}

"ما بعد الإسلاموية".. من هوية المقاومة إلى هوية المشروع

حسام أبو حامد حسام أبو حامد 9 نوفمبر 2020
آراء "ما بعد الإسلاموية".. من هوية المقاومة إلى هوية المشروع
"ما بعد الإسلاموية" ليست وليدة الوقت المعاصر

هناك فارق بين الدين، بوصفه وحيا إلهيا يقرر مجموعة من القيم والمبادئ العليا، وبين أنماط التديّن، المتمثلة بالجهود الفردية والجماعية لتجسيد تلك القيم. وإذا كانت مبادئ الدين متعالية على التاريخ فإن أنماط التدين ترتبط بالواقع الإنساني المتغير، وتعكسها الظروف الاجتماعية الاقتصادية والسياسية بشكل مباشر أو غير مباشر والتي تحدد أيضا كيفية تحقيق القيم الدينية، ولعل هذا ما يفسر تنوع النماذج التاريخية في إطار الإسلام الواحد. وحين تبدو الفجوة واسعة بدرجة كافية بين الدين والتدين تبرز محاولات الإصلاح الديني، لاستعادة التناغم بين الدين والتدين أو قيم الدين وواقع المتدينين. وعموما، بين الوحي والتاريخ، وبين المطلق والنسبي.
إن تعدد القراءات المحتملة للوحي/ النص (بحيث يمكن بالاستناد إليه التنظير مثلا للخروج على الحاكم الجائر وفي الوقت نفسه الامتناع عنه) يجعل من التميز بين الدين والتديّن ضرورة نظرية ومنهجية لفهم إشكالية تنتمي إلى الفكر الديني مجسدة في أنماط التديّن أكثر من انتمائها إلى الدين نفسه. ويوظف الخلط بين الدين والتديّن من قبل أطراف متعارضة ومصالح متناقضة، إما للدفاع عن نمط تديّن بعينه وادعاء مطابقته دون سواه لجوهر الدين، أو لإدانة دين معين من خلال أنماط تديّن سائدة. هذا الخلط يفاقم الصراع الاجتماعي في المجتمع الواحد، وبين مجتمعين في زمن واحد، بدل أن يسهم في حلّه.


سؤال الإصلاح وسؤال الحل الراديكالي
هناك في التاريخ العربي الإسلامي الحديث لحظتان تأسيسيتان؛ تمثّلت الأولى في سؤال الإصلاح الديني، حيث سعى فكر عصر النهضة إلى التوفيق بين الدين والحداثة، وبرزت الشريعة بوصفها حائط صدٍّ أمام استعمار الأرض والتاريخ، وجرت محاولات تنقية التديّن من البدع والتحريفات التي لحقت به. في حينه، لم يكن هاجس سيطرة الدين على الدولة مسيطرا، وهو الهاجس الذي استولى على اللحظة التأسيسية الثانية ليصبح حلا راديكاليا يسيطر على الإسلام الحركي أو "الإسلام السياسي" نظريا وعمليا.
مع نموذج الدولة "الوطنية"، التي سادت العالم العربي ما بعد الاستقلال، فشلت عملية بناء دولة المواطنة والاندماج، واحتكرت الدولة ونخبتها وشبكات المصالح المتحالفة معها الشأن العام، وتحولت الدولة نفسها إلى جماعة من بين تلك الجماعات، وطائفة بين الطوائف، وفّرت من خلال سيطرتها على غيرها حيزا واحدا أحاديا لنخبتها وهدمت المجالات العامة التي لا تنتمي لها بدلا من احتوائها في حيز عام واحد، مما أعاق الحوار بين الجماعات المتعددة، وبحثت النخب المعارضة عن ممارسة السياسة من منافذ أخرى، وأصبح الصراع الاجتماعي صراعا على السلطة.



