}

الرقابة والحياء العام

نجيب نصير نجيب نصير 27 ديسمبر 2021
آراء الرقابة والحياء العام
(Getty)
ما تحاول الرقابة ستره، مما ينشر من منتجات ثقافية، تفضحه صفحات الحوادث بجلاجل، ترافقها الصفحات الاجتماعية، وأخبار النجوم، ومواقع التيك توك، ولقطات الفيديو المسربة، هذا إذا لم نضف منصات العروض التلفزيونية، التي تمد لسانها بشماتة إلى أجهزة الرقابة العربية، من حيث لا تدري.
تدعي الرقابة، بكافة اختصاصاتها ومشاربها، أن الأوضاع جميعها بخير، برضى جميع أعضاء التجمع السكاني، عدا مجموعة، في كل اختصاص، ضالة، أو مندسة، أو مغرر بها، أو بكل بساطة جاهلة وغبية، ومنفصمة عن الواقع. مطمئنةً الجماهير بأنها ستذود عنهم، حفاظًا على حيائهم العام، وقيمهم، واستقرار حياتهم الأسرية، المرتبطة بأرقى المعايير الاجتماعية، ليتعالى خطابها واصلًا، إلى المقدسات والثوابت، وحمايتها من العبث.
ربما كانت الرقابة تعرف ولا تعترف بأن ما تحاول حمايته هو من الهشاشة، إلى درجة أنه يحتاج إلى هذه الأجهزة المضحكة لحمايته من "المارقين"، ليس لأنه خطأ أو صواب، حلال أو حرام، بل لأنه لا يناسب مصالح مشغليها، وهذا إنصاف في حقها، فالأداء الاجتماعي هو أداء مصلحي في الدرجة الأولى، وصناعة المنتجات الثقافية هي مقاربات عقلانية تنشد الحقيقة، بمعنى أن ساحة صراع منتجي الثقافة هي ساحة المعرفة، على ما تحمله هذه الساحة من معلومات عن حقائق الواقع يصعب على الرقابة النزول إليها، ومقارعة المنتجين فيها، فتلجأ إلى القسر، صانعة ثورًا من تمر، لا يلبث الجمهور أن يأكله.




الملاحظ أن الناس نفسها ليست في وارد الاحتجاج على من يجرح "حياءهم" الافتراضي، إن وجد (السينما العربية قبل 1980 مثالًا)، لأن المسألة برمتها هي خارج موضوع الحياء العام، أو الخاص، خصوصًا ما يسمى قيم وثوابت الأسرة والمجتمع، فالمنتجات الثقافية بوصفها سلوكات ثقافية سوف تصل إلى السكان عاجلًا أم آجلًا، سرًا أو علانية، فالواقع مفلوش أمام الجميع، ومجرياته تصفع الدماغ قبل العين، إنه صلب العيش الجماعي في بلداننا، القائم على الفساد العام، وعليه إما أن تكون القيم والثوابت غير ذات بال بتعايشها مع هذا الفساد واندراجها فيه، أو هي قيم وثوابت من خارج الطبيعة البشرية، لا تستطيع العيش ولا الموت بحكم أنها خارج مقاييس العيش المجتمعي، وكذلك بحكم طبيعة التطورات الإنسانية في العالم.
إنها ذات القيم التي يحملها الجمهور والرقابة معًا، تجعل شوارعنا متسخة، وموظفي الدولة فاسدين وسارقين ومرتشين، والقضاء بطيء ومشكوكٌ في ذمته، والسائقين الذين لا يلتزمون نظام المرور، والنساء والرجال المكبوتين يصارعون فطرتهم عن طريق التحرش والاغتصاب، وجرائم الشرف، والغش في العلاقات، والمتلاعبين بالأسعار والنوعيات من التجار والصناعيين الذين يأكلون البيضة وقشرتها، إلى ما هنالك من أمثلة تفقأ العين. ومع ذلك، تؤكد الرقابة على حماية حيائهم من المؤثرات الشريرة للمعرفة، التي تدعي أنها تصدر عن قلة قليلة، تريد عبر خدش الحياء العام، وتغيير الثوابت، وإهدار الفضائل، تهديم البنيان الاجتماعي، الذي يؤكد دائمًا هشاشة هذه القيم أمام المجريات العامة في البيئة السكانية.




