}

الجنود

طارق عباس زبارة 22 سبتمبر 2023
قص الجنود
(محمد سبأ)
‏لم يكن ماهر قد استيقظ من نومه تمامًا عندما ‏فُتحت الزنزانة. ولج الحارس ومعه رجل نحيف ضئيل البنية، شعره الطويل ملفوف خلفه كذيل حصان، بشرته ناعمة، يبدو عليه أنه يعيش، أو عاش، حياته، متمتعًا بقدر كبير من الرفاهية.
ـ "هذا زميلك الجديد. سيشاركك الغرفة". قال الحارس بنبرته الروتينية، ثم أدار ظهره للاثنين وأغلق الباب الحديدي الثقيل وراءه.
نهض ماهر وجلس على حافة سريره. بدأ يتفحص الدخيل في إمعان.
"من هذا الفتى الهزيل؟!... لماذا يريدون أن يشاركني هذا في الزنزانة؟ لو كنا في الميدان وظهر أحد من أمثاله فلن يعيش عندنا أيامًا ثلاثة".
كان ماهر رجلًا قوي البنية، عريض المنكبين، يزن قرابة مئة كيلوغرام. كانوا في الكتيبة يدعونه "القبضة الحديدية"، إذ كانت ضربة واحدة من يده اليمنى تكفي لترسل أي رجل إلى العالم الآخر.
تقدم الشاب الهزيل بخطوات واثقة إلى حافة السرير. مد يده ليصافحه وقال مبتسمًا:
ـ "حليم".
ـ "ماهر". أجابه الآخر من دون أن يتحرك من حافة سريره.
ـ "ليس مظهرك هزيلًا فقط، بل اسمك كذلك"، دار في خلد ماهر.
ـ "سمعت عنك كثيرًا. قاتلت في العراق، وسورية، واليمن. قبضوا عليك في ليبيا وأرسلوك إلى هنا، أليس كذلك؟".
هز ماهر رأسه قليلًا مؤيدًا أقوال حليم "لا بد أنه مخبر مدسوس، يجب علي الحذر"، دار في باله.
ـ "وأنت بالتأكيد لم تسمع عني شيئًا"... استطرد حليم.
لوى ماهر شفتيه، وهز رأسه نافيًا.
ـ "أنا مثلك جندي، وألقوا القبض عليّ حديثًا".
نظر إليه ماهر رافعًا حاجبيه. أراد أن يقول: "كيف يمكن لهذه الخرقة أن تكون جنديًا؟!"، لكنه تمالك نفسه. لم يكن يريد أن يبدأ شجارًا. ومع أنه احتقر حليمًا من أول لحظة، إلا أن الفضول الذي سببه ملل السجن دعاه إلى الحديث معه، فسأله باستهزاء:
ـ "وأنت! أين قبضوا عليك؟".
ـ في الكازينو، في مونت كارلو، على طاولة القمار".
ـ "مونت كارلو؟ ألم تقل قبل قليل إنك جندي؟! لم أسمع بحرب تخوضها مونت كارلو...".
ـ "توقعت في الحقيقة هذا السؤال منك".
ـ "ماذا تقصد عندما تقول (منك)؟". سأله ماهر وقد بدأت تظهر على وجهه علامات الغضب.
ـ "أنا آسف، لم أرغب في الإساءة إليك. كل ما كنت أريد قوله هو أن سؤالًا مثل هذا متوقع من جندي حارب في جيش تقليدي، وبالأسلحة التقليدية".
ـ "آه، أنت خطير إذًا. هل تستخدمون أسلحة كيماوية ونووية في جيشكم؟". قال ماهر ساخرًا.
ـ "لا، لا، هذا ليس ما أعنيه. أعني أن مفهوم الجيش يختلف عندي وعندك...".
ـ "الجيش هو الجيش منذ آلاف السنين"، قاطعه ماهر.
ـ "لا شك في ذلك، لكن أساليب الحروب تطوّرت على مر السنين، بل تغيرت جذريًا عن السابق. الأسلحة والمعدات الموجودة حاليًا لم يكن لها وجود في العصور السابقة".
ـ "لم تقل شيئًا جديدًا. كل حمار يعرف ذلك"، أردف ماهر.
اقترب حليم من السرير، وقال:
ـ "أراك تفضل النوم على السرير الأسفل، سآخذ السرير الأعلى إذًا".
هزّ ماهر رأسه موافقًا، فقذف حليم حقيبته إلى أعلى السرير وابتعد بخطوات خفيفة إلى الخلف ثم اتكأ بظهره على حائط الزنزانة المواجه للسرير، الذي كان ما زال يجلس عليه ماهر، ليواصل الحديث معه.
