}

التابوهات بين الدولة والدين ودور النشر.. توابيت للأدب والفكر؟

دارين حوماني دارين حوماني 27 أغسطس 2020
آراء التابوهات بين الدولة والدين ودور النشر.. توابيت للأدب والفكر؟
... نحن ندخل في توابيت عوضًا عن التابوهات!
تقديم: قضية للمناقشة

بقلم: أنطوان شلحت

تعرض الشاعرة الزميلة دارين حوماني في هذه المقالة موضوعًا شائكًا وإشكاليًا قابلًا للمناقشة على أكثر من مستوى، ونتمنى أن نتلقى مساهمات أخرى بشأنه تأخذ دورها في المزيد من وضعه ضمن سياقه العام والخاص من جهة، ومن جهة أخرى تدلي بدلوها في طرح ما يوسّع الدائرة لتشمل جوانب إضافية منه تتعلق بأمثلة قد تكون غابت عن الذهن، وبكل ما قد يتضادّ مع المسلك الذي تشير إليه، ولا سيما المتصل بأداء دور النشر.
ويأتي هذا التمنّي بالأساس على خلفية ضرورة عدم الالتباس حيال مقاربة المقالة لموضوع التابوهات بين الدولة والدين ودور النشر. وهي ضرورة راجعة إلى حقيقة أن الكاتبة تتجنّب التعميم حتى وهي تخصّص، وتحاول أن تستنبط من الخاص ملامح عينية يمكن أن تغري بالاستنتاج أن هناك ظاهرة عامة تنطبق بكيفية ما على ما هو قائم في العالم العربي، سواء من حيث أشكال الممارسة الشتيتة، أو من ناحية المقارنة بينه وبين ما يجري في الغرب على ركام تجربة طويلة في هذا المجال. 
ومن المهم لفت الانتباه إلى أن دعوتنا لتوسيع دائرة المناقشة لتشمل جوانب إضافية، ناجمة أيضًا عن تقصّد الكاتبة المبادرة إلى هذا التوسيع من خلال التطرّق أيضًا إلى أداء دور النشر العربيّة، وما يشوب هذا الأداء من "خطوط حمراء" ترتبط بالتابوهات التقليدية أو المستجدّة. 
أخيرًا، ربما يجدر كذلك الحثّ على أن نخوض في كيفية انعكاس هذا الموضوع على عملية الإبداع برمتها وعلى موقف المبدع في لاوعيه إن لم يكن في وعيه التام وهو يبدع ممسكًا بالقلم إنما من غير أن يغيب عن ذهنه إذ يفكّر بجهاز الرقابة الذي يحاول أن يمارس هيمنته على إنتاج المعرفة، مقصّ هذا الجهاز، فيعمد إلى التنائي عن بعض أو كل ما يجنبّه الوقوع عرضة له.
ومن نافل القول إنه ليست مسألة التابوهات فقط تتدخل في أداء دور النشر، بكيفية ما، إنما أيضًا ثمة مسائل أخرى تتدخل فيها ليس أبسطها قضية الجوائز، والتي تشكّل هي أيضًا موضوعًا للمناقشة على نحو منفرد وربما في تضافرها مع المسألة الأولى من باب التبرير أو التسويغ.


*****

أن تكتب وأنت تحاول تضييق فتحة العدسة ما أمكن، وأن تكتب في الوقت الذي يتوجّب فيه عليك أن تدفن قبلًا حديثك مع الله أو رغبتك في قول الحب أو حزنك من الحاكم والمتحكّم في بلدك، وأن تكتب والمقصّ في يدك فتقصّ من شعر رأسك ومن أطراف أصابعك لتصبح صالحًا للنشر فأنت في بلاد عربية يصعب إرضاؤها مجتمعة، وثمة ذراع طويلة ستلتقط أنفاسك عنك وتضعها في صندوق وستطلق على بابه "التابو".

