}

سورية: زيت الزيتون والأنبياء

خيري الذهبي 26 ديسمبر 2022
يوميات سورية: زيت الزيتون والأنبياء
(لؤي كيالي)

يكفي النسطورية فخرًا أنها أنجبت أبو الفرج ابن العبري، بالسريانية "بار عبريو"، سيد مؤرخي وعلماء القرون الوسطى، وصاحب كتاب "تاريخ العالم" المكتوب بالسريانية، أو "مختصر تاريخ العالم" المكتوب بالعربية، وهو الشهادة المباشرة عن غزوة هولاكو المدمرة للشرق العربي.
وقد يظن البعض بأن ابن العبري من أصول يهودية مثلًا، ولكن حقيقة الرجل تكمن في أنه ينتسب إلى قرية عبره في تركيا اليوم، وهو مؤرخ سوري عظيم لا يمكن لأي باحث أن يؤرخ للغزوة التترية التي ذكرناها، أو أن يمر بتلك المأساة، من دون الحديث عن ابن العبري، الذي أرّخ لها وفندها، حيث ذكر أن الجيش المغولي كان على مذهب النساطرة المسيحي، والذي دان به كثير من آسيا المسيحية، حتى اعتقد لويس التاسع أن ملك الصين كان على المذهب النسطوري، فأرسل رُسلًا إلى خاقان الصين يطلب إليه عقد معاهدة بينه وبين الفرنسيين كي يتم تطويق العرب وهزمهم.
أما النساطرة فهو مذهب قد نشره الأشوريون، وهم سوريون استبدلوا اسم السريان بالأثوريين، وتم تحويلها في ما بعد إلى الأشوريين.
المذهب النسطوري الذي يقول: اللهو اللاهو، ومشيحو مشيحو، بمعنى أن الله هو الله، والمسيح هو المسيح، أي أن المسيح بشر، وليس ابن الله... وهو ما كان يعتقده ابن العبري الذي ألف كتابه عن الغزوة الهولاكية باللغة السريانية، ولما ضاق العلم على بعض المثقفين العرب، فطلبوا إليه أن يترجم ما كتب، ففعل بعد طول انتظار أن ترجم ملخصًا عن ذلك الكتاب الضخم، وفي مقدمة كتابه يتحدث ابن العبري عن مفارقة اسمه، مع الاعتقاد بنسبه العبراني، وينفيها ثم يردف في حديثه فيقول إن اسم الزيتون بالعبرية هو زيتيم، كما يتضح فإن الاسم هو جمع لكلمة زيت، ولذا يحق لنا اعتبار كلمة الزيتون العربية هي الجمع لكلمة الزيت المقدس السوري تاريخيًا، ومرتبطة بكلمة المسيح التي اشتقت من المسح بالزيت المبارك "زيت الزيتون"، وكان المسح طقسًا سوريًا يمسح به الكهنة الأبطال وكبراء الأمة، وكانت سورية هي المنبت الأول لشجرة الزيت المقدس، وبالتالي لفعل المسح القداسي.
كلمة الروم والرومي كلمة عجيبة تعامل العرب معها تعاملًا يشبه التعامل مع ابن العبري، فروما اللاتينية كانوا يسمونها "رومية"، وحين انفصلت روما الشرقية بيزنطا، التي ستحمل في ما بعد اسم القسطنطينية، عن روما اللاتينية، سماهم العرب بالروم، فلما اصطرعت المسيحية بين مونوفيزية تؤمن بطبيعة واحدة للمسيح، وبين نسطورية أريوسية تؤمن ببشرية المسيح، عمد الروم البيزنطيون إلى الدعوة لمناقشة هذه المسألة والاضطراب العقيدي في مجمع ديني، فانعقد مجمع خلقيدونيا في القرن الخامس، وصالح البيزنطيون الرؤى المختلفة لطبيعة المسيح بأن له طبيعتان، أرضية بشرية، وسماوية إلهية، وتبع كثيرون هذه الشريعة في روما اللاتينية، وفي القسطنطينية الرومية، وهكذا حمل مسيحيو الشام ممن آمن بإعلان خلقيدونيا اسم الروم، وهم عرب قبليون في أكثريتهم، ولكن اسم المذهب غلب عليهم. والمضحك أن العثمانيين حينما احتلوا الأناضول "قلب الأرثوذكسية" سماهم المسلمون بالروم، ومن هنا كانت لهم أسواق في كبريات المدائن العثمانية تحمل اسم سوق الأروام.
