}

من إشبيلية القرن السادس عشر إلى فلسطين

عيسى مخلوف 21 مارس 2024
آراء من إشبيلية القرن السادس عشر إلى فلسطين
"إشبيلية في القرن السادس عشر"، ألُونسو سانتشس كُوِيُّو، 1576

 

منذ أيّام قليلة، أزهرت أشجار النارنج في حدائق إشبيلية وشوارعها وساحاتها العامّة، وفاح عطرها في الأرجاء. أكثر من أربعين ألف شجرة تمنح المدينة خصوصيّة لا تفارق الذاكرة، وتحتضن معالمها ورموزها الكثيرة، وفي مقدّمها برج الخيرالدا الذي كان في الأصل مئذنة بُنيت في عهد الموحّدين، نهاية القرن الثاني عشر. أمّا القرن السادس عشر فهو بوّابة إشبيلية إلى العصر الحديث، ولا يمكن دخول المدينة، حتّى الآن، إلاّ عبر هذه البوّابة التي دخلها، ذات يوم، كولومبس عائدًا من رحلته الأولى إلى القارّة الجديدة. ولقد اصطحب خمسة رجال "متوحّشين"، وفقَ وصفه، من تلك الأراضي البعيدة لإثارة دهشة أهل البلاط وإعجابهم. حمل معه أيضًا طيورًا ملوّنة وغريبة الشكل، إضافةً إلى بذور نباتات لم تكن معروفة في أوروبا.

بين ضفّتي نهر "غواد الكبير" الذي يقسم المدينة قسمَين، وبالقرب من "برج الذهب" المنتصب هناك منذ مطلع القرن الثالث عشر، التقى الفاتحون والجنود والمغامرون والمهمّشون والحالمون بالثراء، وتجمّعوا حول البحّارة المستعدّين للسفر نحو الأرض التي أشرقت فيها شمس الذهب. في تلك الفترة، شهدت إشبيلية ولادة جديدة تتجذّر أسسها في الماضي الروماني والإسلامي، وأصبحت عاصمةُ الأندلس صلةَ وصل بين القارة الجديدة والقارة القديمة. كان الذهب الآتي من أميركا المكتشَفة حديثًا، يتدفّق مع ماء النهر. وكانت المدينة تزهو وتزدهر، اقتصاديًّا وعمرانيًّا وثقافيًّا، لتصبح نقطة جذب عالميّة. لكنّها كانت، في الوقت نفسه، جامعةَ التناقضات: الفضول العلمي وشدّة الحماسة الدينيّة، التجارة الناشطة والبطالة، الأسياد والعبيد، الثراء الفاحش والفقر المدقع، المعدن الثمين والوحل. لذلك سمّيت "بابل إسبانيا" و"مستودع كلّ كنوز الغرب".

مدينة التجارة والمال كانت تعيش أيضًا مرحلة انتعشَ فيها الإبداع الأدبي والفنّي. هنا وُلدت التحفة الأدبيّة "دُون كيخوتيه دي لا مانتشا" للكاتب الإسباني ميغيل دي ثيربانتس، وتُعدّ أوّل رواية أوروبية حديثة وإحدى العلامات المضيئة في الأدب العالمي. وصل ثيربانتس إلى إشبيلية في العام 1587، وسُجنَ فيها بسبب اتهامه باختلاس المال العامّ بعد التأكّد من ورود مخالفات في حساباته. في السجن، كتب روايته وتَصوَّر شخوصها والإسمَين البارزَين: دون كيخوته وسانتشو، وهما رمزان يتجاوزان الحكاية ليعكسا التناقض الحميم والمؤلم في حياة الإنسان، بل في الحياة البشريّة جمعاء. في أحد فصول هذه الرواية، وضع ثيربانتس على لسان دون كيخوتيه العبارة الآتية: "لا أستطيع الذهاب إلى إشبيلية ولا ينبغي أن أفعل ذلك". ضمن هذا الاتجاه، كتبت تيريزا الآبليّة، وهي الوجه البارز للتجربة الروحية في إسبانيا، لتحذّر من المدينة المفتوحة على الفجور والقداسة وعلى الاحتمالات كلّها.

في إحدى ضواحي هذه المدينة، يرقد رفات الفاتح الإسباني إرنان كورتيس الذي سحق، بأسلحته ووحشيّته، حضارة الأزتيك القديمة التي نشأت فوق رقعة جغرافية تُعرف اليوم بالمكسيك. في إشبيلية أيضًا، وُلد الراهب الدومينيكاني، الكاتب والمؤرّخ برتولوميه دي لاس كاساس، الذي عبر المحيط الأطلسي وكان شاهدًا على الطغيان الذي أودى بحياة ملايين الرجال والنساء والأطفال. لقد وقف بجانب الهنود الحمر ضدّ الظلم الذي تعرّضوا له، واحتجّ على قتلهم واستغلالهم، وقدّم وثيقة تاريخية في كتاب صدر في العام 1552 وعنوانه "وصف مختصر جدًًا لتدمير جزر الهند" كشف فيه حقيقة ما وُصفَ باكتشاف أميركا، وتتمثّل هذه الحقيقة في الاستعمار.

جرت إبادة الهنود الحمر بحجّة أنّ أرواحهم "ليست كروح الإنسان، بل هي حيوانيّة لا تستحقّ النعمة ولا يشملها الخلاص الإلهي". كانت هذه الحجّة هي الغطاء الديني لعملية إبادة منظّمة الهدف منها الاستيلاء على الأرض وثرواتها الطبيعية، وإخضاع أهلها الأصليين بقوّة السلاح واستعبادهم في واحدة من أرعب محطّات التاريخ الإنساني.

برتولوميه دي لاس كاساس، صاحب النزعة الإنسانيّة، انتقد شعبه والمَلَكيّة الإسبانيّة في ذلك الزمان، مثلما يفعل اليوم كتّاب ومؤرّخون إسرائيليّون متنوّرون ومنهم، على سبيل المثال، المؤرّخ إيلان بابيه الذي عُرف بكتابه المرجعي "التطهير العرقي في فلسطين"، المُترجَم إلى لغات عدّة بما فيها اللغة العربيّة.

ما حصل للهنود الحمر، يحيلنا إلى ما يتعرّض له الشعب الفلسطيني منذ 75 عامًا، وما تعيشه غزّة والضفّة الغربيّة الآن، وهذا ما عبّر عنه محمود درويش في قصيدته "خطبة "الهندي الأحمر" – ما قبل الأخيرة – أمام الرجل الأبيض": "ألا تحفظون قليلًا من الشعر كي توقفوا المذبحة/ ألم تولدوا من نساء؟ ألم ترضعوا مثلنا/ حليبَ الحنينِ إلى أمّهات؟ ألم ترتدوا مثلنا أجنحة/ لتلتحقوا بالسنونو. وكنّا نبشّركم بالربيع، فلا تشهروا الأسلحة!/ وفي وسعنا أن نتبادل بعض الهدايا وبعضَ الغناء/ هنا كان شعبي، هنا مات شعبي"، ليخلص إلى القول: "سيرجع شعبي هواءً وضوءًا وماء".

عشيّة عودتي إلى باريس، أَعبر جسرًا فوق نهر "غواد الكبير" كأنني أعبر من زمن إلى آخر، من القرن السادس عشر إلى القرن الحادي والعشرين، إلى الأرض المحتلّة والذين يُقتلون فيها أمام عيوننا كلّ يوم، ولا أدري إن كانوا يموتون فعلًا أو أنهم يستعدّون لمستقبل أجمل.

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.