}

محرقة غزة تعيد تصحيح الوعي

راسم المدهون 9 ديسمبر 2023
سير محرقة غزة تعيد تصحيح الوعي
(طالب دويك)
لم يحدث مرة أن أخذت مسألة "الرواية" الحقيقية للصراع الأهمية الأكبر كما هي حال قضية فلسطين من بين عشرات، بل مئات، من قضايا الشعوب التي عاشت مراحل من تاريخها كانت فيها تعاني من الاستعمار المباشر في العصر الحديث.
الرواية "الأصلية" للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي ليست قضية جانبية، وهي أيضًا ليست ثانوية، أو هامشية، يجوز تجاوزها والاستغراق في آلاف التفاصيل التي وقعت بعد ذلك، أعني بعد البدايات الأولى، بما هي عناصر ومفردات للحكاية، أو كما نحب أن نسميها الرواية الأصلية والحقيقية.
أهمية هذه الرواية الأصلية تنبع بالذات من بدايات القضية: جوهر ما حدث في فلسطين كان ولم يزل استعمار البلاد وطرد سكانها ومواطنيها الشرعيين، وإحلال "شعب" آخر مكانهم، وهي مسألة غير مسبوقة اقتضت بالضرورة، بل بالحتم، تزوير الرواية، بما يعني تزوير التاريخ والحقائق التاريخية، وخلق "تاريخ آخر" لسكان آخرين قيل منذ تلك البدايات الأولى إنهم "كانوا هنا" قبل ألفي سنة، وها هم يعودون إلى "وطنهم" بكل ما تعنيه هذه "العودة" من اقتلاع للسكان الأصليين، وتهجيرهم خارج البلاد، وإزالة كل ما ينتسب لوجودهم المتواصل عبر التاريخ من أوابد، ومن أشكال حضارة، جعلت المحتلين لا يكتفون بسرقة الأرض والبيوت والمدن والقرى، بل يمتد للسطو على العادات والتقاليد والموروث الشعبي والفولكلور والأكلات الشعبية، كما على الأزياء والرقصات الشعبية، في محاولة غاشمة وقهرية لإكساب الغزاة الجدد صورة "أصالة" يمكن أن تربطهم بالبلاد التي يزعمون الانتماء إليها. هي عملية تزوير مركبة، بل بالغة التركيب، بحيث تنضوي في سياقها عشرات آلاف المفردات التي تطاول مناحي الحياة وعناصرها وأشكالها كافة، لتقتضي بالضرورة أن يترافق هذا التزوير بأعنف حالات القمع، أملًا في إنجاح هدف طمس الشعب الأصلي، ومحو آثاره الدالة عليه.
عقود النكبة الفلسطينية، وما بعدها، هي عقود من الجهود الكبرى التي بذلتها القوى العالمية المساندة لإسرائيل، وصاحبة المشروع من أساسه، لخلق شرعية وجود تجعل من الدولة الإسرائيلية حقيقة مسلمًا بها في العالم، وهي في ذلك استخدمت كل السبل والوسائل الممكنة، خصوصًا تلك التي تخاطب العقل بأدوات الفن والإعلام، ومنها السينما، ومن بعدها التلفزيون، وإلى جانبهما الصحافة الكبرى، ناهيك بالطبع عن المساندة المادية المباشرة وغير المباشرة بأحدث الأسلحة، والمساندة بالدعم في الأمم المتحدة، وخصوصًا في مجلس الأمن الدولي.
ذلك كله بات اليوم في حالة أخرى مختلفة بالذات بعد "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، والذي واصل الإعلام العالمي في مرحلة الحرب الأولى دعمه بلا حدود للعدوان الإسرائيلي، متبنيًا الموجة الأولى من أكاذيبه عن جرائم ارتكبها الفلسطينيون في حق الأطفال والنساء، ليرتطم بعد تلك الأيام بنجاح "الإعلام الموازي" في الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في إلحاق هزائم متلاحقة لوسائل الإعلام العالمية الكبرى المساندة لإسرائيل، وإجبارها على التراجع خطوات عن أكاذيبها الأولى.
وسائل التواصل الاجتماعي في العالم كله شكلت كاشفًا ضوئيًا هائلًا دفع الملايين من الأميركيين والأوروبيين إلى النزول إلى الشوارع، والتنديد بالمذابح والإبادة الكبرى التي تعرض لها مواطنو قطاع غزة الصغير والمحاصر، وفوق ذلك سلط الضوء على حقيقة ما يعيشه الفلسطينيون من حصار، والأهم من هذا وذاك أنه أعاد أسئلة الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي إلى البدايات الأولى، حيث تقع هنا أصول الصراع وحقائقه.
خطورة تغييب الرواية الأصلية للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي طيلة العقود التي أعقبت نكبة عام 1948 هي في نجاح المحتلين ـ مدعومين من آلة السياسة والإعلام الغربي ـ في "تشريع" الدولة الهجينة، واعتبارها "حقيقة دولية"، سواء تعلق الأمر بعضوية الأمم المتحدة، وما يتفرع منها من منظمات دولية، أو حتى اعتبارها حقيقة لا يجوز الدعوة إلى إعادة النظر فيها. لقد ظلَ الفلسطينيون يعانون خلال العقود الماضية من تصوير الغرب لكفاحهم الوطني باعتباره عدوانًا على دولة شرعية تنضوي في صف المجتمع الدولي.




