}

الفقاقيع

هدى الهرمي هدى الهرمي 6 فبراير 2024
قص الفقاقيع
"فقاعات الصابون" للفرنسي جان بابتيست سيميون شاردان (.with A.I)



بعد وجبة غداء سريعة في أحد المطاعم، كنت مضطرة للعودة إلى مقرّ العمل سيرًا على القدمين، إثر حجز سيارتي في المستودع البلدي بسبب ركنها في زقاق خلفيّ دون أن أخمِّن في عاقبة القرار الاعتباطي الذي اتخذته لتغيير مساري المعتاد والتخلص من معاناة البحث عن مرآب خاصّ. اشتد بي الغضب وأنا متخبّطة بين الواجب المهني ومحاولة استرجاعها من الإدارة المختصّة نظرًا لضيق الوقت، وصعوبة الترجّل في شارع طويل ومزدحم بالمارّة. 

كانت أوراق الشجر اليابسة تلتصق بكعب حذائي وتزيد من حدّة توتّري. شيئًا فشيئًا بدأت أهدئ من انفعالي بالدندنة والاستمتاع بنسائم الخريف الباردة. وإن كان من المدهش حقًّا أن أتجاوز كل هذه التعقيدات، بالمشي وكسر الدوائر المغلقة لنمط حياة جادّ ورتيبٍ. 

بعد أن اجتزت الباب الرئيسي للحديقة العامّة، شعرت بشيء يتبعني وبدا لي أنني أسمع لهاثًا سريعًا. كنت قد بدأت أقلق.

صارت خطواتي بطيئة ولم أدرِ ماذا أفعل. يبدو أن رجليَّ قد تخدّرتا تعبًا. استدرت بحذر وتسمّرت في مكاني، فاصطدم بي جسد صغير. لم أميّز تقاطع الوجه. فقد كانت الشمس ساطعة خلفي، ثم برز وجه طفلة بعمر السبع سنوات تقريبًا. بعينين بنيّتين وشعر مموّج قصير. ترتدي ثوبًا من القطن الأحمر بحزام أبيض رُبط من الخلف، وحذاء جلديّ أسود لامع.

سَرَت في بدني قشعريرة حين طوّحتني بوجهها المشعّ ولمسَتْ أصابعها الرطبة يدي. ابتلعت ريقي وابتسمت.

قلت بصوت خافت:

- ماذا تفعلين؟

أشارت برأسها إلى الوراء ثم ضحكت بشقاوة، وقالت:

- أنت تشبهين ماما

ثم هزّت كتفها والتفتت جهة عربة ألعاب منتصبة على الرصيف المقابل، وصاحت:

- إنه بائع لعبة الفقاقيع... كانت أمي تشتريها لنلعب معًا... جدتي أخبرتني أنها رحلت، لكنها تمكث في السماء الزرقاء وتراقبني من بعيد.

ترددّت قبل أن أسألها عن اسمها، وسمعت صوت امراة مسنّة تقول:

- لقد كدت أموت خوفًا عليها واعتقدت أنني أضعتها.

فتحت عينيّ على وسعهما وأنا مرتبكة. عادت الطفلة تمسك بنفس اليد لتحفزّ خضوعي إليها، ثم دفنت وجهها بين ساقيَّ وهمهمت بعبارات بريئة:

- أرجوك، أريد لعبة الفقاقيع.

تمالكت نفسي، ولم أجب. لكن المرأة دنت منّي، بعباءتها المتدلية على كتفين نحيلين، وهمست في أذني:

- سيدتي.... هل جبرت بخاطرها وشاركتها اللعب لبعض الوقت... حفيدتي لوسي تشتاق للمرحومة ابنتي، منذ عجّلت بالرحيل، وتركتها وحيدة في هذا العالم.

صمتّ، ثم توجّهت فورًا صوب العربة، دون أن أفكّر بأي شيء آخر، لقد شملتني عيناها الصغيرتان بنظرة لم أعهدها من قبل، رغم ذعري بادئ الأمر. مرّت لحظة قبل أن أشعر بأن تيّارًا قويًّا يصل بيني وبينها. عندئذ صاحت وهي منتظرة في مكانها أيّة إشارة مني، للقفز برئتين هائلتين، وتنفّس السعادة التي حُرمت منها.

ظلّت تراقبني بدهشة كأنها تدعوني للتملّص من عبء كلّ الأشياء المتراكمة في رأسي، ودفعت بي إلى الرّكض في داخلي بساقين صغيرتين، ودمية من قشّ، هاربة إلى أقصى الضوء بكل النشوة الكامنة في الذاكرة.

انقلب شعوري فجأة، وفارقني الاضطراب، ورغوة الفقاقيع تعلو كبخار خفيف يمضي ويتجزّأ في اتجاهات شتّى ثم يتلاشى.

برزت أمامي لوسي، كمن يربط نفسه بغشاوة بيضاء أو مكوّن سحريّ، وهي تطلق صيحات الفرح، ثم تنفخ في وجهي، كأنّ في باطني ماءً حيًّا يستجيب لسيرها بتلك الخفّة، ثم يركض خلفها، لتبتلّ أطرافها بالفقاقيع الملوّنة.

صرت أتموجّ بضحكاتها، كبحيرة دائريّة لا تتوقّف. لكنّ صوتها أصبح ضئيلًا فجأة. لقد اصطدمت بعمود إنارة معدنيّ على جانب الرصيف وسقطت أرضًا. انتفضتُ واحتضتنها برفق.

نهضَت بثقل، وهي تنظر في عينيّ لكنها فقدت توازنها. كان أنفها ينزف بشدّة وجسمها يرتعش.

صرختُ بصوت مرتجف، وأنا أتفحصّ وجهها الشاحب وشعرها المموّج:

- لوسي... أنا آسفة يا صغيرتي

وقبل أن أعرف ماذا أفعل، خُيّل إليّ أنني أبتلع الفقاقيع وأغرق في عالمها الغريب، الضائع في حدود الماء والهواء، لأنتزع المرح الخاطف من حلقها الصغير. كنت أرتجف، وهي تمسك بذراعي وتتنفّس بصعوبة. ثم انزلقَت من يدي، كأنها تتبع حركة جسمي، لترقد في منطقة آمنة تمتزج بانعكاسات أجفانها الرهيفة المبتّلة، تحت وطأة الفرح والجزع، دون أن نُحدث جلبة أو ينظر إلينا أحد.

فكّرت بأنه لا أحد سوانا في المكان لحظة الصدمة، وقد ضاقت بنا بقعة مضيئة، لأحتضن جسدها الغضّ بقوّة، وقد بدأت الدموع تتجمّع توًا في عينيها، فتذوب كتلة باردة في فوهة صدري..

* كاتبة تونسية.  

مقالات اخرى للكاتب

قص
6 فبراير 2024
شعر
30 أغسطس 2022
شعر
19 أكتوبر 2021

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.