}

موقع المثقف الفلسطيني في الحركة الوطنية (2/2)

عبد القادر ياسين عبد القادر ياسين 24 أكتوبر 2020
آراء موقع المثقف الفلسطيني في الحركة الوطنية (2/2)
"أوسلو" لم يحظ بتأييد أي مثقف عربي فلسطيني مرموق
أوسلو

دلفت القيادة الفلسطينية المتنفِّذة إلى أوسلو، في محاولة منها للإفلات من محاولات سعت لإسقاطها، عقابًا لها على مساندتها الرئيس العراقي، صدام حسين، في حرب الخليج الثانية (1990-1991)، كما خشيت تلك القيادة من إفلات زمام الأمور منها إلى قيادات من قماشتها في الداخل، أو إلى "حماس".
هنا نزلت تلك القيادة بأدنى سعر في سوق تسوية الصراع العربي - الإسرائيلي، فرست عليها المناقصة الإسرائيلية. وتوهمت الأولى أنها أفلتت، بذلك، من سيف بعض الحكام العرب، لكنها لم تر بأنها وضعت رقبتها تحت المقصلة الإسرائيلية - الأميركية؛ فإذا كان النظام السياسي العربي هو من حدَّد ملامح القيادة السياسية الفلسطينية (1945 -1994)، فإن إسرائيل والولايات المتحدة غدتا من يحدد هذه الملامح، منذ دلف ياسر عرفات إلى قطاع غزة (4/7/1994).

 المثقف الفلسطيني و"أوسلو"

اندلعت معارضات لفظية نارية ضد "اتفاق أوسلو"، الذي تم توقيعه في الحديقة الجنوبية من البيت الأبيض، في واشنطن (13/9/1993).
أقحم "اتفاق أوسلو" الحركة الوطنية الفلسطينية في نفق غير مسبوق، ووجد المثقفون العرب الفلسطينيون أنفسهم في مأزق، لا يُحسدون عليه، فتوزعوا ما بين وطني مستقل اقتصاديًا، انتقد ذاك الاتفاق، ودأب على الكتابة ضده، وبين مثقف موظف لم يكتفِ بتضليل نفسه فحسب، بأن الاتفاق فتح الباب لدولة فلسطينية مستقلة، بل إن ذاك المثقف عمد إلى محاولة تزييف وعي شعبه، أيضًا، مقابل من لاذ بالصمت من المثقفين. وزاد في ضعف موقف المثقف هنا، اقتصار معارضة الفصائل للاتفاق على الألفاظ دون الأفعال، الخطاب دون الموقف. حتى الألفاظ سرعان ما تبخَّرت، ما زاد موقف المثقف إرباكًا وحرجًا.
كان الشاعر محمود درويش، والكاتب السياسي شفيق الحوت، بادرا بتقديم استقالتيْهما من عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير؛ وسبقهما في الاستقالة الشيخ عبد الحميد السايح، رئيس المجلس الوطني الفلسطيني، احتجاجًا على تفرُّد القيادة الفلسطينية المتنفذة، وتورطها في "اتفاق أوسلو".

لم يحظ "اتفاق أوسلو" بتأييد أي مثقف عربي فلسطيني مرموق؛ بل إن إدوارد سعيد، وأنيس صايغ، وناجي علوش، وعزمي بشارة، وكاتب هذه السطور وغيرهم، دأبوا على الكتابة ضد هذا الاتفاق، وبعضهم أصدر كتبًا في هذا الصدد، إضافة إلى مقالاته.

