}

عن تلك "اليهودية" في رواية "عائد إلى حيفا"

زياد بركات زياد بركات 26 أبريل 2024
آراء عن تلك "اليهودية" في رواية "عائد إلى حيفا"
كتب غسّان كنفاني روايته "عائد إلى حيفا" عام 1969
بعد نحو أسبوع واحد فقط من تحوّل "سعيد. س"، بطل رواية "عائد إلى حيفا"، وزوجته صفية إلى لاجئين، واضطرارهما إلى ترك بيتهما وعدم القدرة على العودة إليه لاستعادة طفلهما الرضيع "خلدون" على الأقل، تدخل ميريام، وزوجها إفرات كوشن، وهما يهوديان من بولونيا، إلى بيت سعيد، ويصبح بيتهما، ويتلقيان من الوكالة اليهودية هدية ثمينة أخرى، غير البيت في حي الحليصة في حيفا، طفلًا صغير السن يتبنيانه، هو خلدون الذي سيصبح لاحقًا جنديًا في الاحتياط الإسرائيلي.
كتب غسّان كنفاني (1936 ــ 1972) روايته "عائد إلى حيفا" عام 1969، بعد ثلاثة أعوام على صدور دراسته الرائدة حول الأدب الصهيوني، وهي آخر رواياته المكتملة، ومثلها في كونها نوفيلا (نحو 90 صفحة)، وتتناول على نحو مكثف، وفي أجزاء منها على نحو ذهني، وربما مسرحي لا روائي، واحدة من الثيمات الكبرى في حياة الفلسطينيين، فما هو الوطن فعلًا؟ وأي معنى لمفهوم العودة إذا كانت لاستعادة الماضي لا القبض على المستقبل نفسه؟
وإذا كانت هذه الثيمات قد استحوذت على اهتمام نقاد كنفاني ومؤرخيه، وهم كثر، وعلى اجتهاد بيّن، فإن شخصية اليهودي الطيب، الضحية، لم يتم الالتفات إليها، في مقاربة هذه الرواية البديعة، رغم بعض هنّاتها، والتي ما زالت أسئلتها حاضرة وطازجة إذا جاز الوصف في حياة الفلسطينيين ونضالاتهم، فاليهودي الذي تم تناوله وتسليط الضوء عليه في مقاربة الرواية هو دوف، المجند، وهو خلدون الذي فقده سعيد وزوجته مكرهيْن، وتبناه إفرات كوشن وميريام راضييْن وممتنيْن، فغدا ابن الحالتين، الفلسطينية والإسرائيلية، المعقدتين.
في رواية كنفاني، لم يعد السؤال من يكون والدا دوف، بل من يراهما أبويه، فمن يقيم في البيت ويحتضن الطفل ويتعهده بالرعاية لا يتساوى مع من فقده، حتى لو كان مكرهًا، وليس ثمة عدالة هنا، بل إكراهات لا يغيّرها حوار هادئ، أو اختيار فردي. إنه المأزق على جانبي الصراع، ولا تحله أو تعيد بناءه سوى الحرب، والأخيرة إكراه آخر من الطينة نفسها التي حوّلت الطفل الفلسطيني إلى إسرائيلي، وأفقدت سعيدًا وصفية بيتهما، وفرصة أن تتطور حياتهما على أرضهما، داخل وطنهما، وفي بيتهما.
هل ثمة ما يخرق هذا التصلّب في المعادلة السابقة؟ هل ثمة حلول أخرى؟ يبدو غسّان كنفاني غير معني بذلك، فالمصائر لا تتحرك وتتشكل في الرواية كخطاطة بحث، أو تحليل سياسي، بل جرّاء إكراهات قاهرة في بناء الشخصيات، مثل عدم قدرة سعيد على مقاومة طوفان البشر والمهجرين الذي كان يدفعه للابتعاد عن البيت والتوجه نحو الميناء، وكذلك عدم قدرة زوجته صفية على العودة إلى بيتها بعد خروجها منه بحثًا عن زوجها، ما أفضى بهما إلى نسيان ابنهما نفسه في البيت، وعندما يتذكرانه يفقدان خيار العودة، فالإكراهات أساسية في بناء أحداث الرواية، وهي قليلة ومثقلة بالرموز، ومن خلفها الأسئلة الوجودية والسياسية.
