منذ الاستقلال تعثّرت عملية التطور السياسي والثقافي للبلدان العربية، وبدا ولوج مجتمعاتها مسار التحول الديمقراطي مستعصيًا. احتجبت مسألتا الديمقراطية ودولة المواطنة طويلًا خلف الظلال الكثيفة للشعاراتية المسيطرة في المشهدين السياسي والفكري. ودون سابق إنذار، انطلقت ثورات الربيع العربي يحدوها الأمل في التغيير، لكنها أخفقت، إما في مواجهة عنف قوى الاستبداد السياسي الاجتماعي مما فتت المجتمع وقسّم الدولة، أو في مواجهة قوى الثورة المضادة التي تحصّنت وراء ديمقراطية شكلية وسيلة للوصول إلى السلطة. وبينما ركّزت المقاربات الفكرية السياسية على العوامل الموضوعية التي تفسّر هذا الإخفاق، فإن المقاربات التي حاولت تلمّس العوامل الذاتية في علاقاتها الجدلية بتلك الموضوعية لا تزال قليلة. ويأتي كتاب "الصدع الكبير: محنة السياسة والأيديولوجيا والسلطة في اختبارات الربيع العربي" (عمّان/ بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2021) للكاتب السياسي الفلسطيني ماجد كيالي في هذا السياق. ومن بين إشكاليات عدة يتناولها الكتاب تبرز إشكالية تكتسب أهميتها في تفسير تعثر الانتقال الديمقراطي عربيًا، يفصح عنها السؤال التالي: رفعت القوى السياسية والشعبية وحركات المجتمع المدني على اختلاف انتماءاتها الفكرية والأيديولوجية الحرية شعارًا، فإلى أي حد استطاعت أن تتمثل قيمة الحرية في مستويي الإدراك والممارسة السياسية؟
الحرية عربيًا: تخارج الفكرة والممارسة
في كتابه الرائد "مفهوم الحرية" لخّص عبد الله العروي إشكالية الحرية عربيًا حين رأى أننا نجد في كل ميدان من ميادين الحياة العربية التقليدية تخارجًا بين الحرية كفكرة، والحرية كممارسة، فنجد الوعي الدقيق بالحرية، وهي مفقودة، ونجد تصرفًا لا مشروطًا لكنه بعيد كل البعد عن التمثل والوعي. وفي تحليله، يذهب العروي إلى أنه مع قيام الدولة العربية الإسلامية، في التاريخ الإسلامي المبكر، ظل المجتمع العربي التقليدي محكومًا بشكل من أشكال التوازن بين البداوة والعشيرة والدولة والفرد، إذ ظلّت البداوة تمثّل حرية الأصل السابقة على الدولة، ومثّلت العشيرة المحافظة على بعض حرية التصرف داخل الدولة، وكان بإمكان الفرد أن يلجأ إلى التصوف للخروج النهائي من دائرة السلطان. ورغم أن الحرية كانت مجرد طموح داخل المجتمع السياسي إلا أن هذا المجتمع لم يكن يطابق المجتمع العربي مطابقة تامة، وكان بإمكان الفرد أن يناهضه من وراء متراس جماعته التي ينتمي إليها أو ينسحب منه نهائيًا للعيش مع ذاته ولذاته. حدث ذلك قبل أن تؤدي تحولات المجتمع العربي الإسلامي إلى اتساع نطاق الدولة واضمحلال نطاق اللادولة، الأمر الذي أدى إلى تضييق مجال الممارسة اللامشروطة واللاواعية واتساع مجال الوعي بضرورة الحرية المجرّدة المطلقة. أصبحت البداوة مرحلة تجاوزها التاريخ، وتضعضعت الجماعات والعشائر وتراجع نفوذها على السلطان، ولم تعد قادرة على حماية أعضائها، وتراجع ميل الناس إلى التصوف مخرجًا أمام الاستبداد الذي لم يعد مطلقًا وحسب، بل وشاملًا أيضا. فمع التنظيمات العثمانية، التي هدفت أساسًا إلى تقوية الدولة إزاء تحدّيات الدول الأوروبية الاستعمارية، كان يجب اخضاع الجماعة المستقلة ومنع تواصلها مع الاستعمار، وكانت استقلالية الفرد إضعافًا للدولة واندماجه تقوية لها، وكان ينبغي نقض العادات والتقاليد التي بدت امتيازات للجماعات والعشائر ومثّلت حقوقًا مكتسبة موروثة في مواجهة نزوات السلطان، وإبدالها بالقوانين التفصيلية، لتتحول تلك العادات قيودًا تضاف إلى قيود الدولة المستحدثة، وكان لا بد من أن تدور التجربة الفردية في نطاق الدولة، وهكذا فكلما اتسع نفوذ الدولة وتعمّق ارتبطت الحرية بالدولة وتطابق مجال الأولى بمجال الثانية، خصوصًا أنه مع هذه السياسة الإصلاحية برزت الدولة الدرع الواقي الذي يحمي الإسلام والمسلمين (يحمي الهوية).
