هذا "مَسْحٌ" تمهيديّ و"جُملةٌ" أولى في مسألة الرواية العربيّة داخل سياقات الجوائز المخصصة لها، و"وقائع" التحولات التي أحدثتها تلك الجوائز على الرواية بوصفها "كتابة فنيّة وجِنْساً إبداعيّاً" في المقام الأوّل.
لماذا الجائزة؟
ثمّة هدفان أساسيان معلَنان رافقا إطلاق جائزة "بوكر" بوصفهما الإجابة عن سؤال لماذا هذه الجائزة؛ وهما: تنشيط وتحفيز الروائيين على مواصلة كتابتها والكشف عن أسماء جديدة تعززها، وتوسيع قاعدة قُرّائها وحثّ الناشرين على إصدارها. ونحن، إذا عدنا إلى سبب إطلاق النسخة البريطانية الأصليّة للجائزة (مان – بوكر)، فإننا نراها ولدت لهذين السببين تقريباً عام 1969، عندما تراجعت مبيعاتها بتناقص عدد قرّائها، بالمعيار النسبي طبعاً. ولعلَّ هذا القاسم
المشترك، رغم الاختلافات النوعية ثقافياً ومعرفياً بين المجتمع البريطاني والمجتمعات العربية، ناهيك عن السياقين التاريخيين المتباينين، كان أن كرّسَ الجائزة ومنحها "الغواية والجاذبية" كونها تعني مبلغاً مالياً "معقولاً" (عشرة آلاف دولار لكلٍّ من الواصلين القائمة القصيرة، وخمسون ألفاً أخرى للفائز = ستون ألفاً)، إضافة إلى ترجمة الرواية الفائزة للغة أو أكثر! غير أنّ الفرق الأهمّ، بحسب وقائع النسخة العربية، أنّ الجهة الراعية لها إنما هي دولة الإمارات العربية المتحدة ممثلة بـ(هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة) وليس مؤسسة أهلية مستقلة، وأنّ مبلغها المالي يُعتبَر "أكثر من معقول" ضمن ظروف الكاتب العربي البائسة!
فهل حققت جائزة "بوكر" العربية غايتيها بعد عشر سنوات؟
رصدي واجتهادي يقودانني إلى أنها نجحَت، في الظاهر منها على الأقلّ؛ إذ كشفت، ومنذ دورتها الأولى، عن روائيين جُدد لم تُعْرَف أسماؤهم أو تتكرّس من قبل، وصلوا إلى القائمة القصيرة، مثل اللبناني جبّور الدويهي بروايته "مطر حزيران"، والمصري مكاوي سعيد بروايته "تغريدة البجعة"، والسوري خالد خليفة بروايته "مديح الكراهية"، واللبنانية مي منسّى بروايتها "أنتعلُ الغبارَ وأمشي"، إلى جانب المصري بهاء طاهر المكرَّس بروايته "واحة الغروب" (الفائز بالجائزة)، والأردني صاحب هذه الكتابة بروايته "أرض اليمبوس"، مع ملاحظة أنّ تلك الدورة، ولأنها الأولى غير المسبوقة بأي "ضجيج" أو "إغواء"، أشارت إلى أنّ تلك الروايات إنما كُتبت ضمن "مناخات" ما قبل "الهيجان الروائي" واستعار نيرانه! وبالتالي كانت روايات متحررة من "هواجس" الجائزة وتوقيتاتها.
ولقد تكررت ظاهرة بروز أسماء ليست مشهورة أو "كبيرة راسخة" في الدورات اللاحقة، إما ببلوغها القائمة القصيرة، أو فوزها بالجائزة، إضافة إلى شمولها بلداناً ليست ذات تاريخ طويل في كتابة الرواية نافَسَت أخرى تُعتبر "مراكز" لها. ولنا أن نُمعن النظر والاستنتاج في الجدول التالي للفائزين بعد الدورة الأولى:
1. يوسف زيدان/ مصر، 2. عبده خال/ السعودية، 3. رجاء عالم/ السعودية مناصفة مع محمد الأشعري/ المغرب، 4. ربيع جابر/ لبنان، 5. سعود السنعوسي/ الكويت، 6. أحمد سعداوي/ العراق، 7. شكري المبخوت/ تونس، 8. ربعي المدهون/ فلسطين - بريطانيا، 9. محمد حسن علوان/ السعودية، 10. إبراهيم نصر الله/ فلسطين – الأردن، 11. هدى بركات - لبنان. هذا السِجِلّ الدوري يتضمن مجموعة أسماء تكررت مشاركاتها في أكثر من دورة، ووصل بعضها القائمة القصيرة قبل الفوز بها في ما بعد، مثل ربعي المدهون وإبراهيم نصر الله، أو لم تحظ بالفوز مثل جمال ناجي من الأردن، ومنصورة عز الدين من مصر، وآخرون لم تسعفني الذاكرة بحفظ أسمائهم.
