}

بسام كوسا وشرط الحرية "المقيّد" في الدراما السورية

سميرة المسالمة سميرة المسالمة 26 أغسطس 2024
آراء بسام كوسا وشرط الحرية "المقيّد" في الدراما السورية
بسام كوسا

بواقعية شديدة، وضمن المسموح "أمنيًا"، تحدث الفنان بسام كوسا عن أن الاختلاف الكامن بين الدراما السورية، وغيرها في العالم، هو "سقف الرقابة"، أي انخفاضه، أو ارتفاعه، وهو "الصراع الدائم بين الإبداع والرقابة"، أو الصراع الدائم بين الإبداع والاتباع، إذ الإبداع صنو الحرية، والاتباع صنو الخضوع للسلطة، أو الخوف منها، أو التحسب من شرها. فالأول يدفعها إلى الأعلى لانفراج زواياها، والآخر يسحبها إلى الحضيض ليسحق رقاب المتطاولين على حدوده.
بمعنى الإقرار أن الحرية هي أساس الإبداع، ودرجاتها، أي الحرية الفكرية، هي المعيار الحقيقي لمستوى الفنون جميعها، ومنها الدراما، والتي تتألق عندما تتوسع مساحتها، وتنزاح غمامة الرقابة من فوق رؤوس كتابها ومبدعيها، وهو ما قطفت ثماره جزئيًا الدراما السورية في العقد الأول من الألفية الثالثة، عندما أزاحت "الرقابة" أذرع الأمن من بين لجانها، فشاهدنا على سبيل المثال، "غزلان في غابة الذئاب" للكاتب فؤاد حميرة، ومسلسل "الانتظار"، و"زمن العار"، للكاتبين حسن سامي يوسف، ونجيب نصير، و"يوم ممطر آخر" للكاتبة يم مشهدي، و"على حافة الهاوية"، و"أحلام كبيرة"، للسيناريست أمل حنا، وغيرهم عديد المسلسلات التي وضعت الدراما السورية كرقم صعب بين حاضرات الثقافة العربية، ونافست على الصدارة، لما حملته من صدقية التعبير عن واقع معاش لامس الشعوب العربية عمومًا، وصارت مصدر ربح تجاري وازن.
وعلى الرغم من غياب الحضور "الناقد" للفنان كوسا، والذي اعتدنا عليه في معظم أعماله الدرامية والمسرحية وكتاباته، فقد بدا خلال لقائه الأخير مع قناة العربية كأنه يوضح مواقف وتصريحات سابقة، ويؤكد موقفه الحيادي، وغير النفعي من النظام السوري، أو غيره من أطراف الصراع في سورية، وكذلك اتجاهه التصالحي مع الآخرين من أصحاب الرأي السياسي المحسوبين على ضفة المعارضة، إلا أنه لم ينج من حالة الرهاب الأمني التي دفعته إلى معايرة إجاباته بدقة ميزان الذهب، وقياس درجة حساسية الأمن تجاهها، وبدا ذلك في محاولته التهرب من إطلاق الموافقة على فكرة "تحكم المخابرات السورية بالنصوص الدرامية"، عندما جره مستضيفه الإعلامي خالد مدخلي لسؤال مباشر عنها، ما اضطره للقول بعد نفس عميق "يا لطيف... إذا ربطت مفهوم الرقابة بالمخابرات فهذا ممكن، يعني "إذا" عندهم ناس تقرا..."، رابطًا وجود الرقابة المشددة وتبريرها بالظرف الأمني الصعب في سورية، علمًا أنها لم تترك مكانها لا قبل الثورة ولا خلالها.
في حقيقة الأمر، لا خلاف بين الناس على ضفتي الفصل "المواطني" الذي يروج له النظام بين من هم معه، أو ضده، حول المكانة الفنية لبسام كوسا، وحضوره الآسر في أي عمل فني، أو كما يطلق عليه جوكر الدراما السورية، وهو لقب انتزعه لقدرته على تحويل مسار الأعمال التي يشارك بها، ورفعها لتكون في مصاف المنافسة والمشاهدة، وإذا كان هرب من المواجهة المباشرة في بعض إجاباته، إلا أنه لم يستطع أن يواري تقييمه لسقف الرقابة السورية المنخفض، حتى وإن لم يقلها صراحة، فيكفي أنه وضع يده على مصدر الألم السوري، رغم ديبلوماسية إجاباته، وحذرها، التي يتفهمها الجمهور العربي، حين قال: "إن الفارق في الحريات هو سقف الرقابة" وهو يعرف كما كل السوريين، مدى انخفاضه على كل مستويات الحياة السورية.