يربط العروي بين ضغط الدول الأوروبية على الدول الإسلامية وبين حركة الإصلاح، ثم بين هذه واضمحلال الجماعات المحلية، ثم بين هذه ونشوء الشخصية التي بدأت تحّس بتزايد القيود على نشاطها وبالتالي بما ينقصها لتتحقق وتكتمل (ما يجعل الفرد شخصًا هو الشعور بأن الحرية بديهية). هذا الشعور بالنقص كان شعورًا مناهضًا للدولة، ومنافيًا لها، فأصبح في الظروف الجديدة موجودًا داخل الدولة أو داخل المجتمع السياسي. بمعنى آخر، بعد أن كانت الحرية في المجتمع التقليدي "طوبى" مجسّدة في رموز منافية للدولة إما داخلها وإما خارجها، نجد الحرية، شعارًا يهدف فقط إلى رفع الحواجز أمام الشخصية بدون اهتمام بتأصيل وتنظير مفهوم الحرية. وهكذا، كانت للحرية صفة عملية من الأساس ارتبطت بالإصلاح في نطاق نشاط جماعي وحركة إصلاحية لإلغاء قوانين أو محو عادات أو تغيير سلوك الحرية. هنا، بحسب العروي، نداء ينتهي بحركة تحرير، وشهد القرن التاسع عشر حركات سياسية عربية هدفت الى تحرير المسلمين من الأوروبيين أو العرب من الأتراك، وحركات دستورية هدفت إلى الانعتاق من الاستبداد، وحركات أدبية سعت لتحرير الوجدان من القوالب الموروثة، وحركات نسائية لتحرير المرأة من التقاليد الفاسدة، وتربوية لتحرير العقول من الجهل والخرافات، ويرى أن تلك الحركات استعارت مفاهيمها من مدارس مختلفة شرقًا وغربًا دون اهتمام بالتماسك الفكري والتناسق المنطقي لتكمن قيمتها في "فعاليتها الإصلاحية لا في عمقها الفكري". كان الكتّاب العرب في العهْد الليبرالي يتغنَّون بالحرية وكفَى. يرفعون شِعارها ولا يتصوّرون أن تكون هي مشكلة، عِوَض أن تكون حلاّ لجميع المشاكل. كان المجتمع الإسلامي في حاجة إلى نشر دعوة الحرية، أكثر مما كان في حاجة إلى تحليل مفهومها.