ولعل هذا السبب بالذات هو الذي دفع أوساطًا فلسطينية نافذة إلى محاولة "التناغم" مع الشرعية الدولية من خلال الموافقة على القبول بدولة في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة، وهي المساحة التي لا تزيد على 22 في المئة من فلسطين الانتدابية في سعي لاكتساب شرعية دولية للكفاح الفلسطيني، والحصول على اعتراف دولي بفلسطين، وهو سعي اصطدم دائمًا بحقيقة أن الاعتراف بفلسطين (حتى منقوصة) كان عمليًا الاعتراف بالنقيض الطبيعي والشرعي للوجود الاحتلالي الإحلالي، خصوصًا أن كل ما تعرَض له الشعب الفلسطيني طوال العقود الماضية فشل في ثني الفلسطينيين عن مواصلة التمسك بحقهم في العودة إلى مدنهم وقراهم التي هجروا منها في حرب 1948 وبعدها.
يمكن رؤية كثير من التأثيرات العميقة التي أحدثتها وقائع السابع من أكتوبر وما بعده في حالة الارتباك الكبرى التي يعيشها اليوم قادة الدولة العبرية والناطقون باسمها، خصوصًا في فجاجة التصريحات العنصرية التي أطلقوها منذ بدء العدوان، والتي عكست ولا تزال رؤاهم ونظرهم الفكري والسياسي الذي تأسس على التمييز العنصري، وعلى الدعوة إلى إقامة دولة يهودية تنفي من صفوفها حتى مواطنيها الفلسطينيين الذين يحملون جنسيتها، ويمكن رؤية كثير من تلك التصريحات العنصرية في الدعوات الصريحة لتهجير مواطني قطاع غزة إلى صحراء سيناء، ومواطني الضفة الغربية إلى الأردن، ناهيك عن التصريحات العلنية لوزير في حكومتهم دعت إلى ضرب غزة بقنبلة ذرية، فيما اقترح زميل آخر له مهاجمة فلسطينيي غزة بالجراثيم، ونشر الأوبئة في صفوفهم للتخلص منهم. هذا كله يشكل في تقديري عودة إلى البدايات الصحيحة، فالعالم الذي يعيش اليوم مآسي الفلسطينيين يرى بأم عينه محرقة العصر الراهن بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولكنه هذه المرَة على أيدي من يتحدثون اليوم عن محرقة الحرب العالمية الثانية.
حقائق جديدة تقترح أفقًا جديدًا لرؤية ما يجري في فلسطين: هل يمكن في عالم القرن الحادي والعشرين مواصلة السياسة العالمية بالوسائل والأساليب التقليدية بكل ما حملته من ظلم وإجحاف بحق الفلسطينيين كشعب؟
هو سؤال الراهن والقادم معًا، وأعتقد أن هذه البداية الجديدة هي من ستجعل إلحاق نكبة جديدة بالشعب الفلسطيني أمرًا بعيدًا عن منال وتمنيات الصهيونية العالمية وإسرائيل معًا، لأن بدايات الوعي العالمي بالحقيقة سيتكفل في تحرير البشرية قاطبة من هيمنة الرواية الصهيونية للصراع، وإظهار إسرائيل كما هي في الواقع، قاعدة متقدمة في الشرق للدول الاستعمارية الكبرى. ولعلنا نتذكر أن الرئيس الأميركي جو بايدن قال صراحة في بدايات الحرب على غزة عبارته الشهيرة: لو لم تكن إسرائيل موجودة لأوجدناها.
نشير في هذا المجال إلى وعي متزايد وذي أهمية كبرى بدأ يتصاعد في أوساط يهود العالم، وخصوصًا في الولايات المتحدة، وعي عنوانه الأهم التبرؤ من ممارسات إسرائيل، وإعلان صوت صريح يدينها ويطالبها بالكف عن ادعاء تمثيلها لليهود. هو صوت يعيد للعالم فكرة التعامل مع اليهود و"المسألة اليهودية" بعقلانية الفهم والتداول، وبما يسهم في تحرير الإرادة البشرية على مستوى العالم من قبضة الرواية الصهيونية التي تقدم رواية لما حدث لليهود في الحرب العالمية الثانية على أنه "تفسير مقدس" ينبغي تأثيم من يخرج عنه، أو يشكك فيه، أو على الأقل مناقشته بعقلانية. خطورة مظاهرات اليهود في الولايات المتحدة، وبالذات يهود نيويورك، تبدو اليوم ذات تأثير كبير، لأنها تأتي من التجمع الأكبر لليهود في العالم، التجمع الذي شكل باستمرار دعمًا لإسرائيل في الدولة الأقوى في العالم.
غزة التي لا تملك مساحة كبرى، والتي تتعرض لمحرقة دامية منذ السابع من أكتوبر، هي التي ستسهم بدم أبنائها، ضحايا العدوان، في إعادة تصحيح السياسة الدولية، بما في ذلك إعادة نظر الشعوب الأوروبية في حكوماتها وقادتها وسياسييها، وهي التي ستعيد تصحيح الوعي في صورة صائبة بالرواية الأصلية للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي ليقف على قدميه فعلًا، وليس على مقولات كاذبة ومختلقة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.