}

زر قبر الحبيب مرة

زياد بركات زياد بركات 27 سبتمبر 2023
سير زر قبر الحبيب مرة
سراب الصفدي، سورية

 

كان يجلس على عتبة البيت. يطلب من مدللة أن تبحث عن أغنية "زوروني كل سنة مرة"، فتدير مفتاح الراديو فلا تعثر عليها، فيضع يده على خدّه ويغني بنفسه تلك الأغنية التي تعاتب حبيبًا بلغة الجمع. تستعطفه وترجوه بأن يفعلها مرة واحدة في العام وألا ينساها تمامًا، ذلك أن النسيان هو العماء الحقيقي العظيم، إذا سقطت فيه تختفي فلا يعود لك ذكر. لا تعود لك ملامح. لا تعود لضحكتك ذلك الجمال الذي يرن كجرس في بئر يوسف المغلق على الخيانة، على الهجران والرغبة في القتل من دون غسل لليدين أو حتى شعور بالذنب.

قبل ذلك، لنقل بعقود قليلة، أربعين أو خمسين عامًا. آنذاك قالت جليلة، وهي من عوالم الإسكندرية، لسيد درويش وكان يريد أن يهجرها: "ابقَ زرنا يا شيخ كل سنة مرة... بلاش تنسانا بالمرة". ويروي الشيخ يونس القاضي أن سيد درويش شرع يلحّن ما قالته له جليلة بعد أن أكمل الشيخ المعمم كلمات الأغنية، وكانت تلك أول تجارب الرجل في التلحين، هو الذي عرّفته الشام، الذي زارها مرارًا قبل أن يشتهر، على أسرار الموسيقى. ويقال بأن درويش اقتبس الأغنية كلمات ولحنًا مع بعض التغييرات الطفيفة من مغنٍ عراقي صوفي، عظيم الشأن، اسمه المُلا عثمان الموصلي، وأن الأغنية كانت في الأساس "زر قبر الحبيب مرة"، وكانت تُغنّى في ذكرى المولد النبوي الشريف.

ويقال إن سيد درويش تتلمذ على يدي المُلا عثمان وأنه التقاه في دمشق وعنه أخذ.

كان المُلا عثمان ضريرًا.

كان المُلا عثمان فقيرًا.

كان المُلا عثمان يرى بيديه، وقيل إنه كان يعرف الناس بمجرد مصافحتهم، ما إِنْ يلمس يد الرجل حتى يعرفه ويقول له أنت فلان.

وكان جدي الذي عاصر الدولة العثمانية مثل المُلا عثمان يرى بيديه أيضًا. يلمس يدك فيبتسم. يناديك باسمك أنت أيها الولد السعيد في حياته، أو هذا ما كنت تأمل آنذاك.

يناديك فتجيب، وها قد ناداك منذ أيام أنت البعيد جدًا عن غزة. أنت المقيم في الدوحة، المختبئ كالقنفذ، الخائف من خذلان الحياة، فلا تخرج من بيتك إلا إلى العمل، فيمر صيف ويأتي شتاء وأنت تعد الأيام وترقبها. لقد أمطرت هناك. لقد أوحلت الشوارع هناك. لقد كبروا هناك. تزوجوا وهربوا وماتوا... هناك، هناك، هناك، فيما أنت مختبئ كقنفذ الليل تصيخ السمع كيلا تأتي هناك وتصبح هنا فتختلط الأدوار فلا تدري ما تفعل إذ ذاك، أتبكي على عمر مضى أم تفرح لأنها هكذا هي الحياة، تأتي دومًا متأخرة وقد فرغت من المعنى وأفقرت الكلمات من شحنتها الدرامية العالية فيما لو قيلت هناك وآنذاك.

وها هو قد ناداك.

وها أنت تجيب... وها أنت تراه الآن: يجلس على باب البيت. يطلب من مدللة أن تبحث عن أغنية "زوروني".

لم يكن يعرف الملا عثمان الموصلي. لم يكن يعرف سيد درويش أيضًا بالرغم من أنه سمع باسمه كثيرًا، ذلك أن الإذاعة الأردنية لم تكن تبث أغانيهما آنذاك، فإرث أحدهما الغنائي بلا تسجيلات بصوته على الأغلب، والثاني عرفته العرب بطلعت يا ما أحلى نورها... وكفى إلخ إلخ إلخ...

كان جدي يعرف فيروز. هي بالنسبة إليه من غنت "زوروني كل سنة مرة" وسواها لم يكن يعنيه، وللإفاضة فإن فيروز نفسها ما كانت تعنيه في شيء بل أغنيتها تلك. كانت تأخذه إلى ذلك الركن الصغير من عتمة الروح. كانت تأخذه إلى ذلك الثقب الأسود الصغير الذي كان يدفعه إلى وضع اليد على الخد، إلى إطراقة الرأس، إلى البكاء وهو يجهد كيلا ينسى وجوه أطفاله الذين كبروا وهربوا من جحيم الفقر في غزة والحكم العسكري المصري إلى الكويت، حيث هناك يغرفون الأموال من الشوارع، كما يقول الجيران، ويرسلون إليه القليل ليبقى.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.