الدولة عربيًا والاستعصاء الديمقراطي
يذهب ماجد كيالي إلى أن الدولة العربية نشأت مشوّهة في رحم الحقبة الاستعمارية بوساطة الجيش أو بوساطة القبيلة والجهاز البيروقراطي على قاعدة وصائية وزبونية وتسلطية، ولم تأت نتيجة لتطورات طبيعية سياسية واقتصادية ومجتمعية، الأمر الذي أقصى المجتمع وهمّش الفرد، وحوّل جهاز الدولة إلى جهاز للسلطة والسيطرة. أدى ذلك إلى ضعف تمكين الدولة التي كانت أحد أهم العوامل في استعصاء العملية الديمقراطية. في موازاة ذلك، حدث ضعف في تمكين الديمقراطية حيث حالت مستويات التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي المتدنيّة والضاغطة في المجتمعات العربية، دون تمكين الأغلبية المجتمعية من الاستحواذ على وعي سياسي واجتماعي لائق، وحدّ من قدرتها على الوصول إلى مصادر المعلومات، ووعيها بحقوقها ومصالحها، وبالتالي من قدرتها على ممارسة حرّيتها في ظل فواتٍ للبنى الاجتماعية التي ظلّت بنىً تقليدية تقوم على علاقات العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب والأصل الإثني، مما أعاق عملية الاندماج، وأفضى إلى عدم اكتمال دورة التطور باتجاه الحداثة (المواطنة والدولة والعقل)، وإلى الحيلولة دون تبلور المجتمع المدني أو مجتمع المواطنين الأفراد الأحرار المتساوين، واستثمرت قوى الاستبداد هذا الواقع لتثبيت سلطتها. لا يهمل كيالي دور التدخلات والاحتلالات والضغوط الخارجية مما أثار الشبهات حول أولوية الديمقراطية، وشوّش عدالة المطلب الديمقراطي في الأوساط الشعبية، مما عزز النزعة التسلطية وغيّب الحريات.
الشرعية الثورية والشرعية الديمقراطية
سيطرت الشعاراتية على مجمل الخارطة السياسية العربية، وتركّزت حول قضايا الوحدة والاشتراكية وتحرير فلسطين، والتحرر من الإمبريالية وبقايا الاستعمار. منحت تلك الشعارات النخب السياسية الحاكمة نوعًا من الشرعية في غياب الديمقراطية، وبينما كان هم تلك النخب تكريس سلطاتها وإحكام قبضتها على الدولة والمجتمع، غاب عن الأحزاب والتيارات السياسية العربية الاشتغال على الدولة كمعطى سياسي وقانوني ومجتمعي، وعلى المواطنة باعتبارها أمرًا يخص الإنسان كفرد حر مستقل على قدم المساواة مع غيره من أفراد المجتمع، وعلى الديمقراطية طريقًا لتداول الحكم والإدارة وخلق الاجماع الوطني.
في وقت افتقدت فيه المجتمعات العربية إلى فرز طبقي حقيقي، وأعاقت فيه البنى الاقتصادية المشوهة تكوّن وعي طبقي، تمسّك التيار اليساري بالنظر الى المجتمع على أساس الانتماء الطبقي لا على أنه مؤلف من مواطنين مختلفين ومتعددين، بغض النظر عن هذا الانتماء، وتمسّك بدوره التاريخي في القضاء على الملكية الخاصة مهملًا الظروف والمعطيات الملائمة للقيام بذلك أو عدمه، ومتجاهلًا النتائج الكارثية للتأميمات الحاصلة في سورية، في الخمسينيات والستينيات، التي قوّضت البنى الجنينية للبرجوازية الصناعية الوطنية في مصر وسورية، وأحلت عوضًا عنها البرجوازية الطفيلية في حضن الدولة التأميمية ذاتها. ويذهب كيالي مع حنة آرندت إلى أن "ديكتاتورية البروليتاريا" كانت بمثابة وصفة لمصادرة الحرية الفردية وسيادة الاستبداد. هذا الجوع إلى الحرية، برأي الكاتب، كان له دور في انهيار الاتحاد السوفييتي، مشكلة اليسار هذه، برأيه، قديمة حتى قبل أن يتماهى اليوم مع نظام الاستبداد الأسدي، ويعيدها إلى الشبهات التي أثارها كل من ماركس وأنجلز حول الجمعية الوطنية المنتخبة إبان كومونة باريس 1871، باعتبار الجمعية أداة في يد الثورة المضادة، وإلى موقف لينين من مجالس الدوما وتحفّظه عمومًا على التعويل على النضال البرلماني والديمقراطي بوصفه أداة بيد البرجوازية ليس إلا. وهكذا ينظر اليساريون الرافضون أصلًا للديمقراطية إلى البرلمانات بوصفها مجرد نوع من السفسطة الفارغة وإلى الديمقراطية بوصفها لعبة أداتية في يد البرجوازية للتلاعب بالمجتمع والسيطرة عليه، لا وسيلة لحسم التوازنات وضبط الصراعات في المجتمع.
