}

الغربة

طارق عباس زبارة 18 يونيو 2023
يوميات الغربة
(محمد سبأ)
هنا وهناك
جاؤوا من هناك، تركوا البراري والمواشي بعد أن زحف الجوع إليهم، وبدأ سوس الفقر ينخر بيوتهم ويأكل أزهارهم. جاؤوا من هناك إلى هنا. تركوا ملابسهم الفضفاضة، ونعالهم الواسعة، واستبدلوا بها: ضيقة؛ ضيقة مثل بيوتهم هنا، والتي لا تشبه بيوتهم هناك. أخذوا معهم آلهتهم وأطياف ماضيهم ووضعوها في بيوتهم هنا حتى اكتظت، ولم يعودوا قادرين على التحرك من دون أن يصطدموا بها. هنا لا يخرجون من بيوتهم كثيرًا، فالناس والشوارع لا تشبه شوارع وناس هناك. وإن خرجوا تذرعوا بكل ما لديهم من هناك كي لا يبعدهم شيء من هنا عن آلهتهم وأطياف ماضيهم من هناك. يخافون على أطفالهم، يخافون أن يسحب "هنا" أطفالهم بعيدًا عنهم إلى عالم لا يشبههم ولا يشبه "هناك". يخافون من أطفالهم الذين يتكلمون بلغة "هنا"؛ حتى ولو بكلمات "هناك". يخافون أن يرمي أطفالهم الآلهة وأطياف الماضي إلى مزبلة التاريخ، كي يعيشوا في حيز أوسع منهم؛ كي يمتلكوا براري "هنا"، ويحلموا بها وتتلاشى رويدًا رويدًا براري "هناك" في ذاكرة أطفالهم، فيقفوا أمامهم، غاضبين في البداية، وحائرين في النهاية.
ومنهم من عاد إلى هناك، بعد أن شابت رؤوسهم، وضعفت أجسادهم. لكنهم لم يجدوا الـ"هنا" في ذلك الـ"هناك"، فذاك الـ"هناك" تغير دونهم، وأصبح لا يشبههم، فيقفون؛ محملين بآلهتهم وأطياف ماضيهم، أمام الـ"هناك" الغريب، ضائعين، من دون مأوى، ومن دون أي "هنا" يمتلكونه.

الخادمة
كانت تعيش في الجنة، بين أشجار المانجو والخضرة الأبدية. كبرت وأرادت أن تكسب رزقها، لكن رواد الجنة قالوا لها أن تذهب إلى الجحيم؛ فذهبت.
قدمت أوراقها، وانتظرت في طوابير طويلة، دفعت أموالًا كثيرة، ثم ـ أخيرًا ـ جاءت الموافقة من الجحيم لتعمل هناك.
وصلت إلى البلاد القاحلة، بلاد الرجال البيض والنساء السود، بلاد اللحم بالأرز، والأرز باللحم. وهي بينهم؛ بلا لون، شبح شفاف بلا هوية، تعد لهم طعامهم، تنظف بيوتهم، تربي أطفالهم، تلبي طلباتهم.
وهم؟ هم لا يبالون؛ لا يعرفون شيئًا عنها، عن الجنة، عن اسمها الجميل المعنى الذي لا يقدرون على نطقه، هم الجهلة، لا يهمهم سوى المال والمكانة.
يخوضون بشغف في تفاصيل الناس، حياتهم مرفهة، ولكنها تافهة، عديمة الروح، لا يرون ولا يفهمون إلا ما يشبههم.
تحملت الجحيم، وأرسلت المال إلى الجنة، كي يعيش أهلها، كي تبني لنفسها مستقبلًا عندما تعود. ثم عادت، بالحقيبة نفسها التي جاءت بها، ومن الطائرة ألقت آخر نظرة على الجحيم تحتها، متمنية من كل قلبها ألا تعود إليه أبدًا…

لا فرق
كان يوسف، وأصبح جوزف.
استبدل ثمانية وعشرين حرفا بستة وعشرين، وصار يكتب من الاتجاه الآخر.
قالو له إن عليه أن يحب السلاح؛ فالسلاح علامة الرجولة والحرية.
قالوا له إن عليه أن يؤمن بالله، أن يعتنق الدين الصحيح، أن يزور المصلى يوم إجازته، وإن لم يفعل فلا مكان له بينهم.
قالوا له إن عليه أن يجني المال دومًا، وإن لم يستطع فلن يساوي شيئًا.
قالوا له إن عليه أن يتحاشى الغرباء، وألا يثق في غير أهل ملته ولون جلده.
أكان ذلك في العالم الجديد، أم القديم؟...
لا يتذكر.

*كاتب من اليمن.

مقالات اخرى للكاتب

قص
22 سبتمبر 2023
يوميات
18 يونيو 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.