}

ذاكرة نافِدَة لأيّامٍ تالفَة

عباس ثائر 23 يوليه 2024
شعر ذاكرة نافِدَة لأيّامٍ تالفَة
(سعد علي، العراق)

 

1

بيتٌ تستوطنه الذكرى

عندما تركنا البيتَ

كان القفلُ شابًا متكئًا على ذراعيه

وحين عاد أخي ليسترجعَ صدى طفولتِه

وجد القفلَ شيخًا صدِئًا تؤلمُه ذراعاه.

عانقهُ ومرّ نهرُ الدمعِ بينهما:

كان عذرُ القفلِ إنسانًا فقدَ أهلَهُ

 وعذر أخي قفلًا سافرَ مفتاحُه.

 

2

 هواءٌ متعب.

 بعد الطرقة الثالثة فُتِحَ البابُ.

دخلَ دون أن يراه أحدٌ، استلقى في حديقته؛

كان هواءً مُتعبًا فرّ من رئةِ مهاجرٍ.

ما أمهله الشوقُ بقاءً طويلًا؛

عادَ ثانيةً إلى صدرِ صاحبِه،

كان هواءً مُتعبًا، لكنه من سُلالَةِ هواءٍ عذب.

كانتْ أرضُه سجنًا به نهرٌ وحديقة.

وكانتْ غربتُه امرأة وحقيقة.

 

3

شاعرٌ ينبتُ في الغربة.

هذا الولد الذي سينبتُ في الغربة،

مثلي؛

أخطأوا سقايتَه فسافرتْ بذورُه.

كان خليطًا من الأغنيات والنواح، من المطر والبكاء...

كان يبكي، فلْتَعْذروه؛

هذه المرة الأولى التي يدخلُ فيها الشاعرُ - المنكفئ على نفسه- مَجلسَ عراء.

 

4

الرجلُ الذي عادَ ترابًا.

 

كلّما استلقى بينَ يديها،

عادَ لصيرورتِه الأولى.

قالَ لنفسِه:

تُرى، لِمَ يَرْجِعُ الناسُ ترابًا

كلّما كشفوا عن رغباتهم؟

لكنّها

لمْ تأبَهْ لجمعِ الرجل

الذي صارَ ترابًا على جسمِها،

وظلّتْ

تبحثُ عن منديلٍ لتمسحَ أثره.

 

5

مقعدٌ مذهولٌ.

 

ثمّةَ مقعدٌ أخيرٌ فارغٌ في الباص،

يسألُ الراكبينَ: ما معنى الغياب؟

رجلٌ واقفٌ قربَه لا يأوي إليه،

ينظرُ نحوَه، متسائلًا:

ما معنى أن تخلو ممن اعتادوا عليك،

وحين تأخذُني سِنةٌ وإذا ما انتبهتُ

أراني مثلَك، مقعدًا فارغًا؟!

ثمّةَ مقعدٌ فارغٌ، مسكينٌ يستعطفُ واقفًا

ولو أخذَّ الضوءَ واللونَ من عينيه.

مقعدٌ

أخيرٌ

فارغٌ

في الباص.

من أضاعَ نفسَه في الطرقات؟

 

6

حلم في غانا.

 

كان حفلٌ صغيرٌ، ومضى العمرُ

وانقلبتِ الكأسُ، ونادى المالكُ: أُطفِأَ اليومُ.

خرجْنا من الشغفِ، جلسْنا على الرصيفِ،

وظلّتْ أرواحُنا في بيتِه تدور، ومن بيته تقول:

ثقيلٌ على المرءِ أنْ يحملَ روحَه أنّى ثَمِلَ،

كثيرٌ عليه أنْ يأخذَ جسمَه أنّى انْتقل.

كان رأسُها متكئًا على السرير، الذي ضلَّ عن اكتمال الأمنيّات.

ربّما، تلمّسه المالكُ،

ربّما، كانَ يفهمُ في السريِر، ويفقُه في الأجسادِ،

أو العطرِ، فيُرجِعُه إلى جسمِ الذي انسكبَ منه.

كان رأسُها يتكئُ على السريرِ،

بينما اتكأتْ روحُها على كتفِ الله.

غفتْ قليلًا واستيقظتْ.

غفوتُ ومُتُّ في نومي،

مَدتْ يدَها إلى رأسي، عدتُ إلى عمري.

غفتْ مرةً أخرى:

واستيقظَ من نومها السؤالُ:

أيُشبِهُ حُلُمي أحلامَ الآخرين؟

أيُشْبِهَ حُلُمي حُلُمَ أفريقيةٍ في أقصى غانا؟ 

 

7

ماشٍ.