وفي تعاملها مع الإسلاميين اتسمت سياسة النظم العربية بالازدواجية والتناقض، ففي الوقت الذي غضت النظر عن انتشارهم دعويا (في تواطؤ ضمني غالبا) قامت بقمعهم سياسيا. لكنها وجدت نفسها لا سيما بعد هزيمة عام 1967 في مواجهة مجالات عامة منافسة أنشأها الإسلاميون، الذين تحولت مؤسساتهم، نحو: دور العبادة، والجمعيات الخيرية، وبعض التشكيلات النقابية لا سيما بين طلبة الجامعات، إلى وسائل انتاج أيديولوجية تنسج تصورًا سياسيًا للدولة وعلاقتها بالمجتمع، وترسم صورة الشخصية الفردية للمسلم على نحو مختلف عن أنماط التديّن السائدة، وتلك التي كرستها المؤسسة الدينية الرسمية. وبرزت أنساقٌ تربوية متعدّدة، ساهمت في بروز الإسلام السياسي كقوّة مهمة تنفرد بنظرتها إلى العالم؛ أي بتخيّلها الدولة والمجتمع والخارج، وهو أمرٌ أدّى إلى تقابلات أرهقت بنية المجتمع العربي لعقود. القمع رسّخ الحدود بين التحيزات الاجتماعية، وأسهم في تشديد التمايز بين الـ "نحن" والـ "هم"، داخل الفضاء المجتمعي الواحد[1].



"ما بعد الإسلاموية"
تعود الجذور الأولى لمفهوم "ما بعد الإسلاموية" إلى تسعينيات القرن الماضي، متأثرة بالتحولات التي شهدتها الحركات الإسلامية وتوجهها نحو القبول بالعمل السياسي والديمقراطي في نهاية الثمانينيات، وبعد أن تم طرح المفهوم بوصف "ما بعد الإسلاموية" بديلا أيديولوجيا لـ "الإسلام السياسي" بعد فشله وانحساره، كما ذهب أوليفيه روا مثلا، ووجد فيه كل من أوليفيه كاريه وجيل كيبل هروبا من المأزق السياسي الذي وجد "الإسلام السياسي" نفسه غارقا فيه لتتولد حاجته إلى خطاب جديد قائم على الديمقراطية وحقوق الإنسان. لكن الأكاديمي الإيراني، آصف بيات، يعيد طرح المفهوم رافضا فرضية فشل الإسلام السياسي، معتبرا "ما بعد الإسلاموية" تطورا مرحليا للإسلاموية في السياقات الاجتماعية والسياسية المستجدة، فهي ليست حالة فقط بل أيضا مشروع، ونموذج يتجاوز الإسلاموية في المجالات الاجتماعية والسياسية والفكرية، ويستخدمها أداة للتحليل المنهجي لفهم التحولات المستجدة، وبوصفها قلبا للمبادئ المُؤَسِّسَة للإسلاموية رأسا على عقب، من خلال التأكيد على الحقوق بدلا من الواجبات، والتعددية محل السلطوية، والتاريخ بدلا من النصوص الجامدة، والمستقبل بدلا من الماضي، وهي لذلك تختلف عن الإسلاموية الانتخابية التي مثلتها "جبهة الإنقاذ" في الجزائر أو "الإخوان المسلمون" في مصر.