ما هو التابو ومن أين جاءت هذه الكلمة؟

يكتب سيغموند فرويد في كتابه "الطوطم والتابو": "التابو كلمة بولينيزية، وكان شائعًا لدى الرومان. وإنه بالنسبة للشعوب الحديثة يذهب في اتجاهين متعاكسين: مقدّس ومبارك من جهة ومن جهة أخرى محظور ومدنّس، وضد تابو في البولينيزية كلمة "نوا" أي متاح للجميع. والتقييدات التابوتية شيء مغاير للمحظورات الدينية وهناك التابو الناجم عن قوة سحرية والتابو الممنوح من قبل كاهن أو زعيم، وإن التابو هو حظر عريق في القدم مفروض من الخارج (أي سلطة) وموجّه ضد أقوى شهوات البشر، واللّذة في انتهاكه تستمرّ في لاشعورهم". ويعرّف فيلهلم فونت التابو بأنه "أقدم مجموعة قوانين غير مكتوبة لدى البشرية وأقدم من الآلهة وأسبق من الأديان، وهو يتجلّى في كل عادة أو تقليد أو ينصّ صراحة عليه قانون من حظر على لمس شيء أو تناول شيء للاستعمال الخاص أو التفوّه بكلمات مستهجنة، وعلى هذا لا يوجد على الإطلاق شعب أفلت أو مرحلة حضارية أفلتت من مضارّ التابو".
وقد عرفت الشعوب تاريخيًا تابوهاتها الخاصة بها والتي تختلف من شعب إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى، كما أنها تتغيّر عند نفس الشعوب من جيل إلى آخر ومن زمن إلى آخر، فالجنس، مثلًا، لم يكن تابو في الكتابة السردية الشرقية القديمة ولا حتى في القصائد بينما يشكّل حاليًا أحد ثالوث المحرّمات العربية "الجنس- الدين- السياسة"، ويكفي أن نذكر كتاب "ألف ليلة وليلة" وأشعار بشار بن برد وأبو نواس وآخرين التي كان الجنس أحد مكوّناتها دون وجود أي نوع من أنواع العقاب لها فيما فُرض العقاب على أدبيّات مشابهة لاحقًا. فقد تطوّر الحظر في الدول الحديثة وباتت لكل دولة تابوهاتها المنصوصة قانونًا وعرفًا بناءً لرغبات الحاكمين سياسيًا ودينيًا في هذه الدول، وقد تشتمل الدولة الواحدة المكوّنة من أكثر من ثقافة أو أكثر من طائفة أو عرق على تابوهات مختلفة قد تتعارض مع بعضها البعض.
إذًا تختلف التابوهات حسب الأمكنة، وفي كل مكان سيجد المسؤولون أسبابًا للمنع، حتى أن الولايات المتحدة الأميركية، وهي تُعدّ نفسها من أكثر الدول انفتاحًا وتساهلًا، منعت نشر عشرات الكتب في القرن الماضي ما دعا عددًا من المنظّمات إلى إعلان "أسبوع الكتب الممنوعة" Banned Books Week في عام 1982 الذي يتم إطلاقه في الأسبوع الأخير من أيلول/ سبتمبر من كل عام تحت عنوان "الحرية للقراءة"، وذلك دعمًا للحرية الفكرية، ويتم فيه عرض الكتب الممنوعة للبيع أمام الزوّار وذلك تشجيعًا لإلغاء التابوهات وتحرير الفكر. وقد حدّدت كلية فورت لويس في الولايات المتحدة الأميركية الأسباب الشائعة عالميًا لحظر الكتب التي تتضمّن التشجيع على العنصرية، التشجيع على أنماط الحياة الضارة كتعاطي المخدرات أو الشذوذ الجنسي، حوار التجديف بأن يستخدم مؤلف الكتاب كلمات مثل "الله" أو "يسوع" كألفاظ نابية، مواقف أو حوار جنسي، العنف أو السلبية، مواضيع السحر، آراء دينية قد لا تتطابق مع الرأي العام، التحيّز السياسي، كتب الأطفال التي تحتوي على موضوعات "غير مناسبة" للمستوى العمري الذي كُتبت من أجله.
ومن أكثر الكتب العالمية شهرة التي تم منعها من عدد من الدول تحت عنوان تابو "الدين" نذكر كتاب "آيات شيطانية" The Satanic Verses ) 1988) للكاتب الهندي البريطاني سلمان رشدي، وتدور أحداث القصة في الفترة التي ظهر فيها الإسلام، وقد أساء فيها رشدي إلى الرسول محمد فتعرّض لردّة فعل غاضبة من قبل أطياف واسعة من العالم الاسلامي أبرزها الهند وإيران التي أصدرت فتوى بإعدام رشدي وكل من ترجم الكتاب بتهمة تجديف الدين الإسلامي. وقد عاش رشدي مختبئًا لعدد من السنوات بعد نشر الكتاب، ولا يزال هذا الكتاب محظورًا في عدد من الدول. كما تم منع رواية "شيفرة دافنشي"  The Da Vinci Code (2003) للروائي الأميركي دان براون، وهي رواية بوليسية عن جريمة قتل في متحف اللوفر لكن عددًا من الدول ومنها الفاتيكان ولبنان والأردن صادرتها ومنعت تداولها لأنها تتناول علاقة المسيح بمريم المجدلية بطريقة منافية لما هو مذكور في الكتب المقدّسة، واعتُبر الكتاب مسيئًا إلى المسيحية ولا يزال محظورًا في عدد من الدول. ومن الكتب أيضًا التي مُنعت بسبب التابو الديني كتاب "نقد الفكر الديني" (1969) للباحث السوري صادق جلال العظم الذي انتقد فيه التفكير الديني، ما تسبّب له بمشاكل قضائية في لبنان فاضطر للهروب من بيروت إلى دمشق وقد اتهمّه القضاء اللبناني بإثارة النعرات الطائفية وتحقير الأديان فيما برّر عمله بأنه ينتقد كيف يفكّر رجال الدين وليس موجّهًا إلى العقائد الدينية بحدّ ذاتها.