 

هو الآنَ لا يرى؛

حدّقَ في ذاته فأضاعَ النظرَ.

الذين اتخذُوه أُسوةً كانوا مثلَه؛

فقدوا أعيُنَهم حين عادوا إلى أنفسِهم.

اتخذَ الرحيلَ ذريعةً للعيش،

أخذَ بسمةً معه، كان يراها كلَّ صباحٍ على وجهِ أمّهِ،

ونّهرًا قديمًا، يَجرِي معه.

يمشِّي مثلَنا

لكنه

يرحلُ فقط.

 

8

وحيدًا تملأ المرآة شظاياه.

 

تركوه

وحيدًا؛

يرتب سهراتِهم،

أعدّ لهم الشاي والنفوس،

أشعلَ

ضوأينِ

فتحَ النوافذَ كلَّها

ليُغنيَ الهواءُ داخل البيت،

مسحَ مرآةً كبيرةً في غرفة الضيوف،

حدقَ فيها فانكسرَ لفرطِ وحدتِهِ

بينما

ظلتْ

شظاياهُ

تملأُ

المرآة.

 

9

صورةٌ عن الصورة.

 

في الصورةِ

 تقفُ لحظةٌ وحيدةٌ فارّةٌ من دِقةِ الوقت.

في الصورةِ إذا ما ابتسمْنا، نُجرّدُ مِن مشاعِرنا

إذ أننا لا نسألُ لِمَ لا يبتسمُ المصورُ مثلَنا،

في الصورة وحدَها،

يترجلُ الوقتُ برهةً، ثم يطيرُ بلا أجنحة.

في الصورةِ

ننسى كلَّ شيءٍ لأجلِ لحظةٍ خالدةٍ، إلّا إنّها لحظة فحسب.

في الصورةِ

نعيشُ اللحظةَ لحظةً، ثم تصيرُ إلى البقاءِ،

ونصيرُ إلى البقاءِ داخلَها،

ولكنْ أمَا نسافرُ إلى الحَتْفِ بعدَ إنْ يُنهي المصورُ لقطتَه؟

في الصورةِ خطأ فاتنا أن نُدْرِكَه:

ما سألنا لِمَ لا يَنْمُ الوقتُ في الصورةِ

مثلَما ينمو خارجَها؟

 

10

قَتلتْه الفطنّة.

 

زرادشت

يعرفُ أنَّ غودو يفقَه الانتظارَ

تمرينُ اليائسينَ على مشقةِ الأمل.

كان فظًًا غليظَ القلبِ؛

فانفضضْنا من حولِه،

مسكينٌ ابنُ آدم،

قالَ حكيم وهو يَهَبُ حكمتَه.

انتظرْنا غودو،

زرادشت،

انتظرْنا من غابوا لحكمةٍ،

ومنْ غابوا لخوفٍ

انتظرْنا الوطنَ - الرفَّ الذي علَّمنا الصبر-

الرفَّ الذي قصّرتْه الأيدي

وغضّتْه العيونُ

ولمْ يأتِ...

تُرى أيُضيفُ الوهمُ عمرًا للآملين؟

أيُنصفُ الإنسانُ نفسَه كلما لاحَ ضوءٌ قليلٌ أو بعيد؟

عندَ الانتظارِ تموتُ النبوءاتُ

وتُصادرُ الأحداس.

غودو لمْ يأتِ...

زرادشت لمْ يأتِ...

ترُى ما الذي يريدُه الإنسانُ من الانتظار؟

 

11

فضيلة الخطيئة.

 

كانتْ تدفعُني أن أرتكبَها

وكلّما زاغتْ يدي عن ضميري انحازَ قلبي ليدي:

أنِ ارتكبْها؛

الخطيئةُ ألذُ الفضائلِ ما لمْ تلُذْ بالتبرير.

كان خَصْرُها،

يسحبُني فأسقطُ صَلصالًا

ليُعيدَ تصويريَ من جديد.

ذراتٍ

من ترابٍ

متناثرٍ،

ثم طينًا

يصير المرءُ ما إن يلامسَهُ جسدٌ رطب.

في تلك اللحظة،

كنتُ

من خلقِها،

نَفختْ

فيَّ

من جسدِها

فأنبثقتُ

روحًا

وحشيةً،

وها أُحطمُ الآن صورتي،

وأعلنُ

قيامي.

 

*شاعر عراقي.

 

قصائد اخرى للشاعر

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.