}

البطن بستان ورائحة زفر

سليمان قبيلات 4 يونيو 2024
قص البطن بستان ورائحة زفر
(بشیر قنقر، فلسطين)

(1) البطنُ بستانٌ 

لأسبابٍ لا يعلمُها إلّا اللهُ، نشأَ خليل انطوائيًّا صموتًا في أسرةٍ قذفَها اللجوءُ من ريفِ الخليلِ إلى قرية أُردنيةٍ تُطِلُّ على فلسطينَ. 
خليل هذا، آخرُ عنقودِ أُسرَةِ "طه وزكيّة" اللذينِ اختارا بخلافِ رأيِ قريبهما المختار، السّكنَ في هذهِ القريةِ لِطيبِ معشرِ ناسِها. كانتْ دارُ الطينِ التي تسكنُها الأسرةُ الكبيرةُ، في أقصى غربِ القريةِ. فأينما استدارَ المرءُ، لا بُدّ أن تكتحلَ عيناه بمشهدِ "الأرضِ التي سطا عليها غرابُ البين". هكذا كانَ يُردِّدُ الجدُّ موسى. 
كان الصغيرُ خليل لصيقًا بجدّه موسى. كانا يتفاهمانِ بلغةِ العيونِ أكثر. كأنّهما اختارا الخرسَ، لغةً خاصةً. 
كان الجدُّ موسى يجلسُ باكِرًا قُبالةَ فلسطينَ، فيحدِّثُها ويحدِّثُ نفسَه بصوتٍ مسموعٍ. ففلسطينُ كانتْ جليستَه الأنيسةً، بشحمِها ولحمِها وكاملِ حضورِها. في موسمِ الحِراثةِ، يُحدّثُها فيجمعُها وزوجتَهُ الراحلةَ على صعيدٍ، فيقول: يا شفيقة أنا متوكل ورايح أحرث. لا تتأخري عليّ بلقمة الزّاد.
يُجهشُ موسى فجأةً لحظةَ يتذكّر أنه تركَ شفيقة في مقبرةِ بيت جيرين، قبلَ أن يكتسحَ غرابُ البين، البلادَ. لكنّه يعودُ لسيدتَيْ قلبِهِ، القريةِ أو فلسطينَ وشفيقة، فيسترسلُ مع شهقاتِ الوجعِ: "والله ما أطلع من أرضي. خليهم يقبروني فيها، أشرف لي". موسى يختارُ دائمًا، قفلةَ مناجاتهِ لحبيبتيه بـ"والله انهنت يا موسى ورموك مثل الكلب برّا البلاد. كلّنا رمونا".
كنتُ رجلًا وإيدي ما تترك بارودتي. إيه، الزمن قلّاب. والله ما استحوا من شارب، كلنا شتلونا من شروشنا. 
روحُ خليل ذي السنواتِ التّسعِ، تعلّقتْ بمنوال جدّهِ. كان حديثُ الجدِّ، العُروَةَ التي وثّقتِ ارتباط روحِ خليل بفلسطين. 
تقول الأسرة: يا حسرتنا على الختيار، لم يبق في رأسه عقل. 
مع الأيام، تسرّبت فواجعُ موسى ومواجعُه إلى الحفيد خليل، فانغمسَ أكثرَ في الانطواءِ. 
أضافت الأسرةُ: خليل يشبه جدَّه، الخالق الناطق. معنا خرسٌ ومع بعض متفاهمين. 
خليل، أخطأَ دربَ المدرسة، فلم يواظبْ على الذهابِ إليها. كان ذكيًّا ونجيبًا وملفتًا لانتباه معلميه، لكنَّهُ أحجَمَ عنِ"القراية"، من دونَ أن يُفصِحَ. 
قال أبوه: عمره تسع سنين. خليه يساعدني بتلقيط لقمة السّمِّ. زنده قوي ويصير يحفر بيار ويحرث ويسنسل ويعزق أرض الناس. يكفيه أنه يفك الخط ويعرف الحروف. 
 توالت الأيامُ، فصار خليل ملازمًا لأبيه في شغل الحراثة وحفر آبار جمع المياه. اخشوشنتْ يداهُ واشتدَّ ساعداهُ، وحافظَ على انطوائيةٍ تعايشتْ مَعَها الأسرةُ وسلّمَ بها الأَبُ. 
معَ كلِّ ضربةِ فأسٍ، كان خليل يتصوّرُ أنه يُجهزُّ قنبلةً تقتلُ الإسرائيليين، كلَّ الإسرائيليين، بالضبط كما فعلوا ببيتِ جبرين والدوايمة. صورُ الشّهداءِ والشهيداتِ وبطونُهُمُ المبقورةِ، ظلتْ ماثلةً في خياله، لكثرةِ ما سمِعَ تفاصيلَ مأساتِها منْ جدّهِ. حدّثَهُ جدُّه ذاتَ مرةٍ: يا ابني، "فلَتت ومعي اثنين من المقاتلين من طوق عصابات الهاغاناه. شاغلناهم وقت طويل، لكن ما قدرنا نظل صامدين أكثر. كانوا مدججين بالنار، فتخبينا بالبساتين". 
كان وجهُ خليل وهو ينصتُ لِجدّهِ، يمتقعُ على الدَّوامِ ويهزُّ رأسَه وعيناه شاخصتان، كأنّه يواجهُ مصيرَهُ، بلْ كأنَّهُ بينَ الضحايا.
قال لِجدّهِ، فجأةً: احنا يا سِيدي، كمان انبقرت بطوننا مثل الشهدا. 
شخصت عينا الجدِّ، وقالَ بدهشةٍ: الله يقبر عدوّك يا سيدي. من وين جبتها هاذي. والله ما خطرت لي. والله صحيح الهوان اللي نعيشو، أشنع من بَقْرِ البطون. 