وشهدت دورة المجلس المركزي الفلسطيني (تونس، 10-11 تشرين الأول/ أكتوبر 1993)، مواجهة حامية بين مؤيدي الاتفاق، ومعارضيه أمثال المفكر والكاتب السياسي، أحمد صدقي الدجاني، وشفيق الحوت، والرمز الوطني الديمقراطي، حيدر عبد الشافي. بينما أكد محمود عباس (رأس المؤيدين) أن الاتفاق إما أن يعطينا دولة مستقلة، وإما أن يكرِّس الاحتلال (39)، كأن القضايا الوطنية قابلة للتجريب! بينما حرص مثقفون على شعرة معاوية، وإن سجَّلوا للتاريخ معارضتهم المراوغة للاتفاق، ولاذ مثقفون آخرون بالصمت؛ إما يأسًا، وإما طمعًا، وإما خوفًا؛ بينما استمرأ المثقف - الموظف ممارسة مهمته المزمنة في التبرير، على حساب التثوير.

وسارعت فصلية فكرية فلسطينية إلى رصد مواقف عيِّنة من مختلف فئات المثقفين العرب الفلسطينيين، المقيمين في الأردن (40). فشدّد وليد سيف، مثلا، على ضرورة أن يلتقي الطرفان الفلسطينيان - الرافض والمؤيد للاتفاق - على رفض "التطبيع"؛ معتبرًا التسوية الجارية، أولًا، مفروضة بموازين القوى المختلَّة لمصلحة العدو؛ وكونها، ثانيًا، لن تُلغي العقيدة الصهيونية للكيان، ولا وظيفته في المنطقة؛ ولأنها، ثالثًا، لن تُنهي الصراع؛ كما أنها، رابعًا، تحمل اشتراطات تتضمن إلغاء مفهوم الجغرافيا، الثقافية، والحضارية، والتاريخية، للمنطقة العربية؛ أي إسقاط الهُويَّة الحضارية العربية الإسلامية، وتأسيس مبدأ الجغرافيا السياسية الاقتصادية للشرق الأوسط، التي تحتل (إسرائيل) فيها موقع المركز. دون أن يُغفل سيف "المرارة من الخذلان العربي، والتضييق، والحصار العربييْن". وأكثر ما آثار مخاوف الروائي والكاتب القومي مؤنس الرزَّاز كان "مشروع الشرق أوسطية" وأن يحل محل المفهوم القومي العربي.
ولاحظ فيصل دراج بأن ثمة التباسًا لازم "اتفاق أوسلو"، أومأ إلى "إرادة سياسية فلسطينية، مأخوذة بمصيرها الذاتي، أكثر مما هي مهمومة بقضية وطنية تحررية كبرى، سياسة لاهثة بين الحل الوطني والصفقة التجارية، تُرضي الشيطان والرحمن، معًا". وأعاد الانزلاق للاتفاق إلى غياب الديمقراطية، وفروغ الوحدة الوطنية من مضمونها، وسياسة يومية تختصر التاريخ إلى اللحظة الراهنة. وفي هذه الحدود، نهض شكل من الثقافة الفلسطينية، يُكمل صمت القيادة، ويخوِّن النقد؛ وبعد أن كان الشعب العربي الفلسطيني انتقل، بفعل المقاومة، من العفوية إلى التنظيم، فإن ذاك الشعب ارتد إلى عفوية، لا تفاؤل فيها، ولا يقظة، مع تربية فكرية تفرض الإذعان (41).
ورأى غازي الصوراني أنه تحت تأثير "اتفاق أوسلو"، أزاح الانتماء الجهوي الانتماء الوطني؛ بينما أخلى شعب المقاومة موقعه للرعيَّة المستسلمة، أو المنتفعة، ما فتح الباب لانقسام مجتمعي عميق، وكريه، بالتوافق مع انحسار دور القوى الديمقراطية الفلسطينية، وأخَّر ربط السياسي بالثقافي، دون أن يمنع هذا كله كوكبة من المثقفين من التصدي لشتى السلبيات، والعوائق (42).