فإن كانت الإسلاموية، بالتعريف العام، تشير إلى الأفكار والحركات التي تسعى من أجل إقامة "نظام إسلامي" يتمثل في دولة دينية، وإقامة حكم الشريعة، وفرض القوانين الأخلاقية في المجتمعات الإسلامية، وإقامة مجتمع عقائدي، تتبع فيه الأهداف الأخرى المتعلقة بالعدالة الاجتماعية، وتحسين حياة الفقراء، هذا الهدف الاستراتيجي، فإن "ما بعد الإسلاموية" تمثل قطيعة خطابية أو ذرائعية عن النموذج الإسلاموي، وهي أيضًا عملية مركّبة للانقطاع عن الحزمة الأيديولوجية الإسلاموية، من خلال الالتزام بمشروع ديني مغاير وأكثر استيعابًا، يستمر فيه الإسلام دينا ومكونا للمجال العام. كما تشير بعض النماذج إلى أن "ما بعد الإسلاموية" ليست وليدة الوقت المعاصر ولكنها ظهرت فيما قبل ظهور الإسلاموية، ومن النماذج الإسلامية التي نجحت في تجاوز مفاهيم الدولة الإسلامية بتطبيق الشريعة إلى تبني قيم الديمقراطية والحداثة بمنظور إسلامي معاصر، هناك: إيران، وتركيا، والمغرب، وإندونيسيا [2]. يعتبر بيات أن ظهور "ما بعد الاسلاموية" في إيران كان محركا للتغير السياسي والاجتماعي منذ اندلاع الثورة الإسلامية والتي بلغت ذروتها مع الحركة الخضراء، وتشكّلت حواملها الاجتماعية من الطلبة والنساء والشباب والمثقفين الدينيين وموظفي الدولة وطبقة المهنيين. ففي التزامن مع المتغيرات العالمية لسياق ما بعد الحرب الباردة، ونتيجة جملة التناقضات في المشروع الإسلاموي، تراكمت التغيرات الاجتماعية والمتمثلة في (التعليم المتزايد، التمدين، التحول الاقتصادي) التي أنتجت طبقة متوسطة متعلمة حداثية راغبة في إحداث تغييرات سياسية واجتماعية[3].
في تركيا اتضح، بحسب بيات، أن الشبكات الاجتماعية والدينية والاقتصادية كانت الأكثر تضررًا في الوقت الذي كانت الإسلاموية فيه كقوة سياسية في ذروة صعودها. كانت تلك تجربة عميقة للإسلاميين الذين أدركوا هشاشة القوة السياسية التي بدا أنهم يتمتعون بها. في بداية التسعينيات، وفي مرحلة مبكرة من التحول، تبنى الإسلاميون لغة سياسية جديدة تقوم على تناول المسائل الاجتماعية التي تتجاوز الرموز الدينية وذلك من أجل الوصول إلى مجموعات اجتماعية أوسع؛ هواها غير إسلامي. وفي نهاية التسعينيات، مع نجاح الإسلاميين السابقين في حيازة دعم مجموعات اجتماعية متنوعة، تحول الإسلام السياسي الذي مثّله حزب الرفاه إلى حركة سياسية جماهيرية.

في المجتمعات المسلمة هناك نقلات تحققت من هوية المقاومة إلى هوية
المشروع؛ من الإسلاموية إلى ما بعد الإسلاموية، فهل يمكن للجاليات
المسلمة في الغرب أن تصبح حوامل اجتماعية لهوية المشروع؟



لقد كان نجاح الإسلاميين نقمة عليهم، إذ نبه المؤسسة العلمانية/ الكمالية إلى هذا الصعود، فكانت استجابتها إجراءات قمعية فرضها الجيش والقضاء والإعلام، بدعم من الطبقة الوسطى العلمانية، ونخبة رجال الأعمال. نتيجة لهذا، أصبح الإسلاميون أكثر حذرًا، وربما اعتذارية، وذلك للحفاظ على قوتهم التي حصلوا عليها من خلال استراتيجيتهم الجديدة. لقد كانوا ضحية عندما وصلوا إلى ذروة قوتهم، وهي خبرة صادمة دفعت بعملية الانتقال من الإسلاموية إلى "ما بعد الإسلاموية"[4].


من النماذج الإسلامية التي نجحت في تجاوز مفاهيم الدولة الإسلامية بتطبيق
الشريعة إلى تبني قيم الديمقراطية والحداثة بمنظور إسلامي معاصر،
هناك: إيران، وتركيا، والمغرب، وإندونيسيا



