}

في ظاهرة "الكتب الأكثر مبيعا"...

يحيى بن الوليد 28 ديسمبر 2017

المؤكد أنّ الخوف الذي طاول ظهور الفوتوغرافيا، باعتبارها أوّل وسيلة في ثورة الاستنساخ، وبإزاء عرش التصوير الزيتي، هو الخوف الذي طاول ظهور المطبعة في القرن الخامس عشر الميلادي نتيجة القطيعة مع أشكال من النسخ والوراقة التي عرفتها مجتمعات وثقافات في فترات أو عصور سابقة.    

 

ظهور الكتاب وتطوّره، وفي إطار من تكنولوجيا الطباعة، أدّى إلى تحوّل جذري في مجرى التاريخ ككل وليس الثقافة بمفردها. ولذلك رأى فريق أوّل في ظهوره ما يوفّر طرق الوصول للمعرفة والفكر جنبا إلى جنبٍ مع توفير الخلوة للقارئ الذي كان يجهد في البحث عن العلم عملا بالقول العربي (المأثور) "إذا أردت أن تعرف شيخك فجالس غيره". وهذا في الوقت الذي رأى فيه فريق ثانٍ، في ظهور الكتاب دائما، وفي تسجيل كل ما هو قابل للتسجيل على الورق ابتداءً، ما يفضي إلى نحر الذاكرة وقبل ذلك استئصال الشفاهية. ومردّ ذلك كلّه، وسواء في حال الفريق الأوّل أو الثاني، إلى ما يمكن نعته بـ"الحضور الذاتي المستقل" للكتاب وبخاصّة من ناحية ما تحدثه الكتب في حدّ ذاتها من معرفة ومن ناحية ما تخلقه من "عوالم" مغايرة وقائمة بذاتها. ومن ثمّ، وفي تلك الفترات، حالات الخوف والمحاصرة والمصادرة والإحراق... وغيرها من الحالات الغالبة في التعامل مع الكتب مقارنة مع حالات احتضان الكتب والترحيب بأصحابها.

 

ولعل أهم ما ينبغي التشديد عليه، هنا، ليس هو السند الأنثروبولوجي لإشكالية الموقف من الكتابة التي ظلّت رديفا لـ"الفساد" لدى المجتمعات البدائية. ما ينبغي التشديد عليه، هو ما أتاحه الكتاب ــ في سياق "التقنية" ككل ــ من إمكانات ظهور لشرائح أخرى من المجتمع في مقدّمها شريحة النساء من المحكوم عليهن بأشكال من الحريم والقمع والحرمان... من نعم أو مستحقات كثيرة ضمنها القراءة. واللافت كذلك، على طريق الانقلاب الذي وفّره الكتاب، هم العبيد أيضا. وليس العبيد، هنا، من ناحية حلم العبور (العملي) نحو ضفاف الحرية فقط، وإنما من ناحية (وكما قيل) "النفاذ إلى إحدى أقوى الوسائل التي يمتلكها أسيادهم، وهي: الكتاب". فالكتاب لم يعد ملكا للأسياد ونسائهم وحاشيتهم، ومن ثمّ الدور الثوري للمطبعة في إطار "الطابع السياسي" (المضمر) للتقنية؛ وهو ما ناقشه فالتر بنيامين بدقة في مقاله الرائد والمرجعي "العمل الفني في عصر الاستنساخ الميكانيكي" (1936).

 

وفي ظل المجتمعات الجماهيرية والاستهلاكية، وفي إطار من الثقافة الجماهيرية المتزايدة، وفي إطار نوع من "الرأسمالية الثقافية" أيضا، كان لا بدّ من أن يتغيّر الكتاب جذريا. وكان لا بد من هذا التغيير ليس من ناحية إخراج الكتاب فقط، أو بالأحرى من ناحية صناعته، وإنما من ناحية تلقيه وتداوله واستعماله... وصولا إلى استهلاكه. ودور التكنولوجيا الجديدة، هنا، دور حاسم... ليس على مستوى تعميق معدلات الاستهلاك فقط، وإنما على مستوى الكشف عن النسق الكلي للثقافة الجماهيرية وعلى مستوى توسيع دوائر انتشارها واستهلاكها. ومرّة أخرى لا بأس من التشديد على الثقافة الجماهيرية في حضورها شبه الذاتي والمستقل دون خلطها بالثقافة الشعبية ودون جعلها ــ في الوقت ذاته ــ بمعزل عن ثقافة النخبة. وذلك كلّه حتى لا يتمّ حشر الثقافة الجماهيرية ضمن خانة "الثقافة الهابطة" و"الثقافة غير المصنفة" بالاصطلاح التبخيسي للعبارة.