ليست هنالك فوارق كبيرة بين أنواع الرقابات المتنوعة، فجميعها تدعي حماية المجتمع، من زلات فرد ادعى أنه رأى الملك عاريًا، ولكن أسوأها على الإطلاق هي تلك الرقابة الشعبية، أو الرقابة الجماهيرية، التي تستطيب مناكفة المعرفة، وإيذاء منتجي الثقافة.

منصات البث الرقمي تمد لسانها بشماتة إلى أجهزة الرقابة العربية


فعلى الرغم، وخلال الخمسين سنة الأخيرة (وقبلها خمسون)، من عدم تأثر المجموعات السكانية العربية جماعيًا بأي منتوج ثقافي سوى الخوف ومنتجاته، فإننا نرى الرقابة الشعبية الخائفة هي الأخرى مستنفرة إلى ضبط وربط المنتج الثقافي وإنتاجه، غاضة الطرف عن البيئة التي ينتمي إليها هؤلاء المنتجون، ومواصفاتها، ومصالحها وحاجاتها. فبينما كانت الرقابة تثير أخبار الفنانة سما المصري (فقط كمثال)، وتقمعها وتنكل بها، تقوم جريدة "المصري اليوم" (صفحة الحوادث تاريخ 11 ـ 10 ـ 2020) بنشر حكاية "عنتيل الجيزة"، فاضحة الواقع الحقيقي للحياء العام وثوابته الأخلاقية. هذه المفارقة تحتاج إلى تفسير علني، أو إلى نظرة علمية (إحصائية على الأقل)، للنظر بحياد معرفي بارد يفصل الحقائق عن الافتراءات، علّنا نصل إلى فوائد الرقابة بشكل عملي واضح. فالفعلان المتعاكسان موجودان على منصة الإعلام، وعلينا الثقة بأحدهما. ليقودنا هذا التناقض إلى اقتراح البحث في تأسيس "علم الرقابة"، كفرع من فروع الطب الوقائي، حيث يمكننا خلال المئة سنة المقبلة وقف الانحدار الثقافي المؤسس لاجتماعنا البشري هذا، فالتجربة أثبتت أن الحياء العام لا علاقة له بحياة الفساد والإفساد التي نعيش. فهما متعايشان، وعلى أحسن ما يرام، ما يثبت أن الرقابة هي لزوم ما لا يلزم، إلا إذا كانت هنالك نوايا أخرى تتعلق بالتربية والتحكم والسيطرة.