يحاول بيات قياس المفهوم على نطاق واسع من النماذج الإسلاموية المتباينة في العالم الإسلامي من إندونيسيا إلى المغرب من خلال رصد تطور الإسلاموية وتفاعلها مع المجتمعات الإسلامية الحديثة. على خلاف النماذج السابقة التي سعت إلى تجديد مسارات الإسلاموية لتحقيق المواءمة مع العلمانية وقيم الديمقراطية بالنقد الذاتي، شهدت بعض الدول تيارات "ما بعد إسلاموية" استقت منهجها من نقد الإسلاموية من الخارج، فلم يكن لها ماضٍ إسلاموي، كما لم يكن نقدها منصبًّا على إصلاح الذات، ولكن على نقد شركائهم الإسلاميين، أو تيارات قادها بعض المنشقين من الحركات الإسلامية، كما في السعودية وباكستان، وهناك نماذج "ما بعد إسلاموية" لم تكن نتاج تحول في خطاب الإسلاموية، فهي إما سابقة لها أو متزامنة معها، كما في حالتي سورية والسودان. وهناك مسارات غير مكتملة من تحول بعض الحركات الإسلامية، التي تشهد نمطا من التغيير والتجديد في عقيدتها في ضوء المستجدات الداخلية والخارجية، وهي مسارات على مشارف تحول إلى انعطافة "ما بعد إسلاموية" في ضوء سياقها الفكري والتاريخي. فبالنسبة لمصر مثلا، يتتبع بيات تحولات الإسلاموية المصرية في محاولة لاستشراف مستقبلها بعد ثورة 25 يناير، ومعرفة ما إن كانت ستشهد انعطافة "ما بعد إسلاموية"، مؤكدا أن عملية التحول الإسلاموي في مصر متأرجحة وتتجاذبها أجنحة مختلفة؛ حيث يصر صف القيادات التاريخية داخل الإخوان على تبني المحافظة الإسلاموية، فيما يميل جناح القيادي عبد المنعم أبو الفتوح وقيادات حزب الوسط إلى رؤية أقرب لحزب العدالة والتنمية المغربي، بينما يتطلع شباب الحركة إلى انعطافة "ما بعد إسلاموية" تسببت في إقصائهم عن الجماعة.
يشير بيات إلى أن مسارات التحول الإسلامية في مصر ولدت من رحم التخلي عن السلاح والعنف، والتحول إلى العمل السياسي مع الاحتفاظ بالعقيدة الإسلاموية، أما تأرجح تحولات الإسلاميين في مصر، فيرده بيات إلى ظهور أنماط مختلفة من التديّن الفردي لم يكن للإسلاميين فيها الدور الأكبر. اضطراب الحركة الإسلامية في مصر وعجزها في تحقيق نجاح سياسي أو اجتماعي للمشروع الإسلاموي، تصاحب معه ظهور أشكال أخرى من التديّن الفردي غير المنظم عبر التزام النساء وانتشار الحجاب واندماج الفن مع القومية والتدين، كما تزامنت معها أنماط للتدين بين الفقراء الريفيين أو الحضريين، مع ظهور برجوازية صغيرة متدينة من العائدين من الخليج، كما ذاع صيت التيار وشهرة ظاهرة الداعية المعتدل أمثال عمرو خالد، فيما جنحت الدولة لأسلمة العلمانية فاستعادت المساحات الدينية لإضفاء الشرعية عليها.

ميدان التحرير في يناير 2011 (بيتر ماكديارميدgetty) 

















أنماط التدين والحيز العام الافتراضي
لكنَّ تطورًا جديدًا حصل في العقدين الأخيرين، ساهم في تغيير شكل ظاهرة التدين في المجتمعات العربية، فقد أسفر انتشار الإنترنت والفضائيات العربية في الطبقات الشعبية، عن فقدان المفاهيم الإسلامية السياسية لعلاقتها المباشرة مع المؤسسة الأيديولوجية بشكلها التقليدي، وقد مكّن ذلك قطاعات واسعة من الشباب، الأمر الذي أدّى إلى نزوعهم إلى استخدام هذه المفاهيم دون حرجٍ من الاشتباه بارتباطهم بتشكيلاتٍ سياسية واجتماعية تقليدية، وبشكلٍ أكثر فعاليّة من الإسلام الحركي في مرحلةٍ سابقة. وتبيّن ذلك من خلال اغتنام رمزيّة يوم الجمعة، وفروض الصلاة الجامعة في الميادين العامّة، كموجّهٍ تعبوي للشعوب وللصمود في الثورية، وأنتج ذلك حالة فريدة تجمع بين أصالة الثقافة العربية الإسلامية، وحداثة القيم الحقوقية التي تنتمي بكلّ المقاييس إلى الفضاء الثقافي التنويري. وما كان باستطاعة الإسلام الحركي الذي اعتمد في نسقه التربوي على علاقة هرمية مؤسّساتية، أن يواكب تطوّر وسائل التخيّل الجديدة، ليس لسببٍ إلاّ لأنّ هذا التطوّر أسفر عن سرعةٍ في الجدلِ والتفاعل، تجاوزت بطء المؤسسة الأيديولوجية وبيروقراطيتها، ليوسّع الحيز العام الجديد مساحة المعرفة الإسلامية السياسية، ويظهر تناقضاتها أمام الجمهور المتعلّم[5].