إذن؛ كان لجائزة "بوكر" في نسختها العربية المسماة "الجائزة العالمية للرواية العربية" أن نجحتَ في الكشف عن روائيين جُدد، ربما لم يكونوا فكروا بكتابة الرواية لولا وجودها. كما نجحَت في إثارة الانتباه إلى الرواية كجنس أدبي ينبغي تطويره، ما أدّى إلى تكثيف حركة نشرها وتسويقها نتيجة زيادة المقروئية لها. إلى جانب تصاعد ترجمة الروايات العالمية ونشرها على نحوٍ خاصّ.
جائزة أخرى بتفريعات
ومكافآت مالية أعلى!
في العام 2014 أُطلقت من دولة قطر جائزة خاصّة بالرواية باسم "جائزة كتارا للرواية العربية" طابَقَت، إلى حد كبير في ديباجة أهدافها الرئيسية، أهداف جائزة "بوكر". غير أنّها عملت على توسعة دائرة المشاركين فيها والتنافس عليها بـ"تفريعات" أهمها: إشراك الروايات غير المنشورة ضمن حقل خاصّ ونشر الفائزة منها، إدخال التنويع على طبيعة الرواية؛ إذ
شملت تلك المكتوبة للفتيان والأطفال، إدخال الدراسات النقدية والبحثية المتعلقة بالرواية، وإضافة جائزة خاصّة بالروايات الصالحة لأن تتحوّل إلى عمل درامي بفرعيها: المنشورة وغير المنشورة. وكذلك ترجمة جميع النصوص الفائزة في كافة تلك الفروع للغتين الإنكليزية والفرنسية خلال سنة واحدة (بين دورتين). أما اللافت الأكثر إثارةً في هذه الجائزة؛ فهو المكافآت المالية العالية غير المسبوقة إطلاقاً، حتّى في الجوائز الأدبية العالمية – اللهم جائزة نوبل!
هنا ثمّة سَخاءٌ صارخ في التكريم! أو ثمّة كَرمٌ في السخاء غير مسبوق، يرافق ذلك كلّه "الفوز بالجملة"! إذ يجوز التساوي بالفوز وبالمكافأة المالية دون تجزئة أو نقصان ينالهما أكثر من نصّ، بلغ خمسة نصوص غالباً!
وهكذا، وبحسب ما أزعمه من رصد للحالات المتولدة عن هاتين الجائزتين، في أوساط الكتّاب/ الكاتبات؛ فإني أجتهدُ في السبب/ الأسباب الكامنة لهذا "الهيجان المحموم" باتجاه كتابة الرواية خلال السنوات العشر الأخيرة... وما سيتلوها، إذا ما ظلّت الحال الراهنة هي نفسها!
حوافز ليست "أدبيّة"
خالصة: مال وشُهرة!
ثمّة حزمة ملاحظات أجزتُ لنفسي تسجيلها، رائياً إلى أنّ تكرارها سيؤدي إلى تكريسها "نهجاً" يعاكس الهدف الرئيس المؤسس للجائزة، كمبدأ يبتغي الارتقاء بالرواية كفنٍّ أدبيّ كِتابيّ متجدد في أساليبه، مفارق في لغته، متمرد في رؤاه، لا يعتمد "الحكاية والمفارقة" ومطابقتها للواقع وكأنها "نسخة صادقة" عنه!
1 ــ عديدةٌ هي الروايات التي لم تُدرَج ضمن القائمتين، الطويلة و/أو القصيرة، كانت (لِمن اطلع عليها من قُرّاء الرواية ونُقّادها) جديرة ببلوغ تلك المرحلتين. وهذا إنْ دلَّ على أمر؛ فعلى الأسلوب المعتمد لدى أعضاء لِجان التحكيم في القراءة والفرز، و/أو عدم أهليّة البعض منهم في الوجود داخلها كأصحاب "قراءة يُعتدّ بها"، ومنهم مَن لا علاقة له بالرواية أصلاً – بوصفها فنّاً كتابياً متحوّلاً منزاحاً عن "تقليدية" روايات كانوا اطلعوا عليها ذات يوم!