سياسيًا، من الكتب التي مُنعت لفترات طويلة رواية "الساعة الخامسة والعشرون" (1949) للروائي الروماني قسطنطين جيورجيو في أوروبا لأنها تتضمّن الحديث عن المجازر التي ارتكبها الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وقد تم رفع الحظر عنها بعد أكثر من عشر سنوات على صدورها. كما مُنعت رواية "مزرعة الحيوان" (1945) للروائي الإنكليزي جورج أورويل (إريك آرثر بلير)، وهي رواية ديستوبية تعرض فساد الثورات على أيدي قادتها في حال لم يتم الانتقال إلى حكم الشعب، وكيف يدمّر انحراف القادة وطمعهم أي أمل في اليوتوبيا، وقد مُنعت في الاتحاد السوفييتي كما منعت لاحقًا في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا والإمارات العربية وعدد من الدول، كما مُنعت روايته الأخيرة "1984" (1949)، وتم منع تداول ونشر كتاب "كفاحي" (1925) لأدولف هتلر الذي يتضمن سيرته الذاتية ومذهبه الأيديولوجي من قبل روسيا وألمانيا التي تتشدّد في منع نشر الكتاب حتى الآن. وعند صدور رواية "كوخ العم توم" (1852) للروائية الأميركية هارييت بيتشر ستاو حظرتها الولايات المتحدة الأميركية وكذلك الاتحاد السوفييتي بسبب محتواها المناوئ للعبودية.

 







تابو الجنس
حصة الروايات، التي كسرت تابو الجنس ومُنعت لسنوات طويلة قبل أن يتم إعادة نشرها، واسعة، ومنها "مدار السرطان" Tropic of Cancer )1931) للروائي الأميركي هنري ميلر الذي دوّن فيها حياته الجنسية بشكل صريح لكن الرقابة الأميركية لم تتقبّل ذلك ومنعت طبع وتوزيع الكتاب، وقد عمد أحد الناشرين إلى التحايل على الدولة ونشر الكتاب فحكمت عليه بالسجن لمدة عامين. بعد ثلاثين عامًا من إصدار الرواية حكم القضاء الأميركي على الرواية بالبراءة من البذاءة. أيضًا رواية "لوليتا" (1955) للكاتب الروسي الأميركي فلاديمير نابوكوف مُنعت بسبب الفحش وتم رفع الحظر عنها في عام 1964. كما تم منع عدد من الكتب التي رأت فيها السلطات ضررًا اجتماعيًا مثل "كنديد" التي تُعدّ حاليّا من أشهر روايات الأديب الفرنسي فولتير، فقد تمّ منعها لفترات من قبل السلطات الأميركية بدعوى الفحش، وكذلك كتاب "دليل الانتحار" للكاتب الفرنسي كلوديو غيلين الذي يحرّض على الانتحار.
أما عقاب انتهاك التابو قديمًا فكان يتم بالقتل كما حدث مع سقراط الذي تمّ اعدامه لأنه يُفسد أخلاق الشباب بانتقاده آلهتهم، وما حدث مع غاليليو الذي قال بمركزية الشمس ودوران الأرض حولها واعتبرت الكنيسة أنه يعمل على نشر ما يتعارض مع النصوص الدينية وكلاهما اتُهما بالهرطقة.
يقول فرويد: "الإنسان الذي انتهك تابوهًا يصير هو نفسه تابوهًا لأنه يملك الأهلية الخطيرة لإغراء الآخرين باتباع أمثاله، إنه يوقظ حسدًا"، وبهذا فإن من يكسر التابو يصبح خطرًا على المنظومة المجتمعية وعليه يجب معاقبته.

