لا يتعارض الإسلام بوصفه دينًا مع الديمقراطية، بل تتعلق المسألة بأنماط التدين، كما ذهب المفكّر العربيّ عزمي بشارة. في الشروط الحديثة، الدين والسياسة لا يستبعد أحدهما الآخر، فيمكن أن يكون المرء مؤمنًا ملتزمًا، وأن يتبنى السياسة المدنية الديمقراطية، كما يمكن أن يكون مؤمنًا ملتزمًا، وأن يتبنى أيديولوجيا سياسية مناهضة للديمقراطية. المثل الأعلى الإسلاموي، ممثلًا بالدولة الإسلامية، أو دولة الشريعة، يتعارض مع النظام الليبرالي الحديث، والإسلاموية بوصفها نمطًا من أنماط التدين، وأيديولوجيا سياسية، معادية للديمقراطية. يركز الإسلامويون على السلطة بشكل أساسي، ويسعون إلى تحقيق أهدافهم لتغيير المجتمع والسيطرة عليه من خلال قلب نظام الحكم، فالسلطة لديهم أهم بكثير من الروحانية التي غالبًا ما يُضحّى بها لصالح العمل السياسي. يصنع الإسلامويون أعداءهم بأنفسهم وهم كثر؛ مؤمنون وغير مؤمنين، شرقًا وغربًا على حد سواء، حتى أنهم يحمّلون المسلمين غير الإسلامويين مسؤولية عن مختلف المشاكل التي تواجه المجتمعات الإسلامية الحديثة. ومع تنوع أشكال الإسلاموية تبدو هذه خصائص مشتركة.
هنالك أشكال متنوعة من الفهم للإسلام تنتج أنماط تدين مختلفة، فالإسلام المدني ليس أيديولوجيا سياسية تركّز على الدولة، بل يهتم بالتطور الروحي لأفراد المجتمع المسلم لتحقيق الازدهار العام، متوسلًا القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعلى عكس الإسلاموية، لا يتخذ من الغرب العلماني خصمًا يتبنى في مواجهته خطابًا أيديولوجيًا تحريضيًا، وطالما كان في الإمكان ضمان حقوق الإنسان، خاصة حرية التدين والتعبير، فيمكن التخلي عن مَثَلِ الدولة الإسلامية، بل يرى ضرورة أن تكون الدولة علمانية، وأن تظلَّ سياساتها محايدة تجاه جميع الأديان. لا يهتم الإسلام المدني بتحديد النظام السياسي للأشياء بل بالروحانية طريقًا لتحسين الحياة الاجتماعية، وقد بدأ جيل جديد من المسلمين نشأ على الأيديولوجية الإسلاموية في تكييف سلوكه مع معايير وتوقعات الديمقراطية المدنية. نتيجة لذلك، وفي بعض السياقات، بدأت الديناميكيات الداخلية للحركة الإسلاموية وأهدافها السياسية في التغيير في عدد معين من البلدان الإسلامية، وبدا أن هوس الإسلامويين بالثورة قد تراجع، وأن هنالك توجهًا جماعيًا بعيدًا عن التشدّد. البعض يسمي هذه الإسلاموية المكبوحة "ما بعد ـ إسلاموية"، ولا يزال الجدل محتدًا حول صلاحيتها في توصيف وتفسير التحوّلات التي طرأت على الإسلاموية.
مشروع ما بعد ـ إسلامي
أنصار الرئيس التركي وزعيم حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان في اجتماع سياسي في أنقرة (24/ 3/ 2021/ فرانس برس) |
تبدو الحركات الإسلامية في الأساس حركات تمثيل لمصالح المسلمين، ولا تزال مسألة التمثيل مصدر قلق، سواء لأولئك الذين يعيشون في دول ما بعد الاستعمار، أو الأقليات في بلدان غير مسلمة. وقد تمحور النموذج الكلاسيكي لتيارات الإسلام السياسي الحديثة حول فكرة الشخصية الإسلامية للفرد المعبّر عنها من خلال العضوية الرسمية في منظمة سياسية، فأن يكون المرء إسلامويًا معناه أن يخصص من الوقت جزءًا منفصلًا ومتميزًا عن الحياة الاجتماعية. على النقيض من ذلك، تظهر البدائل غير الإسلاموية متمحورة حول أنشطة مرتبطة بعالم الحياة اليومية.
