}

العيش في الهامش..

نجيب نصير نجيب نصير 4 مارس 2022
يوميات العيش في الهامش..
جاسم محمد/ العراق



 

حسنًا.. في البدء كانت الكلمة.. وهي أخذ علم وخبر بوجود الأشياء.. منذ حضورها صارت من الحواس التي لا يمكن تجاهلها، صار لها معنى الكشف عن وجود.. وصار إلغاؤها أصعب بكثير من ولادتها مع دخولها دوامة المعرفة.

لا زلنا، نحن شعوب هذا العالم العربي، نعيش هاجس الهلع من الكلمة وعليها، على الرغم من تهافت قيمة الوعي لدينا، وتآكل مفاعيله ومخرجاته، وهذا يعني تمامًا إخراج الكلمة من مداراتها، بمحاولات قتلها ورميها على قارعة الأشياء التي لا تستحق الذكر.

إن المطل على المشهد الثقافي العربي، يلحظ تلك المعارك الجزافية تسيطر على تلك الصورة المنمّشة بالندم على الفرص الضائعة، دون أن نتعظ، أو يحلّ الوعي فينا، ما إذا كنا قادرين على الأخذ بأسباب الاستغناء عن الندم ومفاعيله القاهرة. وها هو ابن رشد وابن خلدون والكواكبي وطه حسين، ينظرون إلينا بحيرة تقارب اليأس، فهم لن يكونوا إلا ما كانوا عليه، ولن نكون إلا ما كنّا وسنبقى عليه.

ولا أقصد بالثقافة ومشهدها هنا تلك المنتجات الثقافية المكرسة من أدب وعلم وأبحاث، بل أرنو نحو تلك الثقافة المولدة للسلوك الاجتماعي ومنتجاته، فالمشهد يمور بالحركة والضجيج والقرقعة، إذ لا تخلو وسيلة إعلام من أخبار هذا الضجيج الناضح بما في هذه السكانيات من عنت وجهالة، تفضي بالضرورة إلى تهميش مصالح الحياة، والالتفات إلى ما هو جزافي خوض المعارك فيه وحوله، لنفي وجود "الكلمة" وإقصائها عن مواقع التأثير.

ملتبسًا وليس بخيّر هذا العالم الناطق بالعربية، تُخاض فيه معارك ويسقط فيها ضحايا، ينتصر فيه خاسرون، ويخسر منتصرون، ولا شيء يؤثر في فخرنا المتنامي بخصوصيتنا، ونجاحنا في الحفاظ عليها، على الرغم مما أنجزت من هزائم وفجائع ودماء، ندافع عنها بمعارك جديدة، بينما الزمن يمر علينا ونحن نغرق في العوز إلى كل شيء، بما فيه خيراتنا الطبيعية التي ليس لنا فضل في استثمارها.

إنها المعارك الجزافية التي تدور في كل ركن وزقاق، تستعيد نفسها في غفلة عن العالم، تجدّد نفسها بزهو الناجح المتألق. فلا نصحو صبحًا إلا وتداولنا أخبارها السقيمة، تخبرنا عن هشاشة ثقافة تنتج هكذا نوع من السلوك، فتصريح للأستاذ إبراهيم عيسى، أو ظهور سروال لشخصية سينمائية على الشاشة، قد يقيم الأرض ولا يقعدها، إخلاصًا لما عهدناه فينا من نجاح وارتقاء وإنتاج!، معارك بكامل العدة والعديد، تريد تصويب "الكلمة"، وإعادتها إلى حلق المتكلم وكأنها لم تكن، حيث يحضر الجزاف بعينه، وننتقل برمتنا إلى الهامش، حيث لا قيمة للضحايا المنتحرين بثقافتهم.

نردد أفعال الظلم التي تقع في حقنا، نستظهرها كأناشيد صباحية، ولكننا لا نبادر إلى نزع أخطائنا وخطايانا، كي نستطيع درء الظلم، كي نقول نحن لا نستحق ذلك، إذ كيف لـ"مجتمع" طائفي أن يقاوم الإسلاموفوبيا مثالًا أو يطالب بالمواطنة مثالًا آخر. لقد جلسنا عقودًا ونحن نؤثم الطائفية ونجرمها تنظيريًا، واثقين من أنها سرطان المجتمعات، ولكننا لا زلنا طائفيين بإمتياز، نزج أنفسنا في معارك بلا مصالح، معارك جزافية تقتل الجمال والقيم في داخلنا وخارجنا.

نرى في أنفسنا أننا لا نستحق الظلم الواقع علينا، وعلى من نعتبره ظالمًا أن يتراجع عن موقفه عائدًا إلى جادة الصواب التي ننسبها لثقافتنا الاجتماعية الهائمة في معاركها الجزافية، وترهاتها الركيكة، متناسين أننا من يقدم رقبته للمقصلة، بفسادنا وطائفيتنا وقلة إنتاجنا. ومع هذا فنحن مستمرون في إنتاج الانتحار، منتحلين صفة المجتمع الذي لا دليل عمليًا على قيامه. فأكثر من بلد عربي يواجه التقسيم، ولا إشارة منه تفضي لفعل أكثر من الفعل الذي واجه به سايكس بيكو، أو وعد بلفور، فليس من بنية ثقافية تستطيع حفظ التماسك، أو حدوث المجتمع، كضرورة لرؤية مصالح العيش والاستمرار.

في التاريخ كما في الحاضر، جاءنا الإستعمار غازيًا، ونحن قبلناه عمدًا أو جهالةً، وخضعنا في دواخلنا لمعاييره، مفضلين الأقدم على الأحدث، ساعين إلى استقلال هو جزء لا يتجزأ من احتلال، غرس في مفاصل جهالتنا أوتاده، فأقمنا احتفالات ثأرنا، في ساحات البلاد المسيجة بالقضبان، وأقمنا مآدب الجوع، وتغنينا بحرية لا نقبلها لأنفسنا. وضعنا على "الكلمة" ملايين الشروط كي تصلح للرمي في مزابل النسيان، لنخرج إلى عالم بلا شمس لأنها ليست لنا وحدنا، مشيدين هامشًا يصلح للتأوه والشكوى والتظلم.

هناك في الهامش، حيث تعيش الناس بلا بهجة أو دهشة أو اختراع، في ذلك الهامش تموت "الكلمة" بلا استفادة منها، تتحوّل البلاد إلى عالم من العبث، لن تتحول معه إلى أوطان.

 

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
4 مارس 2022
آراء
16 فبراير 2022
آراء
27 ديسمبر 2021
آراء
22 نوفمبر 2021

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.