 

ومن ثم دور الكتاب، وقبل ذلك مكانته الضرورية أيضا، ضمن رزمة وسائل الثقافة الجماهيرية إلى جانب الفيلم السينمائي والبرنامج الإذاعي والصحف  والمجلات... إلخ. وهو ما يستلزم ارتكاز الكتاب على مرتكزات الصناعة الثقافية في ارتباطها بالسوق والتكتّلات الإعلامية وفي إطار من الثقافة ذاتها التي عادت إلى "مقدمة المشهد" خلال النصف الثاني للقرن العشرين. إضافة إلى حضورها الذي لا يزال في تزايد متصاعد حتى الآن. ولعلّ ما يهمنا، أكثر، هو تشابك الكتاب ذاته مع الثقافة ذاتها. ذلك أن الكتاب (ووفق تصوّر محدّد لهذا الأخير) يسهم في تكريس وترسيخ الصورة الإجمالية ذاتها للثقافة عن طريق عمليات التكييف والتلوين والتوليد... وصولا إلى التأثّر المتبادل بين الطرفين وبخاصة في ظلّ "المجتمع المصنّع" (بالتعبير الماركسي غير الساخر) الذي يجعل هذا الصنف من التأثير سلسا.

 

ويبدو مفيدا التأكيد على أنه عندما نتكلّم عن الثقافة فإننا نتكلّم عنها في لحظة بعينها  كما يجادل المؤرخ الثقافي الأمريكي مايكل دينينغ (Michael Denning) في كتابه "لثقافة في عصر العوالم الثلاثة". وهو ما جعل الثقافة في لحظتنا خاضعة لـ"قواعد الإنتاج الكبير". ومن ثمّ أصبحت للكتل الجماهيرية ثقافة وأصبحت للثقافة كتلة (ترجمة: أسامة الغزولي ص15). ولحظة "الثقافة في عصر العوالم الثلاثة"، من منظور الكتاب نفسه، هي لحظة الثقافة في عصر الإيديولوجيا الأمريكية التي كشفت عن درجات جدّ متقدمة على مستوى تصريف "الثقافة الجماهيرية" وإن في سياق امتلاك وسائل الإعلام ومن حيث هو سياق للتطويع والهيمنة والسيطرة... على محطات الإذاعة وشبكات التلفزيون والصحف  والمجلات وصناعة السينما ودور النشر. وذلك كلّه في إطار من معادلة "الإعلام والمجتمع" كما يناقشها، وعلى سبيل التمثيل، آرثر بيرغر (Arthur A.Berger) في كتابه "وسائل الإعلام والمجتمع". غير أن "المركزية الأمريكية" لا تنفي لوازم الثقافة الجماهيرية عن مجتمعات مختلفة ضمنها المجتمعات العربية رغم تجاربها الحداثية الخليطة ورغم جدلياتها الاجتماعية الهجينة.

 

إن ما كان يشار إليه من هوامش لظواهر القراءة في "المخابئ" هو ما صار مكشوفا. وصارت النساء كما الرجال في الواجهة من العمارة أو البنيان الذي هو بنيان اقتناء الكتب وقراءتها في الهوامش الحميمية والفضاءات العمومية على السواء. صار الكتاب جزءا لا يتجزأ من المجتمع، بل صار "مؤشّر ثقة" في قياس معايير المجتمعات. ولذلك وجدناه في مكتبات البيع وفي أسواق التبضع، وفي قاعات الانتظار وفي المطارات والمحطات والعيادات. وفي جميع الأحوال تأكدت القراءة كأفعال ومعايير وتقاليد... وهذا بغض النظر عن محتويات المقروء وظروف القراءة. ومعدّلات القراءة، ومن وجهة نظر سوسيولوجيا الثقافة، دالّة في هذا المجال.

 

ومن منظور الثقافة العربية، ومن ناحية لغة الأرقام هاته، وفي إطار من فهم محدّد لـ"الكتاب الجماهيري"، يبدو لنا مفيدا أن نعرض لموقف ناقد عربي مكرّس ومحسوب على النقد الثقافي الذي نفيد منه في مقاربتنا للثقافة الجماهيرية والمجتمع الجماهيري ككل. والناقد المعني، هنا، هو الناقد السعودي عبد الله محمد الغذامي ومن خلال كتابه أو بالأحرى كتيبه الشيّق والمفيد بعنوانه المركزي "اليد واللسان" وبعنوانه الفرعي والتوضيحي "القراءة والأمية ورأسمالية الثقافة" (2006). يقول (ونستحضر نصه على طوله لأهميته): 

 