2 ــ التباين الأكثر من واضح في "مستوى" الروايات التي وصلت إحدى القائمتين، والقصيرة على وجه الخصوص، ما يقودنا لأن نستنتج أنّ تفاوتاً في طبيعة "الثقافة الروائية" ومستواها لدى أعضاء لِجان التحكيم، قادهم، بالضرورة، إلى اعتماد صيغة "التراضي والمساومة" ليخرجوا باللائحة الأخيرة!
3 ــ كانت نسبة الروايات ذات الكتابة السردية "التقليدية" المعتمدة لـ"الحكاية" البالغة نهايتها المحتومة هي الأعلى في جَرْدة الفوز؛ ما يعزز الاعتقاد بافتقار معظم أعضاء لِجان التحكيم لـ"ذائقة نقدية متطورة وحديثة" قادرة على التفاعل مع "المختلف والجديد"!
4 ــ صحيح أنّ اعتماد المبدأ الرياضي/ الحسابي المتسمّ بـ"العلمية" لا يجوز حين نتعامل مع الإبداع، الذي هو جهدٌ فرديّ شخصيّ خالص، إلّا أنّ رصد جدول الروايات الفائزة يدفعنا لـ"التخوّف" من تفعيل مبدأ "المحاصصة"، بشكل أو بآخر.. بمعنى من المعاني!
5 ــ إنّ "الفوز الجَماعي" بالجائزة نفسها، في الحقل نفسه، بينما فروقات كبيرة تفصل بين
نصوص الروايات الفائزة على صعيد النضج الكتابي العام: اللغة الفنية الأدبية، البناء المقنع، الأسلوب المفصح عن سِعة ثقافية، إلخ؛ إنما يُلْحِقُ غُبناً بالنصّ الأكثر "نضجاً" إذ "يساويه" بنصوصٍ افتقدَ أصحابها إلى التجربة الكتابية الروائية وخبرتها، وأدخلَ في "وعي" كتّابها وهمَ نضوجٍ ومستوى لا يتحلون بهما!
6 ــ لستُ أتجنّى إذا ما أفصحتُ عن أنّ نسبةً ليست قليلة أبداً من الروايات إنما كُتِبَت على وقع وإيقاع "الهياج الروائي" الماراثوني الملتصق بالتوقيت السنوي للترشيحات، تساوى في هذا كُتّاب معروفون نشروا وأصدروا نصوصاً عديدة، مع آخرين ابتدأ مشوارهم وقد أغوتهم المكافآت المالية – إضافة لـ"الشهرة"! وإلّا كيف نفسِّر ظاهرة "توليد" رواية جديدة كلّ سنة تقريباً، ذات "كعوب عالية" (عدد صفحاتها يتجاوز الثلاثمئة مثلاً)، بينما تحتاج تلك الصفحات إلى سنة أخرى من أجل مراجعتها وإعادة النظر فيها.. إذا كنا بصدد "كتابة مسؤولة"!
7 ــ بلغَ عدد الروايات الصادرة سنوياً، وسع البلدان العربية، رقماً "إعجازياً". ونحن، إذا ما قرأناه إشارةً تدلّ على "عافية"؛ فإننا نخدع أنفسنا: فالتقلقل الكتابي، وفق اشتراطات الكتابة الأدبية، يتصادى بين أغلفة تلك الكتب... لكنه "المال" اللعين المغوي، و"الشهرة" الزائفة في بريقها!
8 ــ أما الملاحظة الأخيرة، والناتجة عن مجموع ما سبق من ملاحظات ومغازيها؛ فتتمثّل في أنّ "توجيهاً وإرشاداً" لجيلٍ جديدٍ من القُرّاء يمكن رسم خريطته من خلال الروايات الفائزة، "خريطة طريق" للوصول إلى رواية نموذجيّة! "بوصلة هداية" صوب: ماذا وكيف تُكتب رواية ناجحة جديرة بالفوز! بينما تتميّز الرواية، في جوهرها بأنها الفنّ السردي القابل للانقلاب على تقليديته، والانزياحات عن مألوفه، وتمرده الدائم كلّما استقرَّ على حال!
الأمر الأشدّ خطورة، بحسبي، الناتج عن طبيعة النصوص الفائزة بالجوائز، يتمثّل في: قولبة الذائقة الأدبية، وتوجيه الوعي الفني، وربما تشويه هذين البُعدين معاً حين يقف "الناضج" على قدم المساواة، في جميع الاستحقاقات، فوق منصة التتويج إلى جوار "النيء"!