تتمثل أزمة التيار القومي، بالنسبة لكيالي، في أنه غطّى في أغلب كياناته السائدة الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي، مبررًا مصادرتها للحريات بالادعاء بمركزية قضية تحرير فلسطين، ومحاربة المشروع الصهيوني، وإعاقتها لنمو الدولة الوطنية بوصف تلك الدولة بـ"الدولة القطرية". والمفارقة، أن هذه الأنظمة القومية فشلت حتى في بناء جماعة وطنية حين لعبت على التوازنات القبلية والعشائرية والطائفية كوسيلة للسيطرة، فغابت معها دولة المؤسسات والقانون. وبالنسبة للتيار الإسلامي الذي قسّم المجتمع على أساس ديني إلى مسلمين وغير مسلمين، فقوّض، بحسب كيالي، الهوية الوطنية، وهدد الوحدة المجتمعية، ولم يعترف بشرعية الدولة القائمة لصالح فكرة دولة الخلافة، وظنّ بحصوله على أكثرية انتخابية أن بإمكانه أخذ الدولة والمجتمع حيث يريد. لقد أدى وصول الإسلاميين إلى الحكم الى تعقيد المسألة بإثارة الشبهات حول موقف هذا التيار من الديمقراطية التي يرى كثيرون أنها لا تعدو بالنسبة له أكثر من وسيلة للوصول الى السلطة. امتدّت الأزمة إلى حركات التحرر الوطني، التي كانت بمعظمها حركات عسكرية مسلحة، اعتمدت العنف لفرض نفسها في المعادلات السياسية، ووجهته إلى السلطات المحتلّة وإلى مجتمعاتها في نفس الوقت.
استبدلت مختلف التيارات الأيديولوجية الكبرى الشرعية الثورية بالشرعية الديمقراطية، فهيمن الاستبداد، وسادت عبادة الفرد، وجرى تهميش الشعوب التي باتت مجرد كتلة صماء تهتف للقائد الملهم، وأصبحت تلك الشرعية غاية في ذاتها فوق الدولة والقانون وحريات المواطنين، ومرجعية وحيدة سياسية وأخلاقية.
الربيع العربي: الحرية والديمقراطية
بعد أن ظّلت المسألة الديمقراطية منغلقة في أجندات الأحزاب والتيارات السياسية العربية، على تنوع أيديولوجياتها، أخذت المسألة الديمقراطية، بحسب الكاتب، تحتلّ مكانة محورية في الخطابات التغييرية في البلدان العربية بعد انحسار المقولات الكبرى في الوحدة والحرية والاشتراكية، وباتت تنافس أو حتى تنزع جانبًا الأولوية المتعلقة بالصراع العربي- الإسرائيلي لأول مرة. اندلعت ثورات الربيع العربي فجأة على عكس كل التقديرات، واكتسبت خصوصيتها انطلاقا من نقطة الصفر تقريبًا، إذ لم تكن ثمة انتفاضات أو هبّات أو حركات ممهدة لها. لم يحرّكها نمط مثقفين ثوريين، ولا طبقة اجتماعية محددة، ولا حزب بعينه كما في ثورات أخرى شهدها التاريخ، جاءت ثورات الربيع العربي دون سند من أي برامج معدّة أو نظريات معروفة، ورغم الحرمان التاريخي من السياسة، ورغم مصادرة الحريات والتحكم المطلق بالبلاد والعباد، وكل ذلك بخلاف التجارب الثورية المعروفة. ومهما قيل عن فشل الانتقال الديمقراطي يرفض كيالي المصادرة على العملية الديمقراطية، مؤكدًا أنه كان من الضروري الدخول في مختبرها وممارستها لاستكمال نواقصها عبر ربطها بالحرية الفردية، فالديمقراطية، بالنسبة له، ليست شعارًا، بل عملية متممة لمجمل التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لا يمكن استنساخًا أو استيرادها، ولقد كشف مسار الانتقال الديمقراطي المتعثّر إلى أي حد طبعت النظم الاستبدادية مختلف التيارات بطابعها الاستبدادي، فكشفت تيارات علمانية وليبرالية وديمقراطية يسارية بتماهيها مع الاستبداد (كانت حجتها الرئيسية التخندق ضد التيار الإسلامي) عن قصور في المنهج، وتشوه في محاولاتها تمثل مدلولاتها السياسية والثقافية، بدا ذلك واضحًا في اختزال الديمقراطية في محض عملية انتخابية أو مجرد تقاسم للسلطة بين لاعبين سياسيين باسم أكثرية متعصبة. أيضًا، اتضح أن شعار الحرية الذي رفعته ثورات الربيع العربي كان شعارًا خلا من المعنى وفي أحسن الأحوال "اتفقنا على الديمقراطية لكننا انقسمنا حول فكرة الحرية".