يعرّف آصف بيات الإسلام السياسي بأنه أيديولوجيات وحركات تسعى جاهدة لإقامة نوع من النظام الإسلامي في شكل دولة دينية، ووجد، وغيره من المفكرين، أن الإسلاموية في الحاضر تتغير، وأن العديد من البلدان تشترك بسمات ما بعد ـ إسلاموية. وتناولت أطروحة بيات حول "المجتمع ما بعد الإسلاموي"، في عام 1996، اتجاهًا في المجتمع الإيراني في وقت لم يكن هنالك شيء على مستوى الدولة في إيران يمكن وصفه بـ"ما بعد ـ إسلامي". مع ذلك، تشير روح المصطلح الأساسية إلى تحولات في الإسلاموية فكرًا ونهجًا وممارسة، وانتشر المصطلح أوروبيًا ليوظف عند كل مفكر على طريقته الخاصة، فجيل كيبل رأى فيه هجرًا للمذاهب الجهادية والسلفية، وتعامل أوليفييه روا (استخدم المصطلح العام 1992) مع المصطلح بوصفه خصخصة للإسلاموية (Islamaization) في مقابل أسلمة الدولة. وقد لاحظ بيات بأن التركيز أوروبيًا كان على التغير في كيفية ومكان عملية الأسلمة بدلًا من محتواها.
من وجهة نظر بيات، تشير ما بعد ـ الإسلاموية في المقام الأول إلى حالة سياسية واجتماعية بعد مرحلة تجريبية يعتلي فيها الإسلامويون كرسي السلطة، ويتم فيها استنفاد جاذبية الإسلاموية وطاقاتها ومصادر شرعيتها، حتى بين مؤيديها المتحمسين السابقين. تجعل الأخطاء النظام عرضة للأسئلة والنقد، ويدرك هؤلاء أوجه الشذوذ والعيوب في نظامهم، فيحاولون مجبرين، تحت ضغط التناقضات الداخلية للإسلاموية والضغط المجتمعي، إعادة تقييم أيديولوجيتهم السياسية وتطبيع حكمهم وإضفاء الطابع المؤسسي عليه، هكذا تعيد الإسلاموية إنتاج نفسها عبر تحوّل نوعي في الخطاب الديني والسياسي.
ما بعد الإسلاموية هي أيضًا، بحسب بيات، مشروع واع يحاول وضع تصور واستراتيجية لمنطق وطرائق تجاوز الإسلاموية في المجالات السياسية والاجتماعية والفكرية، وهي في طبيعة الحال لا تناهض الإسلام (لا إسلامية)، وليست علمانية، إنها محاولة لدمج الدين والحقوق، والإيمان والحرية، وقلب المبادئ الرئيسة في الإسلام رأسًا على عقب من خلال التأكيد على الحقوق بدلًا من الواجبات، والتعددية بدلًا من الصوت الواحد، والتاريخية بدلًا من الكتب المقدسة، والمستقبل بدلًا من الماضي. هي محاولة للمزاوجة بين الإسلام من جهة وبين الاختيار الفردي، والحرية والديمقراطية والحداثة من جهة أخرى، لتحقيق "الحداثة البديلة".