ربما يفسّر هذا تحوّل أحداث الرواية في تصاعدها وذروتها إلى "ذهنية"، ومسرحةٍ لصراع يتجاوز الأفراد ومصائرهم إلى ما يمثلونه من رموز، ويتجلى هذا في الحوار المشحون والمتوتر بين الأب البيولوجي سعيد، ومن كان ابنه وأصبح لاحقًا جنديًا في الجيش الإسرائيلي، حول مفهوم الوطن والأبوة والبنوة والقضية، وهذا بالضبط ما يفسّر لماذا سقطت ميريام، اليهودية، من أي تحليل حقيقي للرواية، واقتصار البحث لدى دارسي رواية كنفاني على دوف، ومن ثم مرجعياته، ومقارنة الرواية بأخرى، "إكسودس" للأميركي ليون أوريس، وكيف أن "عائد إلى حيفا" نص يحاور آخر، ويرد عليه لينقضه، خاصة أن حوار بطل رواية كنفاني مع دوف يستعيد التنميط الذي خضع له الفلسطيني/ العربي، في رواية "إكسودس"، من حيث كونه جبانًا، غير متعلق بأرضه، فلو كان كذلك ما فقدها، وهو ما يقوله دوف لسعيد في الرواية.
وفي إمكان القارئ العودة مثلًا إلى دراسة عادل الأسطة "الذات والآخر في رواية كنفاني عائد إلى حيفا"، للاستزادة إذا شاء.




فمن هي ميريام التي سقطت سهوًا من أي مقاربة لدارسي كنفاني (رضوى عاشور، فاروق وادي، فيصل دراج، فيحاء عبد الهادي، وآخرون)، بسبب حرب الروايتين الكبرى، وتذهين الصراع، وتنميط أطرافه الرئيسية؟
بإعادة بناء شخصية ميريام في الرواية، فإننا نعثر على اليهودي الطيب، الضحية، الممزق بسببب حسّه الأخلاقي العالي إزاء الآخر، الفلسطيني، صاحب البيت الأصلي، الأب الأول للغلام الذي أصبح جنديًا، وهو ما يعكس ربما نزاهة كنفاني الاستثنائية إذا قرأنا الرواية سياسيًا ومن خارجها، وقدرته على التمييز بين اليهودي الطيب والسيء، بين وجوه القاتل والعدو وصوره وتحوّلاته وتناقضاته، وهو ما لا يرغب كاتب هذا المقال الاستطراد فيه كونه خارج النقد والأدب، وربما يعكس تفكيرًا رغائبيًا وانحيازات مسبقة.
عندما يعود سعيد وصفية إلى بيتهما لأول مرة بعد عشرين عامًا من النكبة الفلسطينية، يجدان ميريام التي تفتح لهما الباب. عجوز طيبة، متفهمة، ومضيافة، ومبتسمة طيلة الوقت، تقول لهما من دون أن يقدما نفسيهما لها، إنها كانت تتوقعهما منذ زمن بعيد. يسألها سعيد: هل تعرفين من نحن؟ فتجيب: أنتما أصحاب هذا البيت، وأنا أعرف ذلك. عندما يسألها سعيد كيف عرفت تجيبه: من كل شيء. من الطريقة التي وقفتما بها أمام الباب... منذ انتهت الحرب جاء كثيرون إلى هنا، وأخذوا ينظرون إلى البيوت ويدخلونها، وكنت أقول كل يوم إنكما ستأتيان لا شك.