 من الكتب التي مُنعت لفترات طويلة رواية "الساعة الخامسة والعشرون" (1949) للروائي الروماني قسطنطين جيورجيو في أوروبا 



















حرق المكتبات
لعلّ أكبر عقاب عرفته البشرية بحق الكتب هو حرق المكتبات والذي يشبه ما يُعرف حديثًا بمصادرة الكتب. فقد دمّر الإمبراطور الروماني جوفيان مكتبة أنطاكيا في عام 364 بسبب معاداته للمسيحية، وحين دخل عمرو بن العاص مدينة الإسكندرية في عام 640 أمر بإحراق الكتب عبر استخدامها للتدفئة في الحمامات لأن فيها ما يُخالف كتاب اللـه.. وفي عام 1453 أحرق العثمانيون مئات الآلاف من المخطوطات التي كانت بمكتبة القسطنطينية للأسباب نفسها. وعندما تسلم هتلر الحكم في ألمانيا أحرق أكثر من خمسة وعشرين ألف كتاب في ميونيخ لأنه اعتبرها "غير ألمانية".
وعرفت المجتمعات الحديثة أنواعًا مختلفة من العقاب، ثمة دول تحكم بالسجن أو بالنفي على منتهك التابو وثمة من يصادر ويمنع نشر العمل الأدبي، لأنها ترى فيه تهديدًا لكيانها ومجتمعها. لكن ثمة كتّاب تم رفض نشر أعمالهم مسبقًا واعتُبرت غير صالحة للنشر. فقد رفضت اثنتا عشرة دار نشر القصة الأولى من سلسلة "هاري بوتر" للكاتبة البريطانية ج. ك. رولينغ في عام 1997 واشترطت الدار الثالثة عشرة أن تختصر اسمها إلى ج. بدل جوان كي لا يظهر أن كاتب القصة إمرأة. وهل يمكن تصديق أن تلك الرائعة العالمية "ذهب مع الريح" (1936) للكاتبة مارغريت ميتشيل تلقّت ثماني وثلاثين رسالة رفض نشر لروايتها المذكورة والتي حازت على جائزة بوليتزر في عام 1937، ويكفي أن نقرأ عن حزن فيرجينا وولف لرفض عدد من دور النشر عملها "أورلاندو" لأنه بنظر دور النشر "كتابة نسوية" حيث كانت الكتابة النسوية بحدّ ذاتها نوعًا آخر من التابو.   


رفض النشر والوضع القائم في العالم العربي
يعرض الصحافي الإيطالي ريكاردو بوزي في كتابه "عزيزي الكاتب؛ رسائل الرفض من دور النشر للأعمال العظيمة" (دار نينوى 2018، ترجمة محمد ناصر الدين) خمسين رسالة متخيّلة موجّهة من دور النشر إلى كتّاب عالميين تم رفض نشر أعمالهم فعلًا، وسوف نتفاجأ حين نعرف أن مرسيل بروست وفرجينيا وولف وصموئيل بيكيت وفرانز كافكا وسيغموند فرويد وآخرين تلقّوا رسائل رفض من دور النشر على أعمال صُنّفت فيما بعد على أنها من أكثر الكتب أصالة في تاريخ الأدب والفكر.