ـ "اسمح لي أن أستطرد...".
ومن دون أن ينتظر من ماهر أي رد، واصل حليم حديثه قائلًا:
ـ "أنا أقصد أن دور الإنسان في الحروب تغير. أصبحت التكنولوجيا تقوم بالعمل الشاق بدلًا منه، فإذا كنا في العصور القديمة في حاجة إلى جيش كامل ليستولي على قلعة ما، نكتفي اليوم برجل واحد يضغط على بضعة أزرار على حاسوبه، وبضربة محددة يستطيع أن يقتحم عشرات القلاع، من دون أن يخرج من الغرفة، ومن دون أن يعرض نفسه للخطر".
ـ "إذًا أنت من هؤلاء الجبناء الذين يرسلون الطائرات من دون طيار لقتل من يرونهم أعداءهم، من دون محاكمة، أو سابق إنذار؟"، قال ماهر وقد اكفهر وجهه.
رفع حليم سبابته إلى الأعلى، وقال:
ـ "لا، أنا لست من هؤلاء، الحرب التي نخوضها نحن هي أكثر نخبوية: هي حرب الحروب".
ـ "ماذا تقصد؟"، سأله ماهر.
ـ "أنا أقصد الحرب..."، ووجَّه حليم سبابته إلى صدغه، وأضاف: "... التي تبدأ هنا...."
ثم واصل بنبرة قوية:
ـ "أقصد الهيمنة على المعلومات".
ـ "أنت تشتغل في الرقابة إذًا؟".
ـ "لا، أبدًا. الهيمنة عن طريق الرقابة موضة قديمة. في عصرنا نعتمد على أساليب أكثر حداثة، أهمها استغلال الكسل، هذه أفضل طريقة لتسيير الإنسان، فإذا كانت الأنظمة الدكتاتورية في السابق تعتمد على منع الكتب والمجلات، فالأنظمة الدكتاتورية الحديثة لا تكترث لذلك كثيرًا، بل تركز على السيطرة على قنوات التلفاز مدركة أن معظم سكان البلاد سيلجؤون إلى الشاشة لتلقي المعلومات اليومية. تدرك أن القليل من النخبة فقط هم من يقرؤون أو يستمعون إلى قنوات أجنبية تذيع ما يختلف عن رأي الحكومة، وكون هذه القنوات تبث بلغة أخرى غير لغة شعوبهم، فهم لا يهتمون بما يقال فيها. المشكلة تكمن في القنوات التي تبث بلغة الشعوب من أماكن خارج سيطرة الحكومة، وفي الإنترنت طبعًا، هذه نقاط الضعف التي تحتاج إلى جنود النخبة للدفاع عنها".
ـ "إذًا، أنت تعمل في الرقابة على الإنترنت والتشويش على القنوات؟".
ـ "لا، هذا ليس ما نقوم به، اختصاصنا هو الهيمنة، لا الرقابة".
ـ "وما الفرق؟".
ـ "الفرق كبير! نحن لا نمنع المحتوى عن المشاهد، بل نقلل من رغبة المشاهد في رؤيته".
ـ "ماذا تقصد؟".
ـ "حاول أن تتذكر الدخول إلى يوتيوب، ستجد أفلامًا مشابهة للأفلام التي شاهدتها في السابق. وإذا بحثت عن معلومة ما سيعرض يوتيوب عليك معلومة من قناة قريبة في المحتوى من الذي تبحث عنه عادةً. ومع أنك قد تستفيد أكثر إذا بحثت عن محتويات أخرى، وتزيد بذلك ثقافتك العامة، وقدراتك على المقارنة، إلا أن البرنامج التسويقي لا يريد أن يخاطر بأن يعرض عليك معلومات قد لا تعجبك. وبذلك، لا سمح الله، تخرج من القناة وتتوقف عن الاستهلاك الذي سيؤدى إلى خسائر مادية للقناة. لذلك سيبذل البرنامج التسويقي كل جهده كي تشعر بالرضى عندما تتصفح يوتيوب معتقدًا أن العالم بأكمله يفكر مثلك. البرنامج التسويقي يتركك تسبح سعيدًا في فقاعة المعلومات الخاصة بك، نحن نكتب برامج من هذا النوع للحكام كي نبقي مواطنيهم في تلك الفقاعات سعداء إلى الأبد....".
نظر إليه ماهر وقد بدت عليه علامات فقدان الرغبة في الإصغاء إلى تحليلات حليم الطويلة، لكن حليمًا واصل شرحه:
ـ "وإن لم ينفع هذا الأسلوب فلنا أسلوب آخر أكثر فعالية".