برأي كيالي تنبثق مشكلة معنى الحرية في الثورات العربية من مستويات عدة، بعضها سياسي تابع من غياب تاريخي للمشاركة السياسية وتقاليد العمل الحزبي والسياسي والخضوع لأنظمة الاستبداد لقرون، وبعضها اجتماعي اقتصادي ناجم عن سياسات الهوية في هذه المنطقة التي ترسّخ الانقسامات العامودية (الدينية والإثنية) وتضعف مسارات الاندماج المجتمعي في البلدان العربية وتغيّب المواطن الفرد. وعلى خلاف التجربة الأوروبية، وفي ظل هيمنة سياسات الهوية، لم يكن مسار الثورات العربية مسارًا يدخلها مباشرة في الثورة الديمقراطية أي ثورة العلمنة وتحرير العقل، ولا من نوع الثورات الليبرالية التي أدت إلى تحرير الفرد بوصفه قيمة عليا، والتي اعتبرت المواطن الفرد الوحدة الأساسية في المجتمع بعيدا عن أي تنميطات أخرى؛ على أساس الدين أو العرق أو الجنس أو الوضع الطبقي.
سيادة الفرد ركيزة للديمقراطية
لا تطرح الليبرالية الحرية بوصفها مشكلة، بقدر ما تسجلها ظاهرة طبيعية تابعة لوجود الفرد الذي هو أصل المجتمع، والذي تمثل حرّيته أحد حقوقه الطبيعية والبديهية، ولا بد من المحافظة على حقوق الفرد داخل المجتمع التي تمتع بها قبل تأسيسه، وأهم ما يميز الليبراليات الديموقراطية على اختلاف أنظمتها السياسية، هو تأكيدها على السيادة الفردية ممثلة بحقوق كاملة تتعلق بالاعتقاد والرأي والعمل والملكية، وهذه الحريات الشخصية لا تقبل التفويت، وأي مجتمع يحول دونها فإنه ينافي الطبع والعقل والإنسانية ويجب إصلاحه. تؤكد الليبرالية أن مهمة الدولة الأولى هي حماية هذه السيادة لجميع الأفراد بغض النظر عن عرقهم ومركزهم وتعليمهم أو جندرهم. تنبثق الحقوق المدنية والسياسية من تعاقد الأفراد فيما بينهم لتأسيس المجتمع، ثم من تعاقد هؤلاء مع فرد أو جماعة لتأسيس الحكومة. هذا التعاقد المزدوج ينظّمه دستور يضبط علاقات المواطنين فيما بينهم، وعلاقات الحكام والمحكومين، ويضمن حق الاقتراع واستقلال القضاء ويحدد مسؤولية الحكومة أمام الهيئة التشريعية. وعلى الدولة أن تكفل المحافظة على حرية الفرد في تنظيم معاشه، وعلى حق الملكية والتوريث وحرية التنافس، أما تدخّل الدولة في ميدان الكسب فإنه يؤدي إلى فرض الامتيازات والاحتكارات والإخلال بقوانين الاقتصاد السليم. توفير الازدهار الاقتصادي للمواطنين من واجبات الدولة، يرتبط هذا الحق بحق المشاركة السياسية في منظومة تحمي حقوق الإنسان، وتوفّر له الرخاء السياسي والرخاء الاقتصادي.
