ثمّ أني نظرتُ من هذا المنعطف الأخير من حياتي إلى ذلك المنعطف السابق من فزع وهلع ورهبة، فرأيتُ أنّ ما كانَ كامنًا منذ البدء اتّضح فعلًا مع مرور الزمان ونضجِ التجربة، ثم إعمال الفكر أنّ ذلك الكامنَ ينبلجُ مع إشراق بارقة أمل بأنّ الدنيا رغم مآسيها تبعثُ ما في مكنونها من رغدٍ وهناء، كما في إطلالة وردة منزوية في حقل ربيع دافىء عند منحنى يطلُّ على ساحل وضّاء يظلّله قوس قزح، فلكلّ هزيعٍ وقتُه، كما في قول نمر بن تولب يجيبُ امرأته وقد لامتْه على التبذير:
قالتْ لتعذلَني من الليل أسْمَعِ
سفَهٌ تبيّتُكِ الملامةَ فاهجَعي
لا تجزعي إنْ مُنْفِسًا أهلكتُهُ
فإذا هَلَكْتُ فعند ذلك فاجزعي
ثم أطلقتُ زفرتي فإذا هي يمُّ وسرّحتُ تنهّدي فإذا هو محيط، فما أن خلصتُ منهما حتى وجّهتُ خطاي إلى دربٍ آمن فكانَ وعيي إذ وعيتُ أنّ الدنيا مشهد معرفة يتحصّل بممارسة تعقبُها نظريّة مُستمدّة من طيّات الممارسة فاهتديتُ بعد لأي إلى أنّ النظرية نفسَها بعد صدقِ اختبارِها تصحّحُ الممارسةَ وتقوّمُ إعوجاجَها، تمامًا كما هي الفيزياء تنهضُ على ركام نظرية سابقة فتنسخُها إذ وجدتْ عطلَها وتأتي بما يحلّ محلّها، وهكذا إلى أن يثبتَ الملأُ على مقياسٍ منطقيّ سليمٍ، أي بالرجوع إلى الرياضيّات معيارَ قياسٍ تندرجُ تحته حيثيّات التجربة وتفاصيلها. فعلى هذا النحو فما من مقدار نظريّة فيزيائية إلّا وفيها المقدارُ نفسُه من حسبة رياضيّة، فإذا الكونُ في مجراه مشتبكٌ فيزيائي رياضي، وإذا الدنيا، متى سلمتْ النفوسُ من الأذى، منظرُ علمٍ ناهضٍ على بصيرة المنطق وهدي الحِسبة، ومتى غابَ المنطق واحتجبتْ الحِسبة كان السقوطُ في جبّ الوهم والخداع، فليس أسهل من اعتناق الوهم، وليس أحبُّ على النفس من خداع النفس للنفس، فها هو تاريخ الفكر منشأه ديكارت في تصويب قواعد المعرفة والغرف من نور العقل، وغاليليو في دورانِ الأرض وردّ الحسبة الصائبة إليه في جاذبية نيوتن، إلى أن جاء كانط يوحّد بين المعرفة البحتة السابقة على التجربة والمعرفة اللاحقة عليها، فإذا هما صِنوان، فوقف كانط في تاريخ الفلسفة أحد الآحاد منذ أرسطو.
عند ذلك المنعطفِ من حياتي ارتوى ظمأي المعرفي. أمّا عطشي العاطفي فلزمني حتّى الساعة وإنْ تعاقبتْ مراحلُه مختلفةً متباينةً حسبَ نضجي العاطفي بموازاة تلك المراحل المختلفة المتباينة، ولكمْ كانَ وقعُها عسيرًا وأثرها شديدًا في نفسي، إذ أنّها تخرجُ على تسلسلِ المنطق ورونقِ الفيزياء ودقّةِ الرياضيّات.
نضجتْ مراحل وعيي العاطفي بإزاء وعيي سلسلة تجاربي العاطفية، بمعنى أن نضجَ تلك المراحل كان موازيًا لوعي لتلك السلسلة، إذْ كانتْ كلُّ تجربة عاطفية تحمل في طيّاتها بذورَ وعيي بها. فكلّ تجربة عاطفية عرفتُها كانت مدخلًا إلى تجربة عاطفية عقبتْها، وعلى مدماك الأولى تأسّست الثانية دون إدراكي لها، فالعاطفة لا تُكال بمكيال ولا تُقاس بمقياس، فهي أشبه بالدنيا في بدءِ تكوينها، إذ تبدو وكأنها فردوسٌ حَسَنُ المنظر طيّبُ الأريجِ لذيذُ الفاكهةِ عذبُ الشرابِ، لكن ثمرة الغواية تحيل الفردوس إلى جحيمٍ مضنٍ، فالإنتقال من عهد البراءة إلى عهد الشّبَق مفازةُ مشقّةٍ تردُّ الهناء إلى شقاء فكأنّه كُتب على هذا الانتقال السقوط في هاوية الخطيئة، وكانتْ كلّ تجربة عاطفية لاحقة تعيدُ ترتيبَ كلَّ تجربة عاطفية سابقة لها فتنسخُها وإنْ كانتْ تستمدُّ منها نقدًا لها فتنقضها بغرض الخروج منها إلى تجربةٍ أرحب وإنْ كانتْ غامضة الملمح بهيمةَ الأُفقِ فما معرفتها إلا رهنٌ بخوض غمارها إذ تنكشفُ تفاصيلُها بالدخول في عالمها وعالمُها لا يُدرك إلّا بعيشِه، وعيشُها يفدُ نَبأُه إثرَ ارتطام الروح بصخرة الواقع الصّلد، وتكون العبرةُ إثر ذبول وردة الحياة الذهبيّة، كما عبّر عنها الشاعر المخضرم تميم بن مُقبل، فالحكمة تعقبُ الفناء:
إنْ يَنقُصِ الدّهرُ منّي فالفتى غَرَضٌ
للدّهر، من عُودِه وافٍ ومثلومُ
وإن يكنْ ذلك مقدارًا أُصبتُ به
فسيرةُ الدّهر تعويجٌ وتقويمُ
ما أطيبَ العيشَ لو أنّ الفتى حجرٌ
تنْبو الحوادثُ عنه وهو ملمومُ
فالبصيرةُ تعقبُ التجربة والعبرة لاحقة على الحدث، فما من قائل أنا عالمٌ بما يأتي به الغد، لكنّ الجمعَ متفقون على أنّ الأمسَ اتّخذ شكلَه ويبسَ جذرُه، فها هي بومة الحكمة تُفرد جناحيها عند الغسق حين يكتملُ النقلُ بالزعرور، وكان النقلُ غثًّا والزعرورُ مرًّا.