}

الجمال والحرب

خيري الذهبي 10 ديسمبر 2022
يوميات الجمال والحرب
(عصام المأمون)

الجمال، كل جمال، ما هو إلا عبور زامن، ليس إلا... وما البشر إلا عبيد للزمن الماضي، الجمال في المرأة، في الرجل... في الوردة... في الطير... هو لحظة تمررها لنا الأم القاسية الطبيعة، وتقنعنا بأنها الخلود.
هل جنة المؤمنين والخلود في الجمال ليس إلا استجابة لديمومة اللحظة العابرة... الجمال؟
حين يصل الإنسان إلى رؤية الجمال غير المؤطر بالشهوة الحيوانية يكون قد وصل إلى الاتحاد مع كل جمال على الأرض، فالسمكة في انزلاقها في الماء جمال، وفي انتفاض جناح العصفور جمال، في ألوانه جمال، وتغريده الفائق جمال لا يصدق، والإنسان حينما يكون إنسانًا هو كل الجمال.
ولكن حين تكون غير قادر على رؤية الجمال إلا في الجنس الآخر، فهو شهوة الاستيلاد فقط.
وعن الجمال عندنا نقول إن الغريب أن جمال المدن الشامية، دمشق وحلب والقدس مثلًا، هو جمال داخلي، ولا يمكن رؤيته إلا لو سمحوا لك فدخلت إلى البيت لترى هذا الجمال الخاص.
في الغرب، يرصفون الجمال خارج المسكن، أو الاقامة، أو القصر... وكأنه معرض فني متاح لجميع المارة، ليتشاركوا به وفيه، بينما قيمة الجمال عندنا هي قيمة شخصية، وملكية فردية.
حتى الرجال من جميع الديانات، إسلام ومسيحية ويهودية، حينما كانوا يشيئون زوجاتهم، ويغطون جمالهن بالأقمشة والأحجبة فهذا يندرج تحت ذات القيمة، قيمة امتلاك الجمال، وحصره في الفرد فقط.
في الحرب العالمية الثانية، حاصر الألمان مدينة لينينغراد برًا وبحرًا وجوًا، وكانت هنالك تعليمات صريحة بعدم الاقتراب من مدرسة الباليه التي كانت تضم 200 طفلة.
ابتعد الألمان عن هذه المدرسة... بل إن الألمان كانوا يحملون للتلميذات الصغيرات الفيتامينات والبطاطين التي ترسلها بريطانيا، مع أنها حرب لا تعرف الرحمة، ولكن هذه الحرب لا تقضي على الحضارة، وبالتأكيد لا تقضي على الفن.
وكانت فرنسا قد أعلنت باريس مدينة مفتوحة، وإيطاليا أعلنت روما مدينة مفتوحة، أي أن القوات المعادية تدخلها صلحًا حفاظًا على التراث والجمال، وذلك خوفًا على آثارها ومتاحفها في الشوارع والميادين، فالمدن الأوروبية لم تصمم للحرب والقصف، بل صممت للإنسان، وإن كنا أشد دقة فليس هنالك في الأرض حرب من أجل الحرب، حتى الخنادق نرى النباتات تغزوها اليوم، لتضخ في ثناياها الحياة مجددًا.
في أثناء الحرب، كان هنالك اتفاق بين بريطانيا وألمانيا على عدم قصف جامعتي أكسفورد، وكمبريدج في إنكلترا، وجامعتي بتبجن، وهميولت، في ألمانيا. وقد احترم المتحاربون هذه الاتفاقيات التي تدل على أنه على الرغم من وحشية القتال فإن أحدًا لم يبلغ به الانحطاط أن يهدم عمدًا مدرسة، أو مشفى، أو متحفًا.
انتهت الحرب، وبقيت مدرسة الباليه، وكذلك أعظم متحف في الدنيا متحف الأرميتاج، الذي يضم 4 ملايين لوحة أصلية، حتى أميركا كانت تبعث عن طريق الصليب الأحمر طعامًا وملابس لراقصات المستقبل.
ولم يتساءل أحد أثناء الحرب، أو بعدها: لماذا أبقى الألمان على هذه المدرسة بمن فيها من مئات الفنانات الصغيرات؟
لا أحد نطق بهذا السؤال، لأنه من البديهيات احترام الفن، وحضارة الإنسان، وروعة الطفولة، وجمال الأداء. ولم يتلق الألمان الشكر من أحد على ذلك، لأنه لا شكر على واجب إنساني مقدس، فليست الفتيات الراقصات طرفًا في الصراع بين النازية والشيوعية.
إنهن فوق كل صراع، ولذلك فقد انهزم المتحاربون، وانتصر الفن والجمال.
وكذا الأمر لدينا، ستنتهي يومًا الحروب، وسيبقى الجمال الذي أنتجته الطبيعة، أم البشر، فلا تقسوا في حروبكم، ولا تنسوا أن الأجيال القادمة تملك حصة في الجمال من هذا العالم، فلنترك لها القليل.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.