سيادة الفرد لا تزال مفهومًا غريبًا في ثقافات تُعلي من شأن العائلة والقبيلة والدين، وحتى المجتمع، على حساب الفرد. وبالعودة إلى كيالي فإنه يؤكد تلازم الديمقراطية والليبرالية. غربيًا شابت الديمقراطية شبهات تتعلق إحداها بأنها توفّر عدالة شكلية بإقرارها نوعًا من اللامساواة في توزيع المنافع فتساوي بين غير المتساوين وتحد من الإبداع، وبالتالي من تأمين الفرص، مما يقلل من قيمة العدالة الحقيقية، كما أنها قد تفرض ديكتاتورية الأكثرية، مما يسلب الأقلية حريتها، فلم يكن من الممكن غربيًا وأوروبيًا بشكل خاص هضم أو تجاوز فكرتي الحرية والمواطنة الفردية/ المدنية في الديمقراطية المتعلقة بكيفية تنظيم العلاقات وإدارتها في المجتمع، وبين المجتمع والدولة، إلا من خلال الديمقراطية الليبرالية، لأن الحمولات الليبرالية هي التي ترشد الديمقراطية وتضبطها، بحيث لا تتحول إلى نوع جديد من استبداد أكثرية برلمانية أو تصويتية (دينية أو إثنية أو عرقية) بأقلية، وتضمن حريات المواطنين ومساواتهم أمام القانون بصفتهم المدنية. تم تحصين العملية الديمقراطية من خلال تحميلها بمضامين ليبرالية تتعلق بتحصين حقوق الأفراد السياسية، واعتبار حرية الفرد وخصوصيته وكرامته بمثابة قيمة عليا يتم النص عليها في الدستور.
في الكتاب تأكيد على أن الليبرالية أسبق من الديمقراطية التي تتأسس أصلًا على الحرية والعقلانية والدولة الدستورية، وعلى فصل السلطات واحترام القانون وتداول السلطة، واحترام حقوق الانسان والجماعات دون أي تمييز ولا لأي سبب. الديمقراطية دون ليبرالية (كمذهب في الحرية الفكرية والفردية) تبدو ناقصة ومشوهة لأنها لم تبن على حرية الأفراد والمساواة بين المواطنين واحترام حقوق الإنسان. في المقابل، فإن الليبرالية من دون ديمقراطية هي ليبرالية ناقصة ومشوهة أيضًا. فمن دون دولة، ومن دون مجتمعات تتألف من مواطنين أفراد، أحرار متساوين، من الصعب توقع إرساء ديمقراطية في الواقع العربي، أي أن الليبرالية، أو الحرية والمواطنة، هي المدخل الضروري لأية تجربة ديمقراطية.
انفصام سياسي
لا تزال الانتقائية مسيطرة عربيًا وإسلاميًا في التعاطي مع منجزات الحضارة الغربية فمن السهل تقبّل المنجزات المادية في مجتمع بات استهلاكيًا بامتياز، في مقابل الريبة والحذر في التعامل مع المنجزات الفكرية لتلك الحضارة الغربية. بالنسبة لكيالي، يعتبر ذلك حالة انفصام، ويحيل التحفظ على الليبرالية إلى المصادفة التاريخية التي جمعت بين الاستعمار، الذي يمثله الغرب، والأفكار السياسية والثقافية الصادرة عنه، والتي ظهرت باعتبارها دعوة للالتحاق بالغرب لا اللحاق به، وباعتبارها محاولة جديدة لطمس الهوية لا لمواءمتها مع حقائق العصر ومتطلبات التطور، وهناك أيضًا عامل يتمثل بقوة الموروث الديني الذي بات بمثابة خط الدفاع عن الهوية، والذي تفاقم بدوره بعد أن تجاذبته الأهواء السياسية وحولته إلى نوع من أيديولوجيا مغلقة، إلا أن كيالي يتحفظ على الادعاء المتعسف القائل بأن ثمة شيئًا جوهريًا في الإسلام يحول دون التطبيع مع الحداثة الثقافية.
