}

عن مأساتي...

محمود شريح 2 يوليه 2024
يوميات عن مأساتي...
(يوسف عبدلكي)


ما إن خرجتُ مُعافىً من نكسة 1967 وسلّمتُ نفسي للمقادير، مُدركًا أنّه لا يفي حذرٌ من قدرٍ، حتى ألَمّتْ بي وعكةُ 1970، إذ كنتُ آملًا بعبور النهر، لكنّي فطنتُ، ذات ليلة، وأنا أتأمّلُ سقفَ غرفتي، في الطابق السادس من مبنى فندق Sun Rise في جبل عمّان، مقابل كاراج العبدلي، مُنصتًا بحذر إلى صدى قذائف، وافدًا من تيار لا وعيي، أني لا أُجيدُ السباحة، فعزمتُ على الخروج من عمّان، صاغًا سليمًا، إلى دمشق فبيروت. هناك عند الرمثا، ناحية المفرق، تلفتُّ، شاخصًا عمّان، وقد غابتْ، دندنت بهمس مطلع أُغنية عبد الحليم حافظ "خسارة خسارة فراقك يا جارة" 

لكنّ الدهرَ لا يأمنُه مثلي، إذ شاهدتُ بأُمّ عيني المجرّدة صوب نهاية 1974 جنازة فريد الأطرش، عند دوّار الغبيري، تسيرُ باتجاه مطار بيروت، إذ كان صاحب "لحن الخلود"، أوصى أن يُدفنَ في القاهرة إلى جانب أُخته أسمهان، فَفُجِعْتُ، إذ لطالما كنتُ أمنيّ نفسي برؤيته شخصيًّا، فوجدتُ ساعتئذٍ أني أمام كفنِه مرفوعًا على الأكُفّ، وما خطرَ على بالي وقتها إلا مطلع قصيدة أبي الحسن الأنباري في رثاء نصير الدولة ابن بقيّة:

عُلوٌّ في الحياة وفي المماتِ

لَحقٌّ تلك إحدى المعجزاتِ

ولم يكد يمضي عقدٌ على هزائمي المتلاحقة هذه حتى عصفتْ بي كارثةٌ دهماء، إذ كنتُ ذات ليلة على وشك أن أخلدَ إلى النوم فسمعتُ خبرَ وفاة عبد الحليم حافظ، آخر ناصري وحدوي في دنيا العرب، من إذاعة صوت العرب من القاهرة. طار النومُ من عينيّ ثم خارتْ قواي وتضعضعتُ إذ كنتُ أطمح إلى سماعه يغنّي "ظلموه والقلب الخالي شغلوه" على مسرح حديقة الأزبكية، فما أن طلعَ الفجرُ عليّ حتى عاهدتُ نفسي على الجنوح إلى الفلسفة الذرائعية، فخلعتُ عنّي عباءة الرومانسيّة وانضويتُ تحت راية الواقعيّة، علّني أدركُ حجمَ مأساتي بالقياس إلى حجم مأساة شعبي، فلم أفلحْ إذ لم أجدْ أنّ الواقعيّة تفضلُ عن الرومانسيّة، فأبحرتُ بعد طيّ شراعهما في لُجج الميتافيزيق، فأدركتُ، بعد لأيٍ، أنّ ما حلّ بشعبي من أذى ولحقَ به من عذاب وتكبّده من خسائر لا يخرجُ عن مدار الصِّراع الكوني الأشمل بين خير وشرّ، فالمسألة إذن أبعدُ من تحويل مأساته إلى مكاييل عونٍ ومقاييس إغاثة، إذ كان صباحُه ثقيلًا وليلُه كئيبًا، وما بينهما قلقٌ وحيرة، فَحُرِمَ النومُ ساعةَ قُضَّ مضجعُه بتأثير قصف جويّ واجتياح بريّ وعدوان بحريّ، ولما جاءته المساعدات سقطتْ على رأسه فأردتْه. عندذاك آويتُ إلى خلوة علّها تردُّ إليّ وضوحَ رؤية.