في الأيام القليلة الماضية، دحرجت الرقابة الشعبية الى أحضاننا مجموعة من كرات اللهب، فها هو أحمد عبده ماهر مهدد بالسوق الى السجن لمدة خمس سنوات، ويكاد أن يتم اتهام فيلم "ريش" بالخيانة العظمى، والسيدة سميحة أيوب، والفنانة إلهام شاهين، قاربتا منع مسرحيتهما بسبب اسم المسرحية، وها هو هاني شاكر يهدد رزق مغنين ارتفعوا على أكف شعب الحياء العام، وكذلك أدين الممثل عبد المنعم عمايري، والممثلة كندة حنا، عن قبلة أدياها كشخصيات حكائية في فيلم سينمائي. كلها أمثلة، ضمن سيرورة واقع يفقأ عين هذه الرقابة، ويؤكد فشل مشغليها في أدائهم العام، فأداء "عنتيل الجيزة" (250 علاقة نسائية، وعدد ضخم من مقاطع الفيديو خلال سنتين) لا يشير إلى شذوذ فردي يمكننا إدانته كجريمة منفردة، أو حتى جماعية، ويمكننا تعداد آلاف الأمثلة، عن العناتيل والعنتيلات، وكذلك عن مجرمي الشرف، والمرتشين، والمتحرشين، والفاسدين، والأبطال المزيفين أيضًا.
تبدو الرقابة في عالمنا العربي، خصوصًا من خلال إعلاناتها عن نفسها عبر معاركها الجزافية، قد تجاوزت مسألتي المنع والسماح، فهي موقنة تمامًا أنها لا تستطيع السيطرة، فالسلوك البشري الناتج عن الثقافة حتمًا طالما تجاوزها في أدائه اليومي، سلبًا أو إيجابًا، حيث يمكننا وصف نشر رواية "أولاد حارتنا" بالعنتلة النشرية، التي تقابلها في أيامنا هذه وسائل التواصل الاجتماعي، ومنصات البث الإنترنيتي (مسلسل "جن" الأردني على نيتفلكس)، التي شكلت صفعات للرقابة، الشاعرة بالفخر كلما نالت صفعات أكثر، فهي مصرة (بيروقراطيًا على الأقل) بأنها على حق وصواب في آن معًا، بدلالة تلك الصفعات المهينة.
ربما من الواضح لدينا أن الرقابة هي جهاز تربوي يتجاوز الأحداث الصغيرة، مثل السماح والمنع، التي تترك لإثارة الجو العام، وصنع خلافات هيولية تتأسس عليها منتجات ثقافية اجتماعية (ولا أقول مجتمعية)، أقل وضوحًا، ما ينتج إنسانًا أقل تحررًا، وأقل حقوقًا وواجبات، فهي عمليًا تقوم بممارسة الإنتاج الثقافي على أنه نشدان للحقيقة التي تراها، لتصبح مهمة الرقابة أداة لتصنيع هذه الحقيقة ونشرها بالطرق التقنية المعروفة، يساعدها في ذلك انسحاب "مؤسسات" الفن والتعليم، التي انهارت خلال الصراع المفتعل بين الكم والنوعية، لصالح الاستهلاك كمعيار للرقي والرفعة.




وهنا لا بد من النظر في التعالي الحقوقي للرقابة، باعتبارها مشاركة للدولة في احتكار العنف، الناتج عن التناقضات الفاضحة في الدساتير نفسها، وكذلك بين الدساتير والقوانين، والقوانين في ما بينها، مما يفتح أنفاقًا ودروبًا واسعة لممارسة التعالي الحقوقي، بالاتكاء إلى هذه الثوابت كبدهيات ما قبل حقوقية، ونسف المساواة، كمؤسس رئيسي في حدوث المجتمع.
في الواقع، تبدو "أجهزة" الرقابة الرسمية، أو شبه الرسمية، غير قادرة على إلإنتاج الثقافي، حتى لا تتعرض للتهافت والسخرية، على الرغم من كل المحاولات، من طباعة ونشر، وأفلام، ومسلسلات وبرامج تلفزيونية، فما كان منها إلا أن لجأت إلى التحكم المسبق بهذا الإنتاج، أو تركه بين براثن الرقابة الشعبية الجماهيرية، لتتفهه وتشيطنه وتخونه، منتجة أسوأ ما في الثقافة من معاني تسقيها لعامة الشعب، من دون النظر في صفحة الحوادث، باعتبار أن هذه الصفحة "تربيتها" حسنة، ولا تنشر إلا عن الجرائم المعاقب عليها، قانونيًا وشعبيًا.
تتغطى الرقابات بغطاءٍ صغير عليها، فما إن تستر وجهها، حتى تنكشف قدماها، والرقابة برمتها عورة حقوقية، حسب مادة حرية الرأي والتعبير في الدساتير العربية.

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
4 مارس 2022
آراء
16 فبراير 2022
آراء
27 ديسمبر 2021
آراء
22 نوفمبر 2021

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.