فما الذي جعلها تفعل ذلك، بأن لا تنكر حقهما في البيت والابن إذا قرر الأخير؟ لأنها بحسب رواية كنفاني ضحية أيضًا، لقد فقدت ميريام والدها في أوشفيتز قبل ثماني سنوات، ورأت بعينها الجنود الألمان يقتلون شقيقها الصغير (10 سنوات) حين جاء ليزورها في بيتها في بولونيا. وتظل حادثة القتل هذه تلاحقها، فبعد وصولها إلى فلسطين، وقبل أن تستوطن بيت سعيد، كانت تتجول على غير هدى بالقرب من كنيسة بيت لحم، فترى بالصدفة شابين من الهاغاناه يحملان شيئًا ويضعانه في شاحنة صغيرة قبل أن يمسحا كفيهما في أطراف قميصيهما الخاكيين، فتبادر زوجها بالقول إن ذلك "الشيء" كان طفلًا عربيًا، وعندما يستفسر منها زوجها كيف عرفت أنه عربي تقول له ببساطة إنه لو كان يهوديًا لما فعلا ذلك به.
بعد ذلك، يحدث معها أن ترى كيف تنتج الضحية اليهودية ضحايا آخرين لها في فلسطين، كيف يقوم الإحلال بنفي الآخر وطرده من الأرض والرواية والتمثيلات الاجتماعية والدينية المقدسة، فقبل أن تستوطن بيت سعيد، تخرج وزوجها يوم السبت من النُزُل الذي كان يقيمان فيه فلا يجدان سيارة تقلهما، فلقد كان "سبتًا يهوديًا حقيقيًا" لم يشهدا نظيرًا له خلال حياتهما في بولونيا، فتدمع عينا الزوج لسبب لا يستطيع تفسيره، وحين ترى ميريام انفعاله هذا تقول له والدموع في عينيها إنها تبكي لشيء آخر. إنه سبت حقيقي لكن (بسببه) لم يعد ثمة جمعة حقيقية هنا، أو أحد حقيقي.
بعد تلكما الحادثتين تقرر ميريام العودة إلى إيطاليا، لكنها لا تفلح في إقناع زوجها بذلك، وكان هذا قبل أن تنتقل إلى بيت سعيد بأقل من أسبوع، وقبل أن يصبح "دوف" ابنها بالتبني.
تبدو ميريام في الرواية نموذجًا لليهودي البريء، ولكن المستفيد بدرجة ما، والذي يدفع ثمنًا للصراع بعد استفحاله من دون أن يكون طرفًا مباشرًا فيه، فهذا ما حدث للأسف كما تقول لسعيد الذي يقر بأنه لا ذنب لها على نحو ما في ما حدث. وحتى بعد المواجهة القاسية والصعبة بين سعيد ودوف، بين الروايتين، تبدو ميريام الممزقة بين كونها أمًا لدوف بحكم رعايتها له وشعورها بأنها ليست أمه البيولوجية ولا صاحبة البيت، منصفة في مقاربتها للصراع، وذلك من خلال اقتراحها تسوية تقوم على أن يُترك لدوف الخيار، وهو ما يجده سعيد مقترحًا يفتقر إلى العدالة أصلًا، ويتمنى لو كان نجله الآخر قد التحق بالمقاومة في غيابه، فليس ثمة حل لمعادلة ظالمة تكرّست بالإكراهات والقوة إلا بإكراهات تفوقها قوة.
هل ثمة ميريام هناك، حاليًا، في أيامنا هذه، تطل من نافذة ما أصبح بيتها في سديروت في غلاف غزة، فترى الآخر الفلسطيني الذي يُقتل ويُباد منذ نحو ستة أشهر؟ هل تراه إنسانًا على الأقل، وصاحب بيت وأطفال مثلها؟ هل تعرف شعور أم الطفل حين امتُحنت أمام النبي سليمان باحتمال شق طفلها نصفين فتنازلت عنه لأنها أمه؟ كان سعيد أم ذلك الطفل يا ميريام وأظنك تعرفين. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.