هل نشهد ما بعد إسلاموية تمهد لتوطين الإسلام في المجتمعات الغربية لتحريرها من الاغتراب الثقافي، والتطرف الديني، والإسلاموفوبيا، والممارسات
العنصرية لليمين المتطرف، والوصاية الخارجية التي تمارسها
عليهم أنظمة وأيديولوجيات في مجتمعاتهم الأصلية



لقد افرز هذا الإعلام الجديد حيزا عاما جديدا خارج سيطرة الدولة وإن كان افتراضيا وعمل على الحد من فعالية وسائل إنتاج الأيديولوجيا الكلاسيكية وأضعفها ليدشن نمطا مستجدا من أنماط التدين الشبابي بوصفه "نمط تدين منتشرًا في الحيز العام، ومنفلتًا من قبضة المؤسسات الاجتماعية"[6] لذلك يختلف عن التدين الفردي المنحصر في الحيز الخاص وعن التدين الشعبي القابل للتوظيف من السلطات السياسية. فمع وسائل الاعلام التفاعلية "أصبحت الذات الاجتماعية قادرة على المشاركة في عملية الإرسال، الأمر الذي أدى إلى إرباك وسائل الإعلام التقليدية... إن إحدى أهم النتائج التي افرزها الحيز العام الافتراضي، هي كسر رابطة الشيخ- التلميذ" فكان بإمكان الذات الاجتماعية العربية "الاطلاع على أكثر من مصدر للمعرفة الإسلامية- السياسية، وأن تنتقي منها ما يناسبها، وأن تتبنى فكرة أو عدة أفكار دون الحاجة إلى الانخراط في النسق التربوي للمؤسسة الأيديولوجية"[7].
قد تستمر التحولات الكبرى التي تشهدها المنطقة العربية في إحداث تغيرات بنيوية في الإسلام الحركي ليصبح أكثر اعتدالا، وأكثر ارتباطا بالفكرة الوطنية، متطلعا إلى مشاريع سياسية تطمح الى تحقيق الحداثة السياسية، مما يعني انتعاشا لما بعد الإسلاموية. صحيح أن الموجة الأولى من الربيع العربي قد تم خطفها إسلامويا- ميليشويا، إلا أن الموجات اللاحقة منه، والتي أعقبت سقوط تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، في كل من الجزائر والسودان والعراق، خلت من أي نكهة إسلاموية، وكان قاسمها المشترك غياب واضح للإسلام السياسي في رسائل المحتجين. عنف بعض الإسلام الحركي، والفشل السياسي والاجتماعي لبعضه الآخر، هزيمته أمام الاستبداد والدولة العميقة؛ عجزه عن تعميق قيم الديمقراطية والتسامح؛ شهيته لمزيد من السلطة بعد سيطرته عليها، بدل تحقيق تطلعات الشارع العربي ومعالجة قضاياه ومشكلاته؛ مصالح زعماء الطوائف، والمذاهب الدينية السياسية التي أثقلت كاهل المواطنين بالضرائب مع تراجع حاد في الخدمات.. كل ذلك، دفع شرائح واسعة من الجماهير إلى التشكيك في أن تكون نسخة هؤلاء أو أولئك من الإسلام الحركي، وتوظيفه للسياسي حلا بقدر ما أصبح مشكلةً مضافة إلى أتون معاناة قطاعات شعبية واسعة[8].