بدأ الفضول والتركيز يعودان إلى ماهر، فسأل:
-"وما نوع هذ الأسلوب؟".
ـ "التضليل الإعلامي".
ـ "التضليل الإعلامي؟! تقصد الكذب؟"، قال ماهر بنوع من المرح.
ابتسم حليم سعيدًا لأنه كسب انتباه ماهر مجددًا، فاستطرد:
ـ "الإعلام الكاذب يغيّر حقيقة ما لصالحه، أو ينفيها، بينما التضليل الإعلامي الذي نقوم به يفوق ذلك بكثير، بالتضليل الإعلامي نستطيع اختراع أي خبر، ونشره إلى الملايين في أقل من 24 ساعة. بكل سهولة نطلق جيوشًا من المعلقين الافتراضيين عبر شبكة الإنترنت الذين لا وجود لهم في الحقيقة، نرسل الصور المفبركة عبر واتساب، الجميل هنا أن لا أحد يعرف مصدرها، ولا أحد يكلف نفسه بالتدقيق إن كان ذلك يمت للحقيقة بصلة أم لا، ما دام الخبر منشورًا فلا بد أن فيه شيئًا من الحقيقة. أعلم أن كثيرًا من التعليقات التي تقرؤها على فيسبوك مجرد إنتاج برامج إلكترونية... لدينا جيش كبير جدًا، آلاف الأسماء تتكلم بلغات عديدة، وكلها مصدرها برنامج واحد يرتب الكلمات مثل قطع الشطرنج".
أراد ماهر أن يغير مجرى الحديث ليوقف سيل الاستطرادات النظرية، فسأل حليمًا:
ـ "وكيف أمسكوا بك؟!".
ـ "عملت لصالح حاكم إحدى الدول لإطلاق حملة تضليل إعلامي على رئيس المعارضة، عندما كان ذلك مرشحا للرئاسة. لم أتوقع أن ابن الكلب سيفوز ويكشف أمري".
ـ "ولماذا سجنت هنا إذًا؟!".
ـ "لأن الحاكم الجديد لا يريد الفضائح في بلاده، لذلك كان يلزم علي أن أرتكب جريمة ما في بلد ما يستطيعون بها مطاردتي عبر القارات، وإرسالي بموجبها إلى هنا".
ـ "وماذا فعلت؟"، سأل ماهر باهتمام.
ابتسم حليم بمكر، وقال:
ـ "يبدو أنك لم تستمع جيدًا لما قلت لك قبل قليل، المهم لمن أمسكوا بي أن توجد جريمة تناسب العقاب، وليس العكس".
ـ "ألا يهمك أن تعرف بماذا دانوك؟!".
ـ "لا، أنا أعرف اللعبة جيدًا. بالنسبة لي انتهت اللعبة".
ـ "تبدو مرحًا رغم ذلك".
ـ "لأنهم لن يمسكوا بي أبدًا. ما زلت قادرًا على أخذ زمام الأمور في يدي إن حدث الأسوأ".
ثم أخرج حليم من جيبه كبسولة وقال:
ـ "هذه كبسولة سيانيد. أستطيع أن أقرر يوميًا أن أواصل اللعبة أو أتوقف".
ـ "أليس الانتحار من سمات الجبناء؟!"، قال ماهر بابتسامة لئيمة، وأضاف: "أين جيوشك يا قائد؟".
ـ "إن التفكير في الانتحار تعزية قوية، فهو يسهل عليك التغلب على أكثر من ليلةٍ رديئة، كما قال نيتشه. وما يخص جيوشي فهي ما زالت تحارب، فكما ترى، أنا ما زلت حيًا".
لوى ماهر شفتيه مرة أخرى، وهز رأسه قليلًا، ثم فكر: "ما هذا الرجل الغريب الذي يتحدث عن الانتحار وكأنه نزهة؟".
وفجأة سمع الاثنان صوت الحارس يفتح الباب. دخل وقال بالبرودة المعتادة:
ـ "حليم، جاء من يرغب في رؤيتك".
تحرك حليم بخفة إلى السرير، مد يده إلى ماهر وصافحه من دون أن ينبس بكلمة، وخرج مع الحارس صامتًا من دون أن يستدير.
بعد قليل، عاد الحارس بمفرده. اتجه إلى السرير، وأخذ الحقيبة من أعلاه.
نظر إلى ماهر، ومن دون أي مقدمات، قال:
ـ "نقلوه!"
كان ذلك آخر ما سمع عن حليم.

مقالات اخرى للكاتب

قص
22 سبتمبر 2023
يوميات
18 يونيو 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.