ومعَ كلِّ حرفٍ من الجدِّ، باتَ حلمُ ضربِ إسرائيلَ هاجسًا للصّبيِّ. صار خليل يفكّرُ في هذا الخرابِ الذي يعيشُهُ اللاجئُ. أيقنَ أنَّ في صمتهِ، منجاةً من الاشتباكِ معَ الخَواءِ في أجواء الهزيمة التي يتسربلُ فيها اللاجئُ. 
بلغَ خليل الشبابَ، فشهِدَ انطواؤهُ تحوُّلًا. "انحلتْ عُقدَةَ لسانِهِ"، قال إخوتُهُ، الذين لاحَظوا نبرَةً منهُ، تختلفُ عمّا يسودُ على ألسنتِهِم. كان يقولُ بمناسبةٍ ودون مناسبة: "احنا مش رجال. شو سبب قعدتنا، هون؟! ليه ما نروح نفجر حالنا بإسرائيل. هي الدنيا مش أقوى منّا. احنا سلّمنا بالأمر، وهيك انتصر الظلم". 
كان منطِقُهُ يلجمُ كلَّ قولٍ. يُسلّمون بصحَّتِهِ، ويؤيدونهُ، سوى حسن الذي كانَ يقولُ: الأهم نزبّط حالنا مثل قرايبنا في عمّان. صار عندهم مصالح وطلعوا من عيشة البركسات والخشش. كثيرين منهم راحوا على الخليج وما شاء الله!. 
شبَّ خليل عنِ الطوْقِ، وقصَدَ عمّان، بعدَ أنِ انكبّ حَثيثًا على تعزيزِ قراءتِهِ، حتى بلغَ، في أشهُرٍ، مستوًى يؤهلهُ لكتابةِ تداعياتِهِ. خربشَ كثيرًا واحتفظَ بأرشيفهِ الكتابي. كتبَ ما في جوانياتهِ ورصَدَ تحولاتِهِ الخاصّةَ التي قادتْهُ لتشكيلِ تصوّرٍ عنْ حركاتِ المقاومةِ. انضمَّ بعدَها إلى تنظيمٍ مقاومٍ.
عمِلَ في المحاجرِ والورشِ، لكنّهُ استقرَّ في مهنةِ بناءِ الحجرِ، فتحسَّنَتْ أوضاعُ الأسرةِ. تكفّلَ بدراسةِ إخوتِهِ وأراحَ أباهُ منَ الكدِّ. درَسَ إخوتُه وأخواتُه في معاهدِ التدريبِ مِهنًا تُدرُّ دخلًا. تزوجوا وارتحلوا وراءَ الرزقِ في بلادِ اللهِ الواسعةِ. 
تزوّجَ خليل وأنجبَ ولدينِ وبنتًا، نَهجُوا نهْجَ أبيهم. تعلموا وباتوا فاعلِينَ سياسيِينَ، وقرّروا جَميعًا، العودةَ إلى الخليل. صاروا نُزلاءَ دائمينَ في معتقلاتِ الاحتلالِ. كانتْ أحكامُهُم مؤبدةً، غداةَ تنفيذهِم عملياتٍ ضدَّ جيشِ الاحتلال. 
وحْدَهُ حسن التحقَ بالجامعةِ، وعملَ في تجارةِ التجزئةِ ومِن ثَمَّ في تجارةِ الجملةِ، فأصبحَ رجُلَ أعمالٍ وانسلَّ إلى عالمِ مقاولاتِ الإنشاءاتِ. أُختيرَ عضوًا في هيئةٍ تمثيليةٍ وصار يُشارُ إليهِ بالبَنانِ. مُهِّدتِ الطريقُ أمامَهُ بتسارعٍ ليغدو وزيرًا وأولادُهُ يَدرجونَ في عالَمِ المالِ والمناصبِ الكبيرةِ. 
باتر، أحدُ أولادِ حسن، أُنتُخِبَ نائبًا، وصعدَ سُلَّمَ المناوراتِ التي قادتْهُ إلى الوقوعِ في شرَكِ المخابراتِ الإسرائيليةِ الخارجيةِ في أوروبا. 
قاتَلَ خليل في الجنوبِ اللبناني، حتى لحظةَ اجتياحِ إسرائيلَ للبنان. قادَ مجموعةً من الفدائيينَ نكّلتْ بالغزاةِ. لكنَّ إنزالًا جويًّا إسرائيليًّا، طوّقَ المجموعةَ المٌنهَكةَ في حصارٍ استمرَّ أيامًا داخلَ قلعةٍ قديمةٍ. سقطَ تسعةُ شهداءَ، بينما ألقى جنودُ الغزوِ، القبضَ على خليل وثلاثةٍ آخرِين، نقلتْهُم إسرائيلُ إلى معتقلاتِها في فلسطينَ المحتلةِ حتى قضَوْا شهداءَ تحتَ التعذيبِ. 
قالَ محقِّقٌ إسرائيليٌّ لأحدِ أبناءِ خليل يستدرجُهُ: شوف خبيبي، الفرق بينك وبين ولد عمك اللي كان نائب. هو يجول في العالم لأننا ندعم استثماراته ويجيء مُرحّبًا به في الخليل وكل إسرائيل. وأحكيلك هالشي، ولد عمّك بنى فيللا في الخليل وصار من الأعيان. ليش خبيبي ما تغار منو وتنتبه لحالك؟ 
بصقَ الشابُّ في وجهِ المحقِّق. 
ابتسمَ المحققُ واستلّ مسدَّسًا كاتمًا للصوتِ، فأرداهُ.
في الّلحظةِ التي لفظَ فيها الشابُّ أنفاسَهُ، كان ابنُ عمّهِ يقرعُ كأسَ الصداقةِ معَ مسؤولٍ في المخابراتِ الإسرائيليةِ، كانَ هو مَنْ خطَّطَ لاصطيادِهِ في أوروبا!