خصوصية إيرانية؟
بعد نهاية الحرب الإيرانية العراقية (1988)، وموت الإمام الخميني (1989)، كان برنامج إعادة الإعمار في عهد الرئيس الإيراني هاشمي رفسنجاني، بالنسبة لبيات، بداية المنعطف نحو ما بعد الإسلاموية، التي تجسّدت بشكل أساسي في اتجاهات وحركات اجتماعية وفكرية ملحوظة تم التعبير عنها في خطابات دينية مبتكرة من قبل طلاب وشباب ونساء ومفكرين إسلاميين دعوا الى الديمقراطية، والحقوق الفردية، والتسامح، والمساواة بين الجنسين، وفصل الدين عن الدولة. لكن بدلًا من التخلّص من المشاعر الدينية، شرعوا في الضغط في اتجاه تدين شامل جاء لتقويض إسلام السلطة الرسمية، وتخلى العشرات من الثوار الإسلامويين القدامى عن أفكارهم السابقة متأسفين على خطورة الدولة الدينية على الدين والدولة، بعد أن ولّدت تلك الدولة خصومًا من الخارج والداخل ممن دعوا إلى علمنة الدولة، لكنهم شدّدوا على الحفاظ على الأخلاق الدينية في المجتمع. لكن هل يعني ذلك أن ما بعد ـ الإسلاموية هي محض ظاهرة إيرانية؟
يبين بيات أنه رغم سعي "الثورة الإسلامية" في إيران إلى دعم حركات مماثلة في دول إسلامية أخرى، ساهمت تجربة إيران الما بعد ـ إسلاموية في تحول أيديولوجي بين بعض الحركات الإسلامية (حركة النهضة التونسية)، مع ذلك لعبت الديناميكيات الداخلية والقوى العالمية منذ أوائل التسعينيات دورًا أكبر في التحريض على تحول ما بعد ـ إسلاموي بين الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي. في تركيا مثلًا، بعد معاناة من القمع والتضييق، تمكن الإسلاميون من المشاركة في الحياة العامة، واكتسبوا خبرة ديمقراطية، وتعلموا التنافس بنجاح مع الحركات الأخرى من أجل صالح الناخبين الأتراك، وأثّروا في تشكيل الأحزاب السياسية، ولم يكن حزب العدالة والتنمية مجرد حزب إسلامي، بل نتيجة اندماج مجموعات مختلفة ليست كلها بدقة إسلامية، فبوصفهم سياسيين وحكاما محتملين كان على الإسلاميين داخل الحزب معالجة وتمثيل مصالح مجموعة أكبر بكثير من جمهورهم الأيديولوجي. هذه القيود السياسية، بالإضافة الى التعلم الديمقراطي، أسهم في ظهور اتجاه قوي نحو ما بعد ـ إسلاموية في الحياة الدينية والسياسية في تركيا.
قد نجد ملامح ما بعد إسلاموية في أماكن أخرى لتشير إلى خروج مختلف الدرجة عن الحزمة الأيديولوجية الإسلاموية بصبغتها العالمية القائمة على احتكار الحقيقة الدينية والتفرد والالتزام الصارم. كان الإعلان عن انفصال حركة النهضة عن التيار الرئيسي الذي تزعمته أساسًا حركة الإخوان المسلمين تحولًا من الإسلاموية إلى ما بعد ـ الإسلاموية، على غرار حزب العدالة والتنمية التركي، وحزب العدالة والتنمية المغربي، وتمكنت "النهضة" من التكيف، وإعادة التموضع فكريًا وسياسيًا رغم فترة حكمها القصيرة قبل الانقلاب عليها. في مصر، أعرب حزب الحرية والعدالة (الجناح السياسي للإخوان المسلمين)، على الرغم من حكمه الذي لم يدم طويلًا حتى الإطاحة به في عام 2013، من خلال انقلاب عسكري، عن التزامه بدولة مدنية حديثة وديمقراطية انتخابية، فضلًا عن استعداده لاحتضان الحرية وحقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين.
