}

يوميات حرب عابرة للجنسية

سميرة المسالمة سميرة المسالمة 16 يونيو 2024
يوميات يوميات حرب عابرة للجنسية
(يوسف عبدلكي)
مع لحظات الصباح الأولى، كنا نسمع أصواتًا تهتز لها بيوتنا، كانت تبدأ كالصفير، وتبتعد لتحدث انفجارًا في مكان ما، فنهرع إلى أقنية التلفزيون العربية والدولية بحثًا عن حصاد تلك المتفجرات، لم نكن مطمئنين لسلامة أحد، ففي كل مكان يسكن شخص نعرفه، قريبًا أو صديقًا. نتناوب على السؤال المعتاد عند بدء المكالمة، هل أنتم بخير؟ وتدور الأحاديث، فلان لا يرد على هاتفه، وآخر حاولنا إنقاذه، كثيرون تحت الركام، بعض الأطباء في المشافي والعيادات الخاصة يتوارون عن الاحتكاك بالأهالي، نقل خبر الموت ثقيل ومؤلم للناقل، كما هو للمتلقي، ثم تبدأ موجة البحث عن مكان آمن، لا يكاد يتحول هو الآخر لمجرد أطلال لمن يتبقى من ساكنيه.
أول ضحايا الحرب كانت المنظومة الإعلامية المحلية، فحيث تغيب تفاصيل الأحداث وأسبابها ومكانها وأسماء الفاعلين والمتضررين الحقيقيين فيها ومنها، يصبح الخبر فيها مجالًا ومحفزًا للبحث عنه، وليس للاكتفاء منه، كنا محكومين بالخطوط الحمر والصفر وكل الألوان، لهذا لا طعم ولون ولا معلومة لأخبارنا، للتحول إلى مجرد كلمات افتتاحية لأخبار الآخرين، وبرامج، وصور تأتيك من مكان بعيد، وتضعك في دائرة الحدث، تنبش لك أسرار الحاضر، وخطط المستقبل، ومؤامرات الماضي.
وعبر "كاميرات" الفضائيات، نرى القبور الجماعية، ويتعرف عبر الشاشات الصماء بعض الأهالي على أولادهم من بعض ملابسه، أو من شبهة من مشاعره، فنحن لا نزال نؤمن أن "الدم يحن"، والموت لا يجفف الحنين، كنا جميعًا نشاهد أهوال مدننا المدمرة، وسيول الناس الهاربة من فيض الموت الذي يبتلعهم، كانوا يحملون "البقجة"، نعم، فلا حقائب يتسع الوقت لملئها، ولا أثمان تعادل بقية من حياة.
على صعيد شخصي، لم يكن القصف قريبًا منا، كنا في دائرة الأمان نسبيًا، أو شبيهة بما كان يسمى في العراق "منطقة خضراء"، أمان من حيث الموقع الجغرافي فقط، لكن كلنا كمواطنين على لائحة المطلوبين، سواء شاركنا في المظاهرات، أو تعاطفنا معها، كل من لا يحمل سلاحه في وجه "الحرية" التي ينادي بها المتظاهرون متهم ومجرم، سواء كنت تتقاسم معهم تلك المطالب لأنها "بدهيات" حقوقية، أو لأنك تعاني من الحرمان منها، أو لأنك تنتمي إلى المناطق الثائرة ذاتها، فأنت، إذًا، تملك موروثهم الفكري القابل للاشتعال في وجه الطغاة حاليًا، أو لاحقًا، لهذا في بلادنا من لا يطاوله الموت منتظرًا، يأخذونه إليه معتقلًا.
الحصار محكم على المدن، ما يعني إعلان الحكم على سكانها بالموت جوعًا، إذ لا مواد غذائية، أو طبية، مع انقطاع كامل لوسائل التواصل والكهرباء والمياه. هي العودة إلى بدائية الحياة في أسوأ مظاهرها، من دون أن ينقطع عنهم القصف الجوي الذي دمر بيوتهم، فيلتحقون بالشوارع، والمشافي، والمدارس، التي لم تكن أكثر أمانًا، فقد قتلوا الأطباء وقصفوا سيارات الإسعاف، وتحولت المدارس إلى معتقلات، كان الحاكم لا يميز في ظلمه بين كل القاطنين تحت مظلة أسلحته، أو في مرماها.