وقد يفيد لفت الانتباه هنا بخصوص التريث في وضع البشر بين خانتين، (معي، أو ضدي)، (مع الثورة، أو مع النظام)، (شبيح، أو ثوري)، فالأمر في سورية، وبخاصة لمن يعيش على أرضها، أكثر تعقيدًا من ذلك، وثمة تضاريس كثيرة تحدد الأمر، ونحن نعرف ضغوطات الواقع، وشروطه الموضوعية، والذاتية، سيما مع إحباطات الثورة السورية، وضياع السوريين، وفشل الكيانات السياسية التي تعبر عنهم.
أيضًا، يفيد لفت الانتباه أن الفنان المشتغل في حقل الفنون الجماعية، التمثيل، الإخراج، الموسيقى، الغناء، يختلف عن الفنانين التشكيليين، أو الكتاب الذين يمكن لهم أن يعبروا عن أنفسهم، وأن يوجدوا لهم منابر، أو منصات فردية، تلبي احتياجاتهم البسيطة، في حين يأخذ أي عمل فني جماعي صفة الاصطفاف السياسي، فهو عمل "انتحاري" في حد ذاته، ولا يجرؤ كثيرون عليه، وذلك معروف، ومؤسف، مما نشهده من مصائر الفنانين الذين حسموا موقفهم مع الثورة السورية، ومنهم على سبيل المثال الفنانون عبد الحكيم قطيفان، وفارس الحلو، وسميح شقير، وغطفان غنوم، ولعلنا لا ننسى الراحلتين فدوى سليمان، ومي سكاف، ممن باتوا بالكاد يجدون فرصة عمل تؤمن لهم ولعائلاتهم كرامة العيش.
أي أن المواقف الثورية ثمنها كبير، وليس في استطاعة الجميع اتخاذها، أو الاستمرار فيها، وقد شهدنا اليوم عودة الدراما "التطبيعية" بين عديد من الفنانين المحسوبين على الثورة، مع المصطفين قولًا وفعلًا مع النظام السوري، وكذلك الحال في مجالات الإعلام والثقافة عمومًا، ما يسقط حيادية الفصل في الفن والأدب على أسس ثورية، فنحن لا نستطيع أن نشيد بعمل للفنان جمال سليمان، أو واحة الراهب، وريم علي، ويارا صبري، أو جلال الطويل، لأنهم مع الثورة، ونعتم على إبداع تيم حسن، أو باسم ياخور، أو أيمن زيدان، في الأعمال المشتركة ذاتها، هذا للتوضيح فقط، وليس دفاعًا عن موقف بسام كوسا الذي ظل يحفظ مكانته مثل أي مواطن سوري، في هذا الضياع، من دون أن يقطع مع شعبه.
ولعل ميزة بسام كوسا، بمعزل عن أنه فنان قوي ومتمرس ومجتهد، أنه شخص عصامي، بنى نفسه، وصاغ هويته، فهو ابن بيئة شعبية، ولم ينشأ في عائلة فنية يتكئ عليها، وتمنحه جواز مرور، أو صعود. وذهب الى التمثيل لأنه عشقه، من بوابة المسرح، سيما مسرحية "رسول من قرية تميرة" للاستفهام عن مسألة "الحرب والسلام"، لمؤلفها محمود دياب الكاتب المصري، والتي أخرجها المسرحي الراحل واللامع فواز الساجر، في مناخات ما بعد حربي حزيران وتشرين في السبعينيات، وانطلق كوسا منها، أو بالأحرى انطلق من خمسة مشاهد فقط يمثل فيها دور فلاح بسيط إلى نجوميته الطاغية منذ عقود وحتى الآن.

*كاتبة سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.