فشل الإسلام السياسي
أنصار حزب العدالة والتنمية المغربي يحتفلون بالفوز في انتخابات 2016 في العاصمة المغربية الرباط (8/ 10/ 2016/ فرانس برس) |
في كتابه "فشل الإسلام السياسي"، يؤكد أوليفييه روا أن الإسلام السياسي، من النوع الذي يمثّله "الإخوان المسلمون"، فشل في الجمع بين الدين والسياسة في إطار الدولة الحديثة، كما فشل في استعادة الصيغ التقليدية لبناء نظام سياسي مختلف ليُنتج إما حركات سياسية حديثة لا تختلف عن مثيلاتها في الخطاب لينتصر منطق السياسة على منطق الدين، وإما خروجًا من المجال السياسي. بعد عشر سنوات، وفي كتابه "الإسلام المعولم"، نضجت أطروحته حول ما بعد ـ إسلاموية، ولاحظ أن الزيادات في مستويات التقوى في العالم الإسلامي قد صاحبها تراجع موازٍ للتدين في المجال الخاص؛ فأصبح المسلمون أكثر تدينًا، لكنهم ما عادوا مهتمين بأسلمة المجتمع من خلال الإسلام السياسي.
اعتقد كل من تشارلز كورزمان، وإجلال نقفي، أن "إلإسلامويين لن يأتوا"، فانتصاراتهم كانت استثناءات، لا قاعدة سياسية، فبعد دراستهما (عام 2010) لنتائج الانتخابات البرلمانية في جميع المجتمعات الإسلامية، وجدوا نمطًا مختلفًا تمامًا، فبالنظر إلى الاختيار، يميل الناخبون إلى التوجه إلى الأحزاب العلمانية، وليس الأحزاب الدينية. ووفقًا لتقارير سنوية صادرة عن الاتحاد البرلماني الدولي على مدى السنوات الأربعين الماضية، جرت 86 عملية انتخابية برلمانية في 20 دولة تضمنت واحدتها حزبًا إسلاميًا واحدًا أو أكثر، حصل خلال تلك الانتخابات ثمانون في المئة من هذه الأحزاب الإسلامية على أقل من 20 في المئة من الأصوات، وحصل أقل من 10 في المئة منها على انتصارات بالكاد تكون ساحقة. ورغم فوز أحزاب إسلامية ببعض الانتصارات الخارقة التي حظيت بتغطية إعلامية جيدة، كما حدث في الجزائر عام 1991، وفلسطين عام 2006، إلا أنه في معظم الأحيان كان أداء الأحزاب الإسلامية سيئًا للغاية، لا سيما كلما كانت الانتخابات أكثر حرية ونزاهة، وكان متوسط النسبة المئوية للمقاعد التي فازت بها الأحزاب الإسلامية في انتخابات حرة نسبيًا أقل بـ 10 نقاط من تلك الأقل حرية.
يبدو أن الواقع، الذي تحلله الدراسة المذكورة، تغير بعد عامي 2011 ـ 2012، مع العروض الانتخابية القوية للأحزاب الإسلامية التونسية والمصرية والمغربية في الانتخابات التي أعقبت الانتفاضات العربية، إلى جانب الدور الأساسي الذي لعبته الحركات الإسلاموية في سورية وليبيا واليمن، والتي أدت إلى وضع الإسلام السياسي مجددًا في مقدمة النقاش. البعض اعتقد، نظرًا لهذه الانتصارات الأولية المذهلة، أننا دخلنا حقبة إسلاموية جديدة بدلًا من الخروج منها، ورأى آخرون أن تلك الانتصارات تقترب من جوهر فكرة "ما بعد ـ الإسلام السياسي"، وأن التحول نحو التعابير الشخصية للدين لا تستلزم بالضرورة رفضًا للنشاط الإسلامي، ولا تزال رغبة المسلمين في الانخراط في عمل جماعي لتغيير المجتمع نحو تصور ما للمثل الأعلى الإسلامي حاضرة للغاية، ويقترحون أن طبيعة وطرائق ذلك العمل الجماعي هي التي تتغير، لتبدو التشكيلات ما بعد الإسلاموية هي الطبيعة المتغيرة للنشاط الإسلامي بدلًا من زواله، إذا حافظ أصحاب أطروحة ما بعد الإسلاموية، ومنهم روا، على المبادئ الأساسية للحجة القائلة في جوهرها إن الإسلاميين المنتخبين ليس لديهم مساحة سياسية لتطبيق أجندة ترتكز على الشريعة، ولن تساعد هذه الأجندة في معالجة الأمور المعقدة، وحل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي وفرت كثيرًا من الزخم للاحتجاجات. لكن دلالات الإخفاق، بحسب روا، لا تعني انحسار انتشار مفهوم الإسلام السياسي بقدر ما تعني نكوص أطروحة الإسلام كأيديولوجيا سياسية اقتصادية قادرة على حل المشكلات المجتمعية المعاصرة.