(2) رائحةُ زَفَرٍ

أشعّتْ عيناهُ بريقًا وهو يمشي بخطًى كليلةٍ في الشارعِ المُتربِ، بعدَ أن صدَم سمعَه، حديثٌ عن طيبةِ صاحِب الدُّكانِ الذي ذبح نعجةً، فتقاطرَ المقتدرونَ ليشتروا "زفَرًا" للعيال.     
سمِعَ ما لا تُخطِئُهُ أُذنُ الملهوف: الرجلُ ذبح النعجة وسيعيدُها تكرارًا، ليُيسِّرَ على الناس، بل ويقبل البيعَ لأجلٍ، ودون زيادةٍ، فبارك الله فيه. 
اشتعلتْ في رأسِهِ صورُ الزّفرِ والقديدِ، فتداعتْ إلى مخيلتِهِ صورُ "سدرِ مَنسفٍ بلحمٍ بلدي"، كثيرًا ما تمنّتهُ الزوجةُ المعلولةُ وصغارُها وهم يبيتونَ على الطوى، عادةً. 
قال في نفسِهِ: سأظفرُ بشيءٍ من اللّحمِ لا مَحالة. صحيحٌ أنّني قصّرتُ بدفع ما عليّ من حساب، لكنّه شهمٌ ولن يصدَّني على مرأى منَ الناس. 
ظلَّتْ أحلامُهُ تلازمُهُ حتى بلغَ الدكان. كانَ مثيرًا أنْ يرى دمَ الذبيحةِ على الأرضِ، و"شبرية" اللّحّام تغوصُ في أعماقِ اللحمِ. 
اقتنصَ لحظةً، فوشوَشَ صاحِبَ الدكان بمطلبهِ. قدحَتْ عينا الرجلِ شررًا، قبلَ أنْ يدفعَهُ: "لما تسكر دينك اللي تتهرب من دفعه". 
وصرخ مولولًا: ما ظل ياكل لحم غير هالأشكال.

* الزّفرُ: رائحةُ اللحمِ ودهنِه.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.