"والحق أن ظاهرة الكتب الأكثر مبيعا في الغرب ليست علامة على القراءة الجادة، ولكنها علامة على المكاسب المادية وعلى الاستهلاك السطحي للكتاب، وتلك النوعية من الكتب هي كتب ساذجة وبسيطة وليست كتبا في المعرفة ولا في الثقافة العليا ولا في الثقافة الجادة، وهي إلى الاستهلاك وصناديق النفايات أسرع منها إلى العقول وكثيرا ما يترك الناس هذا النوع من الكتب على كراسي الانتظار في المطارات وعلى مقاعد الطائرات والقطارات للتخلص منها بعد التسلي بها لساعات، وهي كتب تباع عادة في أكشاك المطارات ومحطات السفر بعامة، وتصاحب الجرائر اليومية في مواقع بيعها، أي أنها كتب يومية كالجرائد اليومية، ولغتها ومستواها هي لغة الصحافة ومستوى الصحافة، وهذه مسألة لا بد من الأخذ بها، لكيلا نخلط بين الجاد والبسيط" (صص24 ــ 25).

 

ومن اللازم، وتفاديا لأي ضرب من الاجتزاء والإهدار للسياق، أن نشير إلى أن كلام الناقد ورد في إطار المقارنة بين الغرب والعرب وعلى خلفية "وهذا أمر يتمّ من باب التبكيت على العرب حينما تجري مقارنة الأرقام" (بلغته). وكلام الناقد، هنا، وعلى هامش "ظاهرة الكتب الأكثر مبيعا"، ليس غريبا في السياق الغربي ذاته. ونجد كتبا كثيرة تعالج الموضوع نفسه وبخاصة من منظور الاختصاص الذي يفيد من "علم اجتماع المعرفة" الذي يبحث في طبيعة "المعرفة" التي تقف وراء انتشار هذا الكتاب أو ذاك وفي شكل ظاهرة اجتماعية.

 

وكلام مثل كلام الغذامي مألوف في الكتابات العربية وسواء من منظور الكليشيهات والأحكام التي تلحّ على تبخيس "الكتب الأكثر مبيعاً" بحجة أنها تباع "اليوم وليس غداً" وأننا نعيش "زمن "أوسع الكتب انتشارا" التي ينتمي معظمها إلى خانة "الكتب الرديئة" أو من منظور الكتابات النقدية الجادة التي من المفروض فيها أن لا تخلط ما بين "الكتب الرائجة"  و"انتفاء القيمة" ولا لشيء إلا لأن الكتب الرائجة تبدو كما لو أنها منشورة بدافع "انتفاء القيمة". وقبل ذلك تجدر الإشارة إلى الناشرين، من الذين يقدمّون أنفسهم أحيانا أوصياء على الحقل الثقافي ومن الذين لا تروقهم الكتب الرائجة بحجة أنها تندرج ضمن "الكتاب الخفيف" وهو كليشيه أرحم مقارنة مع كليشيهات أخرى. وكان تيودور أدورنو، وفي سياق نقد "الصناعة الثقافية" ونقد الثقافة الشعبية بعامة، قد انتقد "الفن الخفيف" نتيجة تحكم نسق الترفيه فيه ونتيجة ارتهانه ــ بالكلية ــ لدوائر الاستهلاك. 

 

ويظهر أنه ما يزال كثيرون يحتكمون إلى منظور ثنائي/ ضدي في التعامل مع الكتب الرائجة، دونما استناد إلى أيّ صنف من التقدير لـ"المعرفة" التي ترتكز عليها هذه الكتب وبالقدر ذاته تفسح لتداولها وانتشارها ورواجها على نطاق واسع رغم آنية هذه الكتب وعبورها... وصولا إلى تنفيسها عن أشكال من المكبوت الجنسي والديني والسياسي والاجتماعي... إلخ.   

 

ويبقى أن نسأل الآن: ألا تحتمل الكتب الرائجة قدرا من النقاش في ضوء مفهوم "القيمة" ذاتها. ونقصد القيمة الأدبية أو القيمة الفنية حتى لا نخلطها بالقيمة التبادلية التي غطّت على القيمة الاستعمالية نتيجة صنمية السلعة وتجريف التشييء. وكان الناقد المصري جابر عصفور قد عالج الموضوع بتفصيل من خلال مقال موسوم بـ"الرواية الرائجة والقيمة" (2010) جاء مباشرة بعد نشره لمقال سابق تحت عنوان "ظاهرة الرواية الرائجة" (2010). يقول: "يبدو أن بعض الأصدقاء فهموا من مقالي عن الرواية الرائجة أنني ضد فكرة الرواج في وجه عام، وهذا غير صحيح، فما قصدت إليه، ولا أزال، هو أن فكرة الرواج شيء والقيمة الإبداعية الأصيلة شيء آخر وقد يلتقي الاثنان في بعض الأعمال الاستثنائية، كما حدث في قصائد محمود درويش، أو روايات نجيب محفوظ، أو بعض روايات جمال الغيطاني وبهاء طاهر وصنع الله إبراهيم وإبراهيم أصلان وغيرهم من كتاب الرواية المبدعين على امتداد الوطن العربي".