الإسلاموية وضمانات ما بعد ـ الإسلاموية
يؤكد بيات أنه رغم تأكيد ما بعد الإسلاموية على التدين والحقوق، ورغم تفضيلها لدولة مدنية وغير دينية، فإنها تمنح الدين دورًا نشطًا في المجال العام. وإن كان ما بعد الإسلاموي يفسّر تحولات الأحزاب المحافظة اجتماعيًا نحو قبول قواعد النظام السياسي المدني والديمقراطي ونبذ أسلمة المجتمع من فوق، فإن الأحزاب ما بعد الإسلاموية تحتفظ بمرجع إسلامي كمصدر للإلهام. ورغم أن ما بعد ـ الإسلاموية هي بمثابة جسر للانتقال من الإسلاموية إلى الإسلام المدني يظل ما بعد ـ الإسلامويين عرضة للأيديولوجيا الراديكالية، والاستبداد "المتأصل" في الإسلاموية. هنالك من يعارض ما قد يتضمنه مصطلح ما بعد الإسلاموية من تعميم مسبق حول نهاية الإسلاموية (المفهومة بشكل رئيسي على أنها دعوة لإنشاء دولة إسلامية) مع إقرارهم بتحول ملموس في استراتيجية وتوقعات بعض الجماعات الإسلامية المتشددة، لكنهم يجادلون أن ما تغير ليس الإسلام السياسي، لكن نسخة ثورية معينة منه. آخرون يجادلون أن ما بعد الإسلاموية لا تعني حقيقة مميزة، وإنما ببساطة سياسة إسلاموية مختلفة. ويعتقد بيات أن مقولات الإسلاموية وما بعد الإسلاموية تخدمان أساسًا كبنى نظرية للدلالة على التغير والاختلاف، وعلى جذور التغير، وقد يلتزم المسلمون عمليًا في وقت واحد بجوانب من كلا الخطابين، ولا يعني ظهور ما بعد الإسلاموية نهاية الإسلاموية بالضرورة، ما تعنيه هو الولادة المحتملة من رحم تجربة إسلامية مختلفة نوعيًا في الحطاب والسياسة.
يمكن القول إن ما بعد ـ الإسلاموية لا تضمن في حد ذاتها تعزيزًا للحقوق ولحريات مدنية معينة، ففي الحالة التونسية، رفض حزب النهضة القانون الذي اقترحه الرئيس الباجي قائد السبسي لتقنين المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة على أساس أنه يتعارض مع الشريعة الإسلامية القائمة. في مصر، على الرغم من رفض "الإخوان المسلمين" شكلًا ثيوقراطيًا للحكومة، إلا أن الحركة ظلّت "حزبًا محافظًا دينيًا واجتماعيًا"، وموقفها من حقوق المرأة مثال وثيق الصلة. لا تزال ما بعد الإسلاموية عرضة للاستبداد، فحزب العدالة والتنمية التركي يعد مثالًا جيدًا على التورط في السلطوية من خلال سجن الصحافيين وقمع المعارضين السياسيين بعد الانقلاب الفاشل في عام 2016.