في القرن السادس الميلادي، أو ربما في نهايات القرن الخامس، ظهر مبشر مسيحي كان اسمه نسطور. تبعه كثير من المسيحيين، وكان نضاله الديني يعلن أن المسيح ليس ابن الله، بل هو رسول، أو نبي، يدعو إلى وحدانية الله، فقامت القسطنطينية بمحاكمته في مجمع ديني كبير للكهنة الكبار من المسيحيين، ورفضوا الرجل، وخلعوه من كرسي القيادة الدينية، ثم حكموا عليه بالنفي إلى مدينة في شمال غرب الأناضول. انتهى الرجل، ولكن مذهبه استمر وانتشر ما بين جنوب تركيا اليوم، وسورية والعراق، وانتشر بين السريان الذين تسموا في ما بعد بالأشوريين (الأثوريين). وقد توسع الأثوريون حتى وصل تبشيرهم إلى منغوليا، حيث كانت المجتمعات التي خرج منها الانفجار المغولي الكبير على أكثر من دفعة عبر التاريخ، فما أن تحتكم تلك السهول الآسيوية على القوة حتى تبدأ في التفكير بغزو المحيط القريب والبعيد، في ظاهرة غريبة، على العكس من فكرة بناء حضارة ذاتية خاصة... ومن هناك خرج هولاكو الذي اتجه إلى العراق، حيث دمر الدولة العباسية التي كانت قد تحولت إلى دولة من ورق، ثم أكمل غزوته في سورية التي سُلمت له تسليمًا.
وكانت أغلبية جيش هولاكو من الأثوريين الموحدين، بل كان قائد الجيش المغولي الذي هُزم في معركة عين جالوت أشوري المذهب اسمه كتبغا، وقد هزم على يد جيش المماليك المصريين بقيادة سيف الدين قطز.
وبالعودة إلى كتاب بار عبريو "ابن العبري"، فإن المسيحيين السوريين كانوا يدينون بالمذهب اليعقوبي السرياني، وهو مذهب انتشر بقوة في سورية، ولدى أقباط مصر ووادي النيل حتى الحبشة، والذي يقول إن السيد المسيح له طبيعة إلهية واحدة، بينما انتشر المذهب الأريوسي، وهو مذهب يقول إن للمسيح طبيعة واحدة هي الطبيعة البشرية... واصطدمت الفرقتان وتقاتلتا، واضطرب الأمن في سورية ومصر حتى تدخل القيصر بعقد مجمع مسكوني كما أسلفنا... فنشأت فئة جديدة تدعو إلى المسيح بطبيعتيه الإلهية والبشرية معًا... فاصطدم الثلاثة مجددًا، حتى وصول الجيوش العربية الإسلامية، وكان المسلمون يدينون بفكرة متضمنة في القرآن أقرب إلى الأريوسية في نفي ألوهية المسيح، والدعوة إلى وحدانية الطبيعة البشرية للسيد المسيح... فخمدت الحروب بين الفرق المسيحية في شرق المتوسط، وحدث أن عرّب عبد الملك بن مروان الدواوين، وضرب الدينار العربي، فشعرت الفرق المسيحية في البلاد الشامية بأن الدولة البيزنطية لن تعود إليهم، فاستكانوا إلى مذهبهم، حتى مضت السنون، وبدأوا بالانزياح مجددًا نحو المذهب الخلقيدوني الملكاني كي يميزوا أنفسهم عن القادمين الجدد، في حركة صراع فلسفي وديني وفكري لا تنتهي عبر التاريخ، ولو انتهت لفنيت البشر.
ما يهمنا من كل هذا هو أن البلاد بقيت كما هي، والأنهار فيها لا تزال تجري، وزيت الزيتون الذي مُسحت به جبهات الأنبياء لا يزال موجودًا في سورية بشمالها البارد وجنوبها الفلسطيني الحار... ولا تزال السريانية تنبض بهدوء في قلوب المؤمنين، مهما كان دينهم، سواء أكانوا أريوسيين مسلمين، أم نسطوريين، أم يعاقبة، أم أقباط، فالزيتون لنا جميعًا... وكل الشكر لابن العبري وكتابه الساحر.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.