}

الواقع في مرآة الأدب والفنّ!

عيسى مخلوف 12 نوفمبر 2018
آراء الواقع في مرآة الأدب والفنّ!
عمل لخوان ميرو

 

منذ أقدم العصور، ربطت بين الفنّ والشعر علاقة قويّة، وكان كلاهما يطمح إلى تأدية دور الوسيط بين الإنسان والطبيعة، الإنسان والعالم، ولاحقًا، بين الثقافات المختلفة. كيف لا وهُما، مع الموسيقى والفنون الأخرى، الأقرب إلى ما يعتمل في أعماق الكائن. في القرن الخامس قبل الميلاد، قال الشاعر اليوناني سيمونيدس إنّ "الشعر لوحة ناطقة في حين أنّ الرسم قصيدة صامتة". ولقد عُرف هذا الشاعر بعبارته الشهيرة: "هزمناهم ليس حين غزوناهم، بل حين أنسيناهم تاريخهم وحضارتهم".

مواكبة النصوص الأدبيّة، شعرًا ونثرًا، للفنّ التشكيلي، ليست حدثًا جديدًا. وإذا كانت قد شهدت اهتمامًا كبيرًا في أوروبا منذ ابتكار المطبعة، وراجت في فرنسا بالأخصّ، منذ القرن التاسع عشر، مع شعراء وفنّانين طليعيين، وفي مقدّمهم شارل بودلير، فهي معروفة أيضًا في منمنمات ومخطوطات قديمة ترقى إلى مئات السنين، ومنها المنمنمات العربيّة والإسلاميّة التي شكّلت أحد فنون الكتاب، وتجلّت في كتب ومخطوطات كثيرة نذكر منها، على سبيل المثال، "كليلة ودمنة"، "مقامات الحريري" و"كتاب الملوك" للفردوسي، هذا بالإضافة إلى ما أوحت به "ألف ليلة وليلة" في عالم التصوير وسائر الفنون.

كم من الفنانين انطلقت أعمالهم من قصيدة أو نصّ أو أسطورة، وكم من الشعراء والكتّاب استوحوا الأعمال الفنّية، شرقًا وغربًا. الحركة الدادائيّة أدخلت القصيدة في اللوحة، وبعض اللوحات تتبعثر فيها الكلمات والأحرف كومضات وإشارات، والحركة السوريالية أولت اهتمامًا كبيرًا بالفنّ. وإذا كانت الرسوم وصفيّة وتزيينيّة في بعض المنمنمات، فهي ليست كذلك في الكتب التي تجمع بين دفّاتها الشعر والرسم، وتهجس بالحوار وكونيّة الإنسان، كما تقوم على مبدأ التفاعل والتكامل كأنّها أغنية واحدة من حناجر عدّة. وهذا ما يطالعنا اليوم في المعرض المقام في متحف مدينة سيت في الجنوب الفرنسي ويضمّ مئتي لوحة (من مجموعة المتحف الخاصّة) مرفقة بمئتي قصيدة لشعراء من مختلف الدول، بما فيها العالم العربي.

لقد وقع اختياري على لوحة "أشجار الزيتون" للفنان الفرنسي رونيه سايسّو (١٨٦٧-١٩٥٢) الذي كان أحد مؤسّسي المدرسة التوحّشيّة التي عملت على تحرير الألوان واهتمّت بالضوء والبناء العامّ للّوحة، ومن روّادها هنري ماتيس وجورج براك. وقد استلهمت هذه المدرسة أيضًا تجارب عدد من الفّنانين، منهم فنسان فان غوغ وبول سيزان وبول غوغان. وبالفعل، عندما رأيتُ، المرّة الأولى، إحدى لوحات سايسّو في متحف "أورسيه" في باريس، فكّرتُ على الفور في أعمال فان غوغ التي تتناول الموضوع نفسه: أشجار الزيتون في منطقة البروفانس في الجنوب الفرنسي، علمًا بأنّ لكلّ منهما أسلوبه الخاصّ، مع رغبة صارخة عند الاثنين في الابتعاد عن التقاليد الفنّية السائدة. وقد يكون الجامع الآخر أنّ الأشجار الماثلة في اللوحة رسمتها يد الفنّان مباشرةً بعد مرور العاصفة.

اخترتُ هذه اللوحة ليس لجماليتها وجرأة خطوطها وألوانها، بل، وفي المقام الأوّل، لحضور أشجار الزيتون فيها. لقد أحالتني إلى تلك الأرض المعذّبة والمحروقة، وإلى نزاعات العالم وحروبه، وخصوصًا في منطقة الشرق الأوسط.

كان الهاجس الذي يكمن في خلفيّة النصّ الذي كتبتُه ليواكب لوحة رونيه سايسّو في المعرض، هو تبيان الفرق بين نوعين من أشجار زيتون، شجرة تنمو في تربة الوحل والدم، وأخرى تأتي بها الألوان من مكان آخر يشي بالجمال والروح. وجها جانوس! وجهان متعارضان يعبّر كلّ منهما عن المغامرة الإنسانيّة في أبعادها السلبيّة والإيجابيّة معًا. وهل من حاجة إلى القول، هنا، إنّ وظيفة الفنّ ليست محاكاة الواقع أو تجميله، بل العمل على تعريته، ورؤيته من الداخل، وكشف وجوهه الخفيّة؟

يقول نيتشه: "لنا الفنّ حتى لا نموت من الحقيقة". لماذا لا نقول أيضًا إنّه لا توجد حقيقة واحدة بل حقائق لا تُحصى، ولا توجد فكرة واحدة بل أفكار، ولا رؤية واحدة بل رؤى، ولا ديانة واحدة بل أديان. ومن يريد أن يفرض حقيقة واحدة يعلن الحرب.

أليس في مقدور الإبداع الأدبي والفنّي أن يفعل شيئًا آخر؟ فهو يستطيع، انطلاقًا من طريق واحد، أن يفتح طرقات جديدة، آفاقًا أخرى تسألنا وتسائلنا، وتوسّع من حولنا الواقع الذي نعيش ضمنه. بابلو نيرودا، بتوجّهه الإنساني الملتزم، اعتبر أنّ الشعر فعلُ سلام. "الشعر يولد من السلام مثلما يولد الخبز من الطحين"، كان يقول. فعلُ سلام هو، كبقيّة الفنون، لكنه لا يستطيع أن يفرض السلام. يلوّح به من بعيد كشعلة تفيض في قبضة اليد. يشير إليه بصفته احتمالًا آخر للعيش ولبلوغ فرح الوجود. إنّها أمنيات الكائن الأعزل الذي لا تزال لديه القدرة على الحلم.

 

 

 

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.