لكنّ خلوتي لم تنقذْني. فما أن خرجتُ من عُزلتي حتى انطويتُ على ذاتي، ولم يكن ذلك طوعًا ولا اختيارًا، بل كانت النّقلة من عزلتي إلى انطوائي تلقائيّة، بمعنى أنّها حدثتْ دون وساطة ذهنيّة. ومن مطلِّ منفاي عاينتُ مأساةَ شعبي وخرائبَ مدنِه فاختزلتُ نفسي إلى قمّة جرداء وأغمضتُ عينيّ لأسبرَ غورَ هزيمتي ساعة تناهى إلى مسمعي أن موطني غادرَ، وإلى الأبد، بلادَ الرّعب، فنجا، ونعمَ بحريّته بعيدًا عن جغرافيتها.

ما إن تأكّدتُ من هجرة موطني عنّي حتّى صرتُ أغفو مفتوحَ العينيْن – ليس من أرق، بل من خوف – تُراقبان قفلَ الباب، فيما أُذناي تسترقان السمعَ، لا لبهجة، بل خشيةَ دنوِّ خُطًى مُباغتة، فما كان يؤنسُني سوى صرّارُ الليل وحفيفُ ورق الشجر، مؤمنًا أن العلمَ سيبطلُ يومًا ما، وفي ذهني أنّ الكلَّ باطلٌ وأنّ سقفَ الهيكل ساقطٌ لا محالةَ عليّ وعلى أعدائي، ورأيتُ أنّ ذلك حَسنٌ. لكنّ السِّحرَ انقلبَ على السّاحر، إذ فجأة أمستْ صباحاتي فزعًا وأصبحتْ لياليّ هلعًا، وكان ما بينهما قلقٌ وجودي، فكنتُ أصحو على فوهة بركان وأباتُ متوسِّدًا جمرًا، وما بين صحوي ومبيتي كنتُ أغرقُ في بحرٍ من الشكّ والحيرة. على هذا النحو قضيتُ أشهرًا قبل أن أرسوَ على بعض طمأنينة وجدتُها في قرارة نفسي ساعةَ أدركتُ أني شططتُ في تفسير معنى وجودي، فَمنّيتُ النفسَ بما أوردَه ابن عبّاس في الطبقات الكبرى لابن السبكي أنه وُجد في خزائن عاد سهمٌ مفوَّق، كأطول ما يكون من رماحها، نُقش عليه بيت هو ما صمدَ إثر اندثار أهل عاد ومدينتهم ذات العماد: 

أليسَ إلى أجبالِ صبحٍ بذي اللوى

لوى الرمل، فاعذرْ للنفوسِ معادُ

كما للدولِ معادٌ، إذ كانتْ ذات العماد مدينة شيّدها شدّاد بن عاد في الأرض على صِفة الجنَّة لمّا سمعَ بها، فأرساها على ما جمعَه وكلاؤه في الآفاق من ذهبٍ وفضّةٍ ودرٍّ وياقوتٍ ومسكٍ وعنبرٍ وزعفران. ثم إن هودًا عليه السلام أتى شدّاد بن عاد وأمره بالإيمان، إلّا أنّه تمادى في الكفرِ والطُّغيان، فأنذره هود بالعذاب وحذّره وخوّفه زوالَ ملِكه، وإذ لم يرتدعْ عمّا كان عليه، جاءت صيحةٌ من السماء، فمات شدّاد وأصحابُه، حتى لم يبقَ منهم مُخبر، وبقيتْ المدينةُ خلاءً، لا أنيسَ بها، وساختْ في الأرض، فكأنّها لم تكن وكأن أهلَها أثَرٌ بعد عين.

ثم إني ساءلتُ نفسي ولطالما كنتُ أُسائلُها: أين عاد وأين إرم ذات العماد وأين فرعون ذو الأوتاد الذي طغى واستبدّ بالعباد، وأين ذو القرنين الذي أمسكَ بالبلاد، صرعته الشمس عند بابل إثر فتح عظيم وهو يتهادى جذلانَ فخورًا وأين برجُها ونمرودُها الذي ارتقاه فهوى إثر الصيحة من السماء؟ أضحى الكلُّ هباء منثورًا، وقلتُ في نفسي: ليتحدّث غيري عن مآسي شعبي، أمّا أنا فعن مأساتي أنا أتحدّث، وقد أشرفتُ على الهرمِ، وكنت في صباي أغفو على فكرة الدولة وأصحو على حلّ الدولتين، فها اليوم لسانُ حالي بيتُ عروة بن حزام: 

وحُمِّلْتُ زفراتِ الضُّحى فأطقتُها

ومالي بزفراتِ العشيِّ يدانِ..

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.