أنصار حركة النهضة التونسية بحتفلون في تونس العاصمة بإعادة انتخاب راشد الغنوشي رئيسًا للحركة (16/ 7/ 2012/ فرانس برس) |
خاتمة
نظريًا، يثير مفهوم ما بعد الإسلام السياسي أسئلة عدة حول ما يعنيه حقًا، ومن يستخدمه، ولأية أسباب. هل هو مصطلح وصفي، أم تحليلي، أم تفسيري؟ ويبدو لكثيرين أن الأمر ربما يتطلب مزيدًا من الوضوح والقوة التفسيرية لتحليل وتفكيك وتفسير تحولات الجماعات والحركات الإسلامية، أي أن المصطلح لا يزال بعيدًا عن أن يتحول إلى مفهوم. بعضهم يعترض على ما في المصطلح من حتمية تاريخية، لأنها تفترض أن هناك مسارًا زمنيًا أيديولوجيًا، أو فكريًا معينًا، تتبعه التيارات والحركات الإسلامية من أجل الانتقال من مرحلة الإسلاموية إلى ما بعد الإسلاموية، هنالك من يعبّر عن قلقه من إمكانية استخدامه كأداة من قبل الإسلاميين عند التعامل مع المجتمع الدولي لتهدئة المخاوف بشأن سياساتهم وخطاباته. ويبقى السؤال: هل ما تزال للأفكار الأساسية التي تتحدد بها أطروحة ما بعد الإسلاموية أهمية مستمرة وفقًا لشروطها الخاصة في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي؟ نستطيع الإجابة بنعم، إذا لاحظنا أن الإسلاموية لم تنتهِ ليتم استبدالها بالضرورة بما بعد الإسلاموية، وإذا توقفنا عن التعامل مع ما بعد الإسلاموية، بوصفها مسبارًا لمعرفة ما إذا كانت الأحزاب السياسية ذات الهوية الإسلامية موجودة أو لا، وما إذا كانت ناجحة أم فاشلة، في المجال السياسي الرسمي، ونظرنا إليها بدلًا من ذلك بوصفها أداة مفهومية مفيدة لفحص التحول في الخطاب والاستراتيجيات في الساحة السياسية.
تظلّ الإسلاموية قوة فاعلة حتى لو كانت اليوم في موقف دفاعي، والتحديات المرتبطة بممارسة السياسة الحقيقية والانخراط في الحكم العملي لها تأثير كبير في بنيتها باتجاه تحولات نوعية، فالمنافسة مع القوى والأحزاب السياسية الأخرى والتعلم الديمقراطي أحد العوامل التي ساهمت في اقتراب الإسلاموية من الإسلام المدني. والانقلابات على الديمقراطية، وتحميل الأحزاب ما بعد ـ الإسلاموية كامل المسؤولية عن الفشل في النهوض بالمجتمع، قد يؤدي إلى حالات نكوص وارتدادات نحو الإسلاموية التقليدية.
إحالات
مراجع أجنبية:
1 Asef Bayat, What is Post-Islamism?, ISIMReview 16, Autumn 2005. https://bityl.co/995b
2 Charles Kurzman and Ijlal Naqvi, ‘‘The Islamists Are Not Coming’’, Published in Foreign Policy, No. 177, January/February 2010, p. 34. https://bityl.co/995D
3 Uğur Kömeçoğlu, ‘‘Islamism, Post-Islamism, and Civil Islam’’, Hudson Institute, January 12, 2014. https://bityl.co/995M
4 Mojtaba Mahdavi, ‘‘Muslims and Modernities: From Islamism to Post-Islamism?’’, Researchgate, December 2013, https://bityl.co/995V.
مراجع عربية:
1 عبد الغني عماد، فشل الإسلام السياسي: أوهام الأيديولوجيا ووقائع السوسيولوجيا، في: ما بعد الإسلام السياسي: مرحلة جديدة أم أوهام أيديولوجية، محمد أبو رمان (محررًا)، (عمان: فريدريش إيبرت، 2019). ص 71 ـ 88.
2 خليل العناني، المابعديات.. جماعة «الإخوان المسلمين» نموذجًا، في: المرجع السابق، ص 91 ـ 106.