التقط الصوراني محددات لتحوُّل الثقافة والمثقفين العرب الفلسطينيين، تحت تأثير "أوسلو" (43).
1) قاد التطوُّر الاجتماعي – الثقافي، بصورة تراكمية متسارعة، العديد من الجماعات والأفراد، عبر حراك اجتماعي مفاجئ، وغير طبيعي؛ ونقلهم من حالة الانتماء للقاعدة الشعبية إلى الانتماء للشرائح، أو "الطبقة" النقيض؛ عبر امتلاكهم غير المشروع، والطفيلي، لثروات طائلة، أو مستحدثة، دفعت بهم إلى تغيير نوعي سالب، في مسارهم، الاجتماعي، والسياسي؛
2) تراجعت العلاقات الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، القائمة على أساس المشروع الوطني، والتماسك المجتمعي، والعمل المنظَّم (الفصائلي، الحزبي)، لحساب العشيرة، والحمولة؛ ما أبرز قيم النفاق، على حساب قيم التضامن والمقاومة؛
3) انحسر النهوض الوطني، عما كان عليه، في سنوات الانتفاضة (1987-1991)، ما أسهم في تفكيك الشعار التوحيدي، الاجتماعي- السياسي- الثقافي، الناظم لحركة الجماهير، لحساب القيم الهابطة؛
4) عمَّق التباين الموضوعي في العلاقات بين الضفة (حيث يسود الطابع الريفي)، وبين القطاع (حيث الطابع المديني)، بعد الانتشار الملحوظ للجامعات، والأندية، والجمعيات، والمجلات، والمنظمات الديمقراطية، الأمر الذي ضعف في القطاع، بسبب الفقر، واكتساح ظاهرة العمل المسلح، بما قد يؤدي إلى خلق شكليْن مختلفيْن من الوعي الاجتماعي، والسياسي، والثقافي؛ ما يتطلب برنامجًا وطنيًا ديمقراطيًا، يظلِّل الشعب العربي الفلسطيني كله تحت أفكار جامعة؛
5) طفحت شعارات، زيَّنت مهاودة الأعداء، والاستسلام لإرادتهم؛ بتزييف الوعيْ الشعبي، بشعارات، مثل: "هجوم السلام"، و"فدائيي السلام"، و"انتظار العدل الأميركي"، و"الاحتكام لواشنطن"؛ كل هذا على حساب شعارات مقاومة المحتل؛
6) تراكمت ثقافة السقوط؛ وتعززت بالتفشي الوبائي للبيروقراطية، والبطريركية، والفساد.
معروف أنه بعد استقلال المستعمرة، يحترف بعض المثقفين تقديم الخدمات للحاكم، ويسارع المثقف المعني إلى الانسلاخ عن وسطه الاجتماعي، ليلتحق بالحاكم، لاهثًا وراء المنافع والامتيازات؛ مركِّزًا، في حيثيات انقلابه، على إعلاء الاستقلال الوطني على الحريات الديمقراطية (44). هنا تتجلى منابت المثقفين الوطنيين؛ فالرعيل الأول (المعادي للاستعمار والصهيونية) تحدَّر، في معظمه، من كبار الملَّاك، بينما وفد معظم مثقفي ما بعد النكبة من الفئات الوسطى، والكادحين غير البروليتاريين. على أن شرط تبلوُّر المثقفين الوطنيين يكمن في مدى التحاقهم بالكادحين. 
إذا كان هذا هو وضع بعض المثقفين في الدول المستقلة حديثّا، فإن أداء جمهرة المثقفين تحت سلطة الحكم الإداري الذاتي المحدود، في الضفة والقطاع، أتى أكثر تشوُّهًا من مثقفي أي سلطة مستقلة.
معروف بأن الحاكم المستبدَّ لا مستشارين له، على كثرتهم؛ فهو مستشارهم، يُطلُّون في عينيه، ليترجموا رغباته، أفكارًا، ومشاريع، وبرامج، حسب أبو حيان التوحيدي، وعبد الرحمن الكواكبي.


