}

سيرة لتحلّل الوجه

قيس عمر 15 أبريل 2024
يوميات سيرة لتحلّل الوجه
(سعد علي)

كثيرًا ما آمنت بأن للإنسان أكثر من عمرٍ، عمر بيولوجي تحدده بنية الجسد وخلاياه الناظمة، وعمر آخر هو العمر المُدوَّن في الوثائق الرسمية الثبوتية، والذي بموجبه يتحدّد مسار الفرد، والجيل المنتمي إليه، وثمة عمر آخر يمكن لك أن تتلمس ضفافه في داخلك، حين تقارن نفسك مع "المجايلين" لك بيولوجيًا ورسميًا. هذه بعض من خرائط الأعمار الرسمية، التي تتشكل حولنا، أما أنا فقد كنت مختلفًا، فلطالما تخيلتُ أن العمر الزمني للإنسان هو مَحضُ عملية تقريبية تجيء من الخارج، يمكن عبرها قياس الزمن الذي أعده "وهمًا" أرست الفيزياء دعائمه، وهمٌ جميل ومريح مهمته مطاردة النسيان، فأنا أنظر لنفسي خارج الخُطاطة البيولوجية للأعمار والولادات، المتزاحمة على ساحل الحياة، فكثيرًا ما تخيّلتُ الزمن، كما نهرٍ ساكن ومُصان من أيّما حركة، وهذا النهر الساكن محمول على نهر آخر خفيّ تحته؛ ولكنه نهر من الوجوه الجارية لمصائرها، وجوه مُرقَّدة بعناية، تَتراصفُ كما عجلات مسننة ومنهكة، وتتحرك بخفة في عمق المياه، وتَجري بتناسق مَهيب، تحفظ للنهر الخارجي سكونه ووقاره، من هنا يمكن لي أن أفهم الزمن بوصفه نهرًا ساكنًا من الخارج، متحركًا من الأسفل، بفعل الوجوه المتحركة والمتراصفة في أسفله، والتي تعمل بكدّ كما عجلات مسننة؛ لتصوّن هذا الغموض الجليل/ القديم للوجوه وأعمارها المفترضة، وتديم حركتها الأبدية في قوس الأعمار.
بعد أن يستنفد الوجه جهده الحياتيّ تحت المياه، تعمل الوجوه المتراصفة في الأسفل على دفعه؛ ليرتفع إلى سطح النهر، ويكون وجهًا طافيًا متخلصًا من "محشر" الوجوه السفلي، وحين دقت ساعة وجهي ليتخلص من التراصف في الغرق، ارتفع الوجه من أسفل المياه الجارية نحو طوفان الحياة، وصار طافيًا على صفحة النهر الساكن وحيدًا، مخدرًا، صادًا، بينما وجوه أترابي بقيت تواصل غرقها في النهر.
وجهي الآن وحيدٌ يطفو على وجه النهر الساكن/ القديم، وجه مُستقرّ، وثابت، لا يشيخ، ولا يتبدَّل، مُصان، وصارم، وعابِس، يشبه نَشيد مُلُوك خَسِروا حروبًا عظيمةً، حروب شَحُبت فيها مصائر جنود الحياة، وانحلّت سيرهم في نهر الحياة الهادر.
أبصرَ وجهي وميضَ الحياة البعيدة، وهي تتراءى وتهبط، كما خطوة جليلة ومُهابة في قَلْب الحياة، لقد مرَّت بالوجه بعد أن استقر على صفحة النهر الساكن، عربات الملوك وحروبهم الضارية، أبصر الوجه تلك العربات الملكية المذهبة بالمصائر والفرائس، وهي تنطلق نحو الأراضي الفسيحة، التي تفيض بالأحلام، والأمنيات، وروائح الأعشاب البرية، لتشعل حروبًا كونيةً. يمكن لك أن تسمع الآن صحبة وجهي، شهقات جنود الحياة، أناشيدهم، أصواتهم المُجْهدة، القادمة من حياتهم المطوية في جيب الحروب، وقعقعة العظام وهي تتكسر. يتناهى لوجهي صوت وجيب اللحم، وهو يُخترقُ بالرصاص... ياه... لقد عاشَ الوجه كثيرًا، حتى بلغ تلك اللحظة الهرمة، وشاهد الأزاميل وهي تحفر في ألواح الرخام والمرمر، سير الملوك، والأباطرة، وجنرالات الحروب. أستشعرُ الآن أَرْواح الضحايا، ملامح وجوههم المجهدة، تصلني أصواتهم البعيدة المنهكة، وهي تسري وترنُّ، عبر أزاميل النحاتين العظام، تتداخل أصواتهم ونداءاتهم وتتبرعم مع الأعشاب، والأشجار، والأنهار، وتتداخل بشكل يصبح معه من الصعوبة بمكان فصل نداءاتهم الراعبة، وهي تسري في لَحم التحطَّم. يَتمَلملُ الوجهُ على أصوات التحطُّمات المهيبة، وهي تنبعث من الأخاديد، والسفوح، والمنحدرات، والجبال، مُتطلعةً إلى لحظة تُستعادُ فيها، وجوههم؛ لتتراصف صحبة وجوه أترابهم، يتصاعد صوت تحلل وجوههم حول وجهي في نهر الحياة، إنها سيرة وجهي وهو يطفو، صحبة وجوه تحللت، في براري الحروب وهي تُقادُ، لتعبرَ نهر الأعمار الوامِضةِ، وتشكلُ قوسَ الحياة المستعادة من التحلَّل.

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
15 أبريل 2024
قص
30 مارس 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.