لهذا سقطت مقولة "لا أحد يموت من الجوع" في أوطاننا مبكرًا، لقد ماتوا وكثير منهم اليوم على بعد خطوات من الموت جوعًا. والجوع هو السلاح الأكثر ألمًا لشدة وطأته على من يعاني منه، وعلى من هم حوله، من آباء وأمهات، أو أبناء وأخوة، هو الموت البطيء الذي تستشعر فيه معنى أن الموت الغادر بالسلاح أرحم وأقل تكلفة على الضحايا وذويهم، تلك يوميات قاسية، ليست فقط لمن قاسى فيها ويلاتها، بل لكل من كان يعاني من عجزه عن فعل أي شيء لإنقاذ أهله وأحبابه، وهو ما يعيشه اليوم الفلسطينيون وهم يرون ألوانًا من عذابات أهلهم في غزة، لعل أشدها مشاهد أطفال تموت، وأمهات تتلوى جوعًا ومرضًا، وآباء يستعجلونه.
يختلف استسلام المرء للموت تحت وابل القنابل والصواريخ والرصاص عن القتل بالخوف، أو التجويع. ليست التفاصيل وحدها هي الفارق بينهم، بل الغاية منها أيضًا، وعدد الشهود عليها، والدروس التي توجهها، والشعارات التي تسقطها من حقوق الإنسان إلى مواثيق الأمم.
ففي النصر العسكري الذي تدعيه قوى تملك أساطيل السلاح الحديث، ودقة فتكه بالخصم الأعزل، يكون عداد الموت واحدًا من استعراضات الصانع لها، من جهة، والقادر على امتلاكها، من جهة مقابلة. ففي سورية، مثلًا، كانت روسيا تستعرض أنواع أسلحتها التي فاقت ثلاثمئة نوع، وتقر أنها خاضت تجاربها في لحمنا الحي، وكنا أيضًا نحن السوريين نختبر قدراتنا في التمييز بينها من أصواتها، ودقة أهدافها، وشدة انفجاراتها، وعدد ضحاياها، حتى صار الموت في أصعب لحظاته "أحجية" للصغار والكبار. وقبل أن يدلوا بأجوبتهم، أو يربحوا رهاناتهم، ربما يجتمعون في قبور مجهولة، لا شواهد عليها، ولا لوحات من رخام.
لا شك في أن أطفال غزة اليوم يملكون خبرات أكثر نضجًا، فالأسلحة الأميركية والأوروبية كثيرة التنوع، وباهظة التفاصيل والتكاليف، وهي أقل ضجيجًا، وأكثر فتكًا، وأدق تصويبًا، هي مفتوحة الخيارات على اصطياد ضحاياها، ربما لا تنتظرهم حتى يعرفوا جهة انطلاقها أو نوعها، هي غادرة كما أسباب وجودها فوق رؤوس ضحاياها. ودولة الاحتلال الإسرائيلي ترى أن الموت تحت وابل هذه الأسلحة التي تنهال عليها كمعونات من كل حدب وصوب رفاهية للمقتول كما هي نصر للقاتل.
يوميات الحرب تلك عابرة للحدود الدولية، والجنسية، ليست منسوبة إلى مكان واحد، لكنها تحمل القدر ذاته من الألم. هي عناوين سورية، وفلسطينية، ولبنانية، وسودانية، ويمنية، وعراقية، وقد لا تختلف في بلاد أخرى إلا بتفاصيل الهوية.

*كاتبة سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.