ينبّه كيالي إلى أنه في الوقت الذي تم فيه قبول فِكَر غربية، كالقومية والشيوعية، وحتى الفكرة الديمقراطية مع اختزالها وسيلة لوضع حد للفساد أو تلقفها شكليًا كوسيلة للوصول إلى السلطة، فإن الفكرة الليبرالية ظلّت في مكانة محاصرة أو هامشية أو في مكانة استبعادية وعدائية في الثقافة السياسية السائدة، فمعظم التيارات السائدة لم تتبن قضايا حرية الرأي والفكر والمرأة والأفراد والجماعات. ونتيجة لضعف الثقافة الحقوقية السائدة في واقع يؤيد السيطرة الشمولية، تم نبذ الليبرالية التي ترتكز على الفرد المواطن، والمساواة أمام القانون، وفصل السلطات، والدولة الدستورية. يبدو ذلك مفهومًا في ظل تهديدها للقوى الاستبدادية المهيمنة بوصفها دعوة لحرية وتحرر الأفراد والجماعات إزاء مختلف أنواع الهيمنة الفكرية أو السياسية المجتمعية أو الدولتية، وكان متوقعًا وصمها من قبل تلك القوى بشبهة التبعية السياسية (ليس فقط الفكرية) للغرب. كما تتمثّل أحد وجوه مشكلة الليبرالية عربيا في ارتباطها بالليبرالية الاقتصادية أكثر من ربطها بالدولة الدستورية وبالحريات السياسية وبحقوق المواطنين، ما وضعها على الضد من العدالة الاجتماعية في مجتمعات ترزح تحت نير الفقر والحرمان. لكن العداء برأي كيالي كان مزيفًا ومصطنعًا، ويستهدف فقط المضامين السياسية والحقوقية لفكرة الليبرالية التي قوامها احترام حرية الفرد وحقوق الإنسان وقبول الرأي الآخر والتسامح مع المختلف والمساواة أمام القانون والمواطنة في المجتمع إزاء الدولة وإعلاء شأن الدستور، وتبدو هذه المضامين، في منظور غالبية النظم العربية القائمة، والتيارات السياسية والفكرية السائدة، من المحظورات والمستوردات والبدع الدخيلة على عقيدتنا ومجتمعاتنا وتقاليدنا، كونها تشكّل برأيهم تهديدا لهويتنا، ولحال الاستقرار والسلم والازدهار "التي ترتع فيها بلادنا". يضع كيالي يده على مفارقة مفادها، أن فكرة الليبرالية راجت في البلدان العربية في المجال الاقتصادي، وفي مجال علاقات البلدان العربية مع الدول الغربية، أي فقط في المجالات التي نبذت من أجلها، مع حضورها بوصفها شبهة في المجالين السياسي والثقافي، حيث الحاجة إليها هنا ملحّة.
أخيرًا
لا يكفي أن تكون الدولة ديمقراطية حسب التعريف الأساسي البسيط، وليس هناك مزيد من ضمانات تقدمها الديمقراطية الاقتراعية، طالما أن الحقوق الأساسية للمواطن ليست محمية بسيادة القانون، فالديمقراطية الاقتراعية لا تحول دون سلطوية الدولة، ولا يمكن الاكتفاء بالديمقراطية المحدودة بسقف صندوق الاقتراع دون حرية. الأخيرة وحدها تتضمن الحافز الإنساني الأساسي، والتي كلما بحثنا فيها ووسعنا نطاقها تجاوزنا ما هو قائم منها لخلق ظروف تضمن حرية أكمل. وكما يقول العروي، فكلما تكلمنا عن الحرية كان علينا أن نحدّد موقفًا من المنظومة الفكرية التي تحمل في عنوانها كلمة حرية، أي الليبرالية، حيث الحرية في تلك المنظومة هي المبتدأ والمنتهى، الباعث والهدف، الأصل والنتيجة، في الحياة الإنسانية، فالليبرالية هي المنظومة الفكرية الوحيدة التي لا تطمع في شيء سوى وصف النشاط البشري الحرّ وشرح أوجهه والتعليق عليه.