير مو كلها ناصرية، صمت أبي تمامًا واستمع. عرفت لاحقًا، أنه وضع احتمالًا أن يكون مضيفنا مُخبرًا.

تمامًا كما قصص الأطفال، في اليوم التالي كنا نركب حنطورًا، ونجلس في شرداق (مقاهي ومطاعم ضفة نهر)، قرب نهر كبير، والحبال المنحنية كأقمار مقلوبة، تزيّن جسرًا قريبًا، ربما قد نسيت ونحن في صبيحة 29 أيلول/ سبتمبر1961، ذلك الشعور المُهين الذي سوف يرافقني لصيقًا لبقية عمري، يومها سيطرت عليَّ رائحة الشواء في الشرداق ولفة (ساندويش) كباب ضخمة بين يدي.

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
4 مارس 2022
آراء
16 فبراير 2022
آراء
27 ديسمبر 2021
آراء
22 نوفمبر 2021

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.