عرب 48
صدم "اتفاق أوسلو" عرب 48، بعد أن تنازل عنهم الطرف الفلسطيني، في هذا الاتفاق، للطرف الإسرائيلي، واعتبرهم "عرب إسرائيل"! وهم الذين لطالما تعلقوا بحل عادل يشملهم، أيضًا.
هنا تحركت قوى قومية في حركة "أبناء البلد"، رأت ضرورة هجر الاستنكاف عن دخول الكنيست، والتقت تلك القوى مع قوى يسارية، كانت غادرت "الشيوعي"، وشكلت "ميثاق المساواة"، فضلًا عن بقايا "الحركة التقدمية للسلام"، وحركات محلية، مثل: "النهضة"، و"أبناء الطيرة". وفي مواجهة هجمة "الأسرلة"، تكوَّن من كل تلك القوى، عام 1995، "التجمع الوطني الديمقراطي"، الذي هدف إلى تنظيم عرب 48 على أساس قومي، والنضال من أجل تحويل إسرائيل إلى دولة لجميع مواطنيها. ودخل الجميع مرحلة جديدة.



أي دور للمثقف اليوم؟

دفع انتساب سلطة الحكم الإداري الذاتي المحدود إلى البرجوازية الريعية المثقفين الفلسطينيين خطوات واسعة إلى الوراء، وإن تصدى مثقفون مرموقون لكارثة أوسلو، ما حدَّ من معدلات تذويب هوية المثقف، وتشتُّت صفوف الجماعة المثقفة.
لقد تجلت ملامح أزمة المثقفين الحالية، أساسًا في الهوَّة بين الطموح إلى القيادة، وبين احتياجات هذه القيادة.
لكن تعيُّش نسبة كبيرة من المثقفين على العمل خارج ميدان الثقافة، عمومًا، وفي الأعمال الإدارية في السلطة، دفع غالبية أولئك المثقفين إلى ممارسة السياسة، والإجراءات السلطوية، ناهيك عن وظيفتهم في تضليل الجماهير، بعد أن انتقلت وظيفة تلك الغالبية من التثوير إلى التبرير.
بينما أضعف تهافت فصائل المقاومة مواقف المثقفين، وتزايدت مصاعبهم، مع تبعثرهم الجغرافي. على أننا لن نخرج من هذا كله، إلا إذا ودعنا المجتمع المتسوِّل، إلى المجتمع المنتج، الذي يقدم طبقات اجتماعية عفيّة، وبالتالي قوى سياسية موازية. وعن وهن العمق الاستراتيجي العربي حدِّث ولا حرج! وليس أمام المثقفين الفلسطينيين، من كل ألوان الطيْف السياسي، إلا التركيز على الضرورة الملحة للجبهة المتحدة، على برنامج الإجماع الوطني؛ حتى نتخلص من وهم التسوية، تحت نير ميزان قوى مختل لصالح الأعداء، والأنكى أن الأخيرين لا يملكون إلا مشروعًا وحيدًا لتصفية قضيتنا الوطنية؛ مع ملاحظة أننا لا نمتلك من شروط النصر، إلا القضية العادلة، بينما نفتقر إلى بقية الشروط: الحزب القوي، المؤهَّل لتقديم قيادة متمكنة من نظرية الثورة، محنكة، وجسورة، ما يمكِّنها من بلورة برنامج سياسي سليم، ونسج تحالفات صحيحة، ذلك كله مع الديمقراطية أبدًا، في سبيل التحرير وفلسطين مستقلة ديمقراطية.



الهوامش

39 انظر مداخلة محمود عباس، في دورة المجلس المركزي الفلسطيني (11/11/1993)، في: الأهرام (القاهرة)، 3/11/1994.
40 عمر شبانة، مثقفون يقوِّمون الاتفاق: الحلم الفلسطيني ولادة أم انكسار وهزيمة؟ مجلة الدراسات الفلسطينية (بيروت)، العدد 16، خريف 1993، ص258-300.
41 د. فيصل درَّاج، بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية، بيروت، دار الآداب، 1996، ص 4، 25، 38-43، 86-96، 209-214.
42 غازي الصوراني، المشهد الفلسطيني الراهن، القاهرة، مكتبة جزيرة الورد، 2011، ص 405 -409.
43 المرجع نفسه، ص 409-412.
44 كيم وآخرون، مرجع سبق ذكره، ص34.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.