}

قرد الحبر

قيس عمر 30 مارس 2024
قص قرد الحبر
(نوري الراوي)
يجلس الإمبراطور الأصفر كلّ صباح ليقرأ المخاطبات الرسمية التي تصله من أصقاع إمبراطوريته الممتدة من دون حدود، مخاطبات حول غزوات وحروب صغيرة تنطلق في صباحات رطبة، وأخرى عن توقّعات بنهب قوافل تجارية، وأخرى عن كائنات تجوب ليل المدن المتجمدة، تشرب حبر الأوراق التي دُوِّنت فيها المعاهداتُ، والخلطاتُ السرية للأمراض والأوجاع، كائنات صغيرة الحجم تتسلل إلى البيوت والدواوين الرسمية، تبحث عن الأوراق؛ لتشرب حبرها وتترك خلفها أوراقًا بيضاء يتحلّل فيها الفراغ. لم يستطع أحدٌ أن يرى تلك الكائنات الصغيرة، لكن الجميع يرى آثارها، ويرى بعضًا من ظلالها وهي تغادر ببطون مترعة بالحبر، وقد تركتْ خلفَها أوراقًا نفد حبرها واختفى.
يجلس الإمبراطور كل صباح تاركًا شَعرَه الطويل مرسَلًا على كتفيه، يحاور النافذة المشرعة لدخول الريح. صار الإمبراطور يتحرك منصتًا لنداءات الريح القادمة من الشمال، بين لحظة وأخرى يتحرك شيءٌ خفيّ تحت شَعر الإمبراطور، يخرج رأسه ولا تكاد تلمحه ليعاود الاختفاء تحت الشعر الطويل للإمبراطور، لم يبصر أحدٌ يومًا ذلك الكائنَ المختفي خلف الشّعر، لكن كل من قابل الإمبراطور يدرك أنّ ثمة شيئًا تحت الشّعر يتحرك ويستجيب لبعض الإشارات التي يقوم بها الامبراطور. إنه إمبراطور يعيش وعلى رأسه كائن ثانٍ، كائن بحجم يتيح له التحرك بخفة ورشاقة، لا بد أن يكون هذا الكائنُ صغير الحجم، ذكيًا جدًا ومستجيبًا لإشارات الإمبراطور. يحدث أن يكون بعض من قابل الإمبراطور يومًا أن انتبه إلى إصغاء الإمبراطور وهو يدخل في لحظات صمت خائرة، كأنه ينتظر إجابة من الكائن المتواري تحت شَعره، لا يستطيع أحد الجزم بنوع هذا الكائن ولا بلونه، لكن بعضهم يصرّ على أنّ لونه أسود فحميّ، وحجّتهم أنّه متلاشٍ مع طبيعة اللون الأسود لشعر الإمبراطور.
في كل صباح يجلس الإمبراطور مسترسلَ الشعر، مصغيًا لنداءات الريح وهي تدخل نوافذ القصر، ينادي على أحد الخدم، فيدخل الخادمُ بصمت مهيب وهو يحمل حزمة من الرسائل يتركها بين يديه وينصرف، يفتح الإمبراطورُ الرسائلَ القادمة من المدن النائية لإمبراطوريته، ويكتب إليهم بريشته إجابات وحلولًا سحرية، ويتعمد أنْ يُبقي الرسالة القادمة من المدينة التي تطلب مساعدته في القضاء على كائنات الليل التي تشرب الحبر من الورق، رسائلهم كلّها تحذر من نسيان التواريخ والأحداث التي تمّ تدوينها، والهجمات المحتملة للممالك القريبة، وكذلك الخطط العسكرية التي تمّ وضعها من حكماء الحروب. كلّ رسائلهم تختتم بمحاولة لتوصيف تلك الكائنات التي تشرب الحبر من الورق وتتركهم مثل حياة يتيمة تتحطّم تحت سقف الموت.
يجلس الإمبراطور كلّ صباح يحرّر الرسائل للممالك النائية، ويصدر أوامره المتنوعة إزاء أحداث وجوائح مختلفة، بينما رسائل مملكته التي يشرب الحبر من أوراقها تتكدّس في خزانته يومًا بعد يوم، وكلّما كتب الإمبراطور الأصفر جوابًا إليهم، خرَج من تحت شعره متسلّلًا بخفةٍ قردٌ صغيرٌ، عيناه تشبهان الياقوت الأحمر، له وبر أسود منسرح ناعم وليّن كوسادة ملكية، يهبط القردُ الصغير من الرأس الإمبراطورية إلى الأرض، يجلس قبالة الإمبراطور الأصفر يراقبه وهو يكتب إليهم رسالة بحبر الصين، يضع القرد يدًا فوق يد، وساقًا فوق ساق، ينتظر انتهاء الكتابة، وما إن ينتهي الإمبراطور من الكتابة يهرول القرد إليها وهي لمّا تزل على الطاولة الخشبية فيبدأ بشرب الحبر منها، يشربه ويتركها فارغة، ثم يرجع مرة أخرى إلى الرأس الإمبراطورية مختفيًا تحت الشعر، بينما الإمبراطور يواصل الاصغاء لصوت الريح وقراءة الرسائل القادمة من مدينة يشرب (قرد الحبر)([1]) حروفها وكلماتها.

[1] قرد الحبر: أسطورة صينية ضاربة في القِدَم.

(العراق ـ الموصل)

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
15 أبريل 2024
قص
30 مارس 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.