خاتمة
في ثلاثيته المعنونة بـ"عصر المعلومات: الاقتصاد والاجتماع والثقافة"، وتحديدا في الجزء الثاني بعنوان "سلطة الهوية"[9]، يتناول مانويل كاستلز التوتر بين المؤسسات الاجتماعية التي تدعمها الهويات التقليدية المتضائلة، وبين تلك الجديدة الصاعدة. ويذهب إلى أن الهوية ليست معطى ثابتا، بل تستخدم مواد بنائية من التاريخ والجغرافيا والبيولوجيا، ومن المؤسسات الاجتماعية الفاعلة في إعادة إنتاج الثقافة، ومن الذاكرة الجمعية، والخيالات الشخصية، وأجهزة السلطة، وأنساق الوحي. يتم هذا التركيب وفق المحددات الاجتماعية والمشاريع الثقافية المتجذرة في بنيتها الاجتماعية، وفي إطار المكان والزمان الخاصين بها، ويتحدد محتواها الرمزي بحسب رغبة الفاعلين الاجتماعيين، وهدفهم من وراء تشييدها. يميز كاستلز بين هويتين؛ هوية المقاومة (identity for resistance) التي يتم تشيدها بتوظيف الموروث وهدفها الذود عن قيم متجذرة في المجتمع يتم تهميشها أو ثمة ما يهددها. وهناك هوية مشروع (project identity) تسعى لتغيير المجتمع من خلال خلق منظومة قيم جديدة يسعى الفاعلون الاجتماعيون لترسيخها، فيعمدون الى استغلال الموارد الثقافية المتاحة لإعادة بناء هويتهم وإعادة تعريف موقعهم في المجتمع. هوية المقاومة: من إنتاج هؤلاء الفاعلين الذين هم في وضع/ حالة من الإقصاء وفق منطق الهيمنة. تؤدي هوية المقاومة إلى تكوين الجماعات أو المجتمعات كوسيلة للتعامل مع ظروف الاضطهاد التي لا تطاق. هوية المشروع: حركات استباقية تهدف إلى تغيير المجتمع. ويمكن هنا برأيي النظر إلى الإسلاموية بوصفها هوية مقاومة، بينما تبدو "ما بعد الإسلاموية" هوية مشروع.
في المجتمعات المسلمة هناك نقلات تحققت من هوية المقاومة إلى هوية المشروع؛ من الإسلاموية إلى "ما بعد الإسلاموية"، فهل يمكن للجاليات المسلمة في الغرب أن تصبح حوامل اجتماعية لهوية المشروع؟ وهل نشهد "ما بعد إسلاموية" تمهد لتوطين الإسلام في المجتمعات الغربية لتحريرها من الاغتراب الثقافي، والتطرف الديني، والإسلاموفوبيا، والممارسات العنصرية لليمين المتطرف، والوصاية الخارجية التي تمارسها عليهم أنظمة وأيديولوجيات في مجتمعاتهم الأصلية، والتي باتت تستهدف جميعها نموذج التنوع الثقافي والعيش المشترك في العالم الغربي؟ وهل يمكن بتراجع هوية المقاومة إعادة تعريف العلاقة بين الثقافتين الإسلامية والغربية للوصول إلى تفاهم ثقافي مستدام بين الهويتين الإسلامية والغربية لحماية الديمقراطية، والتعايش، والتماسك الاجتماعي، في المجتمعات الغربية؟

الحواشي والمراجع: 

[1] أنظر في ذلك: هاني عواد، التدين الشبابي: نمطٌ منفلتٌ من المؤسسة الأيديولوجية!، دراسة نشرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات/ معهد الدوحة للدراسات العليا، 03 تشرين الأول/ أكتوبر، 2011، على الرابط:  https://bit.ly/32nUheh 

[2] راجع الفصل الأول من كتاب: ما بعد الإسلاموية: الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي، تحرير: آصف بيّات، ترجمة: محمد العربي (دار جداول: 2016). وهو بعنوان "ما بعد الإسلاموية على نطاق واسع".

[3] راجع الفصل الثاني من المرجع السابق، وهو بعنوان: "صناعة ما بعد الإسلاموية في إيران".

[4] راجع الفصل الثالث من الكتاب السابق، وهو بعنوان: "ما بعد الإسلاموية على الطريقة التركية".

[5] هاني عواد، المرجع نفسه

[6] نفسه

[7] نفسه

[8] حسام أبو حامد، انتفاضات بدون النكهة الإسلامية، العربي الجديد، 21 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، على الرابط : https://bit.ly/3kdF5GF

[9] Manuel Castells, The Power of Identity, The Information Age: Economy, Society and Culture, Vol. II. Cambridge (1997), MA; Oxford, UK: Blackwell, 461 pp

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.