مهاجر عبد الرحمن مُعلِّم رياضيات سوداني قذفت به أهوال الحرب الأخيرة في بلاده بين القوات المسلَّحة والدعم السريع للنزوح إلى الجارة مصر، ورغم أن الحرب لم تضع أوزارها بعد إلا أن مهاجر قرَّر أن يضع حدًّا لهجرته، إذ حزم أمره وعاد في تموز/ يوليو الماضي إلى الخرطوم. وقد توجَّه الرجل إلى مدرسته التي يعمل بها في منطقة الكدرو شمالي العاصمة، فإذا بها مسرحٌ للصمت والوحشة، لا تلاميذ فيها ولا معلمين، ومع ذلك فقد غلبه الحنين إلى مهنته، واتجه من فوره إلى أحد الفصول (الصفوف) التي لطالما واظب على تعليم طلبته فيها، وهناك لم يجد سوى المقاعد الدراسية الفارغة، والسبّورة (اللوح الأسود الكبير) خالية من أية كتابة عليها. لم يستسلم لمشاعر الصدمة القوية التي تعرَّض لها، بيد أنه سرعان ما استجاب لنداء الحنين إلى إلقاء الدروس، ووجد نفسه يندفع إلى السبورة ويقف هناك حاملًا طبشورة بيضاء ويشرع في إلقاء درس جديد على طلابه، بصوت جهوري نقي فيما يخطُّ مبادئ درسه على السبورة. وكالة رويترز التي بثَّت الخبر أرفقته بفيديو قصير استغرق دقيقتين يصوِّر المعلم مهاجر ويسجِّل صوته في أثناء إلقائه درسه على طلابه، الذين غيَّبتهم الحرب كما شرَّدته هو من قبل. وقد ذاع الخبر بعدئذٍ على منصات التواصل الاجتماعي وانهالت تعليقات عليه، تثني ثناءً مستحقًّا على الرجل، وقد وصفه أحد التعليقات بأنه أشهر معلمي الرياضيات في السودان، فيما وصف متفاعلٌ آخر ما بدر عن الأستاذ مهاجر بأنه في منزلة "ملحمة" ينبغي تدريسها، مشيرًا إلى ما تعكسه من مشاعر أصيلة ومن روح التفاني لدى الأستاذ تجاه مهنته النبيلة.
استوقفتني هذه الواقعة مثل كثيرين، لا بدَّ، من القارئين، ولاحظتُ كيف أن الحرب إذ تثير أسوأ الغرائز لدى نسبة كبيرة من المقاتلين، فإنها تثير في الوقت ذاته أنبل المشاعر لدى الضحايا، مع الأخذ في الاعتبار أن الحديث هنا يدور حول حرب بعينها هي الحرب في السودان التي تقودها الشهوة إلى السلطة لدى قوات التدخل السريع، على أن ما يقع في هذه الحرب يماثل حروبًا داخلية ونزاعات أهلية أخرى، فيما يدفع المدنيون الأبرياء الثمن غاليًا من حياتهم ومن حقوقهم وقد جرى استخدامهم وقودًا لهذه الحرب الدموية.
وما فعله الأستاذ مهاجر يمثِّل بحقٍّ اعتراضًا أخلاقيًّا على هذه الحرب، ويحمل رسالة بأن هذا الجنون ينبغي أن يتوقف ويستحيل التعايش معه، وأن ليس لأحد حق حرمان الناس من أساسيات حياتهم الطبيعية.
وبدا لي شريط الدقيقتين نواة لفيلم قصير شاعري وإنساني ينتظر من ينتجه ويخرجه، على غرار أفلام إيرانية ظهرت مع الألفية الثالثة وتتقصَّى حياة بسطاء الناس في الريف وهوامش المدن، من منظور التقاط جزئية صغيرة في يوميات عائلة كادحة هنا وهناك، كما هي حال أفلام مجيد مجيدي مثلًا.
وقد قادتني التداعيات بعدئذٍ إلى استذكار قصة بعنوان "أمسية المغنية" نُشرت في كتابي "رجوع الطائر" عام 2008 الصادر عن دار فضاءات في عمّان وأعادت وزارة الثقافة الأردنية نشر الكتاب ضمن سلسلة مكتبة الأسرة عام 2017. تتحدث القصة عن مغنّية بولندية شابة في ليل الفندق، برفقة عازف على الغيتار تشدو بأغانٍ عن الحب، ومن بين ما صدحت به أغنية بالإنكليزية بعنوان "عيد ميلادي" للمطربة الأميركية بيونسيه، وقبل ذلك غنّت أغاني عاطفية للمطربة اللبنانية إليسا إكرامًا للمكان والجمهور العربيين. "كان غناؤها حارًّا تغني كمن تخاطب أعز الناس. غناء شخصي داخلي".
وتسرد القصة المشهدية التي تستخدم ضمير المتكلم، كيف أن المطربة الشقراء تقف ببنطلون جينز قصير مثلَّم مُشلَّع الحواف بساقين مكتنزتين وصلبتين بلون شبه نحاسي، تصدح بأعلى درجات الانسجام ومحياها الصبوح مُحمرٌّ من شدة الانفعال، وأن صوتها كان يصل إلى الصالة المجاورة حيث يجلس البطل مع صديق له. تغنِّي باستغراق وكذلك باندفاع واستبسال شأن المطربات الشابات الطموحات، "لمحتني واقفًا على مدخل الصالة أهزُّ رأسي نصف الأشيب وأحاول الظهور بمظهر أفضل من هيئة شخص فضولي، وقد خصَّتني بنظرات طيبة باسمة".
وتنتهي القصة بهذه الفقرة: "كان صوتها يمخر الفضاء ويتهادى الصوت كغيمة أحلام وهيام، تتمايل مع اللحن بصورة طفيفة ومحسوبة، ثم تصدح بملء روحها بجُماع طاقة صوتها وبتفاني من يؤدي أنبل الواجبات... لا يعيقها شيء، لا شيء يعيق تقدمها أبدًا، بما في ذلك خلو الصالة حيث تغني خُلوًّا تامًّا في تلك الأمسية من أي أحد من الرواد".
أجل، أمضت المغنية الشابة أمسيتها في الغناء لصالة فارغة كليًّا من المستمعين، ولجمهور لا وجود له، وكما هي حال الأستاذ مهاجر حين ألقى درسه على تلاميذ غائبين أو مُغيَّبين. لعل قوة خفية تدفع الحياة للتشبُّه بالفن... للتفاعل العَرَضي معه، وفي تبادل أدوار بينهما.