 

فمن الجلي، إذن، أن الرواج لا يتعارض والقيمة في حال بعض الكتب. ومن ثمّ فقول الغذامي هذا: "وأخيرا أقول إن مصطلح (الأكثر مبيعا) هو مصطلح في التسويق وفي نسق الاستجابات، وليس مصطلحا في القراءة والثقافة والفكر، ولكل من هذين مجاله وعالمه وخصائصه، ولا يصح علميا ولا منهجيا أن نضع هذا بجوار ذاك" (ص70). هو قول لا يخلو من "قطعية" و"ثبوتية" ولا يخلو من عدم تقدير للثقافة الجماهيرية التي تقف وراء رواج كتب محدّدة نتيجة اعتبارات محدّدة لا تخفى عن ذهن الغذامي نفسه بل يشير إليها ببعض التفصيل مثل الشفاهية والمباشرية والتفاعلية... في سياق تطبيقه لمفاهيم "ثقافة الصورة" على هذه الكتب.

 

والظاهر أن الكتب الرائجة ليست دائما في حاجة إلى وسائط إعلامية، وهو ما يشير إليه الغذامي أيضا في أثناء حديثه عن كتاب "لا تحزن" لصاحبه الشيخ عائض القرني الذي حقّق مبيعات عالية فاقت ثلاثة ملايين نسخة في العالم العربي ومن حيث هو عالم لا ينتج أكثر من نصف ما ينتجه أصغر بلد في الوحدة الأوروبية وهو بلد بلجيكا الذي لا يتجاوز عدد سكانه 12 مليون نسمة. وإذا كان الغذامي لم يبلغ حد السخرية الجاهزة من صاحب الكتاب، وبدءا من اسمه (القرني) كما فعل البعض، فإنه قرن رواج الكتاب بـ"ثقافة الاستشفاء" وبدافع مواجهة القرّاء لأحزانهم أو ظاهرة الحزن (ص46).

 

وكتاب "لا تحزن" نموذج لكتب كثيرة، في الجهات الأربع من العالم، تساير ما يمكن نعته بـ"طوفان الثقافة الجماهيرية". ولعل ما يستوقف، هنا، هو فكرة الكتاب في حد ذاته. وإذا كانت الناقدة الثقافية المصرية شرين أبو النجا تقول: "الأنترنت نجح على المستوى الثقافي والسياسي في أن يقيم مجالا موازيا قائما بذاته" فإن ذلك لا ينفي دور الكتاب وعلى وجه التحديد من ناحية حضوره الذي يصل من بين الأداة والإنتاجية. ذلك الحضور الذي لا مجال فيه لـ"كتاب الرمل" أخذا بعنوان الكاتب الساخر لويس بورخيس. الكتاب القابل للذوبان في أيّ لحظة.

 

وما يهمّ الجماهير ليس تلك "الكتب الجميلة  المكتوبة (دوما) بنوع من اللغة الغريبة" بتعبير مارسيل بروست وليس تلك "الكتب البشرية" بتعبير فلوبير والتي تعيد تشكيلنا وتخلق طبيعة ثانية لنا. وكما أن أفكارا أو أقوالا مثل  "إن العالم وجد لكي يوضع في كتاب جميل" (مالارميه) وأن "الكتاب أهم شيء في الكون بعد الإنسان" (أرسطو) و"الكتاب يمكن أن يكون شيئا عظيما مثل المعركة" (ديزرائيلي) و"إن مشقة قراءة كتاب جيد تعادل مشقة كتابته"... وغير ذلك من مئات الأقوال... لا تكترث بها هذه الجماهير.

 

ما يهم هذه الجماهير هو تلك الكتب التي تحرّك الفرح الإنساني وتلامس الهمّ الاجتماعي من خارج تراتبية الأنواع والمعارف واللغات. الكتب التي هي في غير حاجة إلى وسيط أو وسطاء والتي لا تحتاج إلى شارح أو محلّل أو مفسّر أو مترجم أو منظّر. الكتب التي تفسح للقراءة الوظيفية وتخاطب العين والأذن أو "الفكر والقلب" بتعبير نجيب محفوظ. الكتب التي تخدم الجماهير وتوفّر لها تأكيد حضورها وفي غفلة من المثقف التقليدي أو نقيضه الحداثي.

 

 

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.