}

فتاة المكتبة

محمد خلفوف 5 يوليه 2022
قص فتاة المكتبة
آنا بوليانسكايا، روسيا

 

 

رأيت فتاة انجذبت إليها بطريقة ما. حدث ذلك في المكتبة العامة. بشرتها بيضاء، شعرها أسود طويل، تضع نظارات، وتلف حول رقبتها وشاحًا رماديًا. سكنت عقلي منذ اللحظة الأولى، عندما رأيتها تقتحم هدوء المكتبة، حاملة دفترًا كبيرًا، وضعت بطاقتها على المكتب بجانب الباب، وتوجهت إلى رف وأخذت تبحث... وفكرت فيها طويلًا، طويلًا جدًا، وحاولت أن أفتح معها حوارًا.. لكنني، وكالعادة خجلت.

في المرات القليلة التي رأيتها هناك، في المكتبة، لم أستطع قول كلمة واحدة.. كنت أكتفي فقط بالنظر إليها وهي تتصفح الكتب، وتكتب الملاحظات على الدفتر... لم تشعر بنظراتي لها. لم أكن أعرف تخصصها. وبحثت عنها لأيام في الجامعة حيث أدرس: كلية الآداب، كلية الحقوق، كلية العلوم.. لكنني لم أعثر لها على أثر.

كنتُ أذهب إلى المكتبة فقط لأراها، وهي تتصفح الكتب، ثم وهي تجلس في طاولة ـ غالبًا ما تكون بجوار النافذةـ وتبدأ في الكتابة على دفترها السميك، تضع علامات بالقلم الفوسفوري.. تجلس لمدة ساعة، ساعة ونصف الساعة، ثم تغادر المكتبة. مرة واحدة غادرت القاعة إلى المرحاض وعادت مرة أخرى. وفي إحدى المرات تشجعت، وتبعتها حتى محطة الباص، وقفتُ بعيدا عنها وأخذتُ أراقبها وهي تقف منتظرة.. حتى جاءت الحافلةـ ركبتها وغادرت.

حاولت لفت انتباهها أكثر من مرة. ارتديت حذاءً أسود، ثم آخر بنيًا، ثم استبدلت البني بحذاء رياضي... سترة، ثم بلوزة بسحاب... وضعت أيضًا وشاحي الأحمر... ولكن بلا فائدة. لم أكن أعرف اسمها، لذلك منحتها الكثير من الأسماء: رانية، سناء، أسماء، أميمة، مريم، بسمة، إيمان، مروة، هدى... لم أكن أعرف عنها شيئا، ولا هي تعرف عني شيئًا... كنا مجهولين لبعضنا.

تخيلت أنني أتسكع معها في الشوارع، وأننا نجلس في مقهى ونشرب القهوة بالحليب، وأننا نتراسل على الفيسبوك... تخيلت أنني أقبلها القبلة الأولى: في درج المكتبة، عند زاوية مظلمة وسط الكتب، في حديقة تحت شمس الربيع...

يا حبيبتي! يا ذات العينين الساحرتين! أنظري.. أنظري إلى السماء، إلى القمر، إلى الشمس، إلى الأموات في الشوارع والمقاهي، أنظري إلى أوراقي، أنظري إلى كتبي، إلى كلماتي التي لا يريد أحد قراءتها، أنظري إلى وجهي... أمسكي يدي ولا تتركيني، فإنني أريدك معي...

تخيلت أننا تعارفنا، وأن عقدة اللسان زالت، وأنني أخذتها إلى شقتي، وأن أمي في غرفتها وقد أغلقت عليها بالمفتاح، أعدّ لها قهوة مُركزة، وأًشغل الموسيقى، وأريها غرفتي: هنا أنام، هنا أقرأ وهنا أكتب، وهنا أحلم... وبعد ذلك رقصنا، وضعت يدي على خصرها وأمسكت يدها ورقصنا... تخيلت أنني أضاجعها، وأن جسدي يذوب في جسدها، وأننا عاريان إلا من صدقنا ونظارتينا... وأننا ـ بعد الجنس- نتحدث طويلًا، دون أن نحس بالزمن والعالم من حولنا... هذا ما كنت أرغب فيه.

رأيتها لمرات قليلة. سبع أو ثماني مرات.. دون أن أقول لها كلمة واحدة. لكنني كتبت قصيدة، وعندما انتهيت منها أعدت كتابتها على ورقة زهرية بقلم حبر أسود داكن... كتبت الحروف، وصففت الكلمات بجانب بعضها بعناية على الورقة... وبحثت عنها في المكتبة، انتظرت أن أراها، يومًا بعد يوم.. سأقول: "اقرأي هذه القصيدة فقط.."، كنت سأقول هذا فقط... لكنها لم تأتِ. وأنا أحمل الورقة الزهرية مطوية داخل كتاب. لم أرها مجددًا، ولا أعرف أين ذهبت: أنهتْ بحثها؟ سافرتْ؟ تزوجتْ؟ ماتت؟

كأنها طيف عبر حياتي، واختفى إلى الأبد...

 

*كاتب من المغرب.

مقالات اخرى للكاتب

قص
5 يوليه 2022
قص
8 يونيو 2022
قص
6 أغسطس 2019
قص
12 يونيو 2019

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.