يهزأ بوزي في كتابه من دور النشر في نقد مبطّن لفلسفتها التسويقية، نقرأ ردّ إحدى دور النشر على رواية "المسخ (التحوّل)" لفرانز كافكا يقول فيها: ".. للأسف عالم الكتب ليس مكوّنًا حصرًا من الكتب! هناك عوامل أخرى لا بدّ من رصدها وسط هذا العالم المعاصر الذي يتّسم بانعدام الصبر والسطحية. هنا يكمن الاقتراح العظيم، لمَ لا تجعل من البطل شرنقة، البطل الذي سيظل مرعوبًا سيتحوّل إلى كائن رائع وستكون خاتمة الرواية سعيدة، ملونة وقد ينتهي الأمر بأن تصير الرواية مثار اهتمام شركة ديزني، فكر بقصة الجميلة والوحش".
وفي رسالة موجّهة إلى فيورور دوستويفسكي يكتب بوزي: "... كتابك لا ينفع لشيء البتة، ففي محاولتك بأن تتحوّل إلى آغاثا كريستي أقترح عليك دراسة هذا النوع الأدبي بشكل أعمق والعمل بمثابرة أكبر".
أما فيرجينيا وولف فقد أرسل لها الناشر: "ذكر؟ أنثى؟ الحقبة الملكية لإليزابيث الأولى؟ الحقبة المعاصرة؟ عاودي الاتصال بنا من فضلك حين تجدين حبكة على قدر أكبر من التماسك".
وألبير كامو أجابه الناشر: "حسنًا لنرَ إن كنت فهمت المسألة بدقّة. رجل يخرج من بيته، يطلق الرصاص، على من؟ على عربي. عظيم. الجواب هو لا، هذا ما أعتقده".
وينهي الكاتب بالرسالة الأكثر سخرية من واقع النشر موجّهة إلى "الرب- العهد القديم": "سأكون معك في غاية الاستقامة، أود القول حين تكتبون نصًّا حول نشأة الكون ننتظر أن تشرحوا بإسهاب، بالتفاصيل، ودائمًا بالتفاصيل. ماذا لدينا: "في البدء خلق الله السماوات والأرض". أوه بجد؟ هذا كل شيء؟ حبًّا بذاتكم، أطلقوا بعض التوصيفات الحقيقية باسمكم المقدّس. حين تكتبون نصًّا حول نشأة الكون فإنكم ترومون ترك أثر من خلفكم، شيء يستذكره البشر على الأقل لسنوات عديدة على الأقل وليس "خلق الله السماوات والأرض"، نقطة. من تظنون أنفسكم بهذا الأسلوب المقتضب. صموئيل بيكيت؟ تمدّد، ضاعف من الكلمات، استطرد، عبّر عن نفسك أيها الربّ".








قد لا تصحّ المقارنة بين العرب والغرب في مسألة التابو، فالغرب، بشكل عام، يخفّض تدريجيًا من سقف التابو حتى نكاد نشعر أنه بات محصورًا بما قد يؤذي طلاب المدارس أو من هم دون السنّ، وباتت فلسفة النشر مستندة إلى أبعد ما يكون عن التابوهات، وهناك العديد من الكتب التي كانت ممنوعة أوروبيًا وأميركيًا وتمّ رفع الحظر عنها، وهم يبحثون حاليًا عمّا قد يجذب القرّاء لتحقيق الربحية، وهو ما كان يهدف الكاتب بوزي إلى إيصاله عبر كتابه. أما في عالمنا العربي، بشكل عام، فالرقابة تبدو وكأنها تعمل في نقد الوهم، تبحث عن قشور خارجية وتفرزها في قائمة "غير الصالح للنشر"، ويتمّ سنويًا مصادرة ومنع نشر عشرات الكتب أو مقاضاة كتّابها بحجّة أنها لم تراعِ تابوهات المجتمع والدولة. ومن الكتب الممنوعة عربيًا: "نقد الخطاب الديني" لنصر حامد أبو زيد، "تحرير المرأة" لقاسم أمين، "المرأة والفكر والسياسة" لنوال السعداوي، "حتى لا تكون فتنة" لغازي القصيبي، "الحرب القذرة" لحبيب سويدية.. والقائمة تطول. ويمكن أن تتّضح من عناوين الكتب أسباب المنع التي لم تتغيّر ولم تتطور بل تزداد تشدّدًا، لذلك يحرص عدد من دور النشر حاليًا على الرفض المسبق لطباعة ونشر المنجز الأدبي إذا وجد أن فيه ما يقع تحت عنوان الثالوث المحرّم لئلا يقع في مساءلات مستقبلية أو تفاديًا لخسارته المادية جرّاء نشر كتاب سيطاله المنع والمصادرة، وقد لا يكون المضمون متجاوزًا لهذه المحرّمات بطريقة فضائحية بل قد يلامسها من الخارج إلا أن الذراع الطويلة سوف تعمد مباشرة إلى الشطب. وقد ولّدت هذه الذراع العليا أذرع موزّعة بين دور النشر للقصّ والمنع دون مراعاة للقيمة الأدبية للعمل فيما تتمّ الموافقة على أعمال لا تملك المحتوى الإبداعي لأن صاحب العمل سيسدّد تكاليف النشر والتوزيع مع ربحية لدار النشر، وهنا ثمّة تساؤل عن هذه الدور العربية التي تعمل على تضييق مساحة حرية التعبير فتحوّلت إلى مقابر أدبية. ويبرّر المعنيّون في أجهزة الرقابة العربية بأن عددًا من الكتّاب يرغبون بالشهرة وبلفت النظر إليهم وإلى أعمالهم فيتقصّدون التطرّق إلى مواضيع حسّاسة اجتماعيًا وسياسيًا ودينيًا، وفي أغلب الأحيان لا تكون هذه الجرعات المحرّمة الموظّفة في النص ذات فائدة بنائية للنص، ولا أساسية فيه لذلك يتم حظر نشر هذه الكتب التي تلجأ إلى استثمار المحرّمات لأغراض غير أدبية صافية. أما في مسألة الربحية فليست دور النشر العربية بعيدة عن ذلك أيضًا، فإضافة إلى التابوهات ثمة رفض لأجناس كاملة من الأدب، حيث ترفض بعض دور النشر النصوص الشعرية والمجموعات القصصية وفي المقابل ترحّب بالروايات نظرًا لازدهار سوق الرواية الذي يكاد يقضي على الأجناس الأدبية الأخرى. فهل نحن أمام شكل آخر للتابو؟





إذًا ما هي المعايير التي يجب العمل عليها قبل الشروع في الكتابة؟ هل يتوجّب على الكاتب أن يدوّن وهو حامل القلم والمقصّ سويّةً، وهو يفكّر في جهاز الرقابة القاعد على رأس الهرم الأدبي ويمارس هيمنته على إنتاج المعرفة؟ أم عليه أن يفكّر بكيفية رواج الكتاب وكيفية الحصول على جائزة همّشت عشرات الكتب ذات القيمة؟ وهل عليه أن يوائم بين طموحات الناشر وبين ما يريد قوله بحرية؟ إننا أمام ما يمكن اعتباره بمثابة مأساة أدبية وفكرية، ولا يجوز التغاضي عن مسؤولية دور النشر بالتسبّب بها والعمل على تكريسها.
بين الحرية الفكرية والتابو مسافة غير آمنة في عالمنا العربي، مسافة غير صالحة للفكر والأدب تتسرّب منها خطوط حمر في عالم يبحث عن الربحية، لا يفي الكاتب حقوقه الطبيعية مقابل جهده، يبحث عن الجائزة، يعترض، يقصّ، وها نحن ندخل في توابيت عوضًا عن التابوهات، وربما في أدب سيقضي على نفسه عاجلًا أم آجلًا.   

مراجع مختارة:

*سيغموند فرويد، الطوطم والتابو (1913). ترجمة بو علي ياسين (1983). دار الحوار للنشر والتوزيع.

*ريكاردو بوزي، "عزيزي الكاتب؛ رسائل الرفض من دور النشر للأعمال العظيمة" (2016). ترجمة محمد ناصر الدين (2018). دار نينوى.
 

*"Common Reasons for Banning Books," Fort Lewis College, John F. Reed Library. Banned Books, Censorship & Free Speech. November 15, 2013. Web. March 19, 2014:

*https://library.loras.edu/bannedliterature/modern#:~:text=Common%20Reasons%20for%20Banning%20Books&text
=This%20could%20include%20drug%20use,any%20reader%20might%20find%20offensive.
 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.