يبدو الكاريكاتور كأنه الفن المكبوت، بل الملعون والمحظور، في الممارسة التصويرية العربية. فلقد مورس في الثقافة العربية بالكثير من الحياء، ولم تبزغ فيه من الأسماء إلا ما لا يجاوز أصابع اليد قليلًا، ولم تتبنّه في بلدان العالم العربي إلا بعض الجرائد. فمع أن العرب تعتبر أعذب الشعر أكذبه، ومع أن الشعر العربي قد بلور ضربًا في تقاليده العريقة عُرف بالهجاء، وأنشأ بلاغة قائمة على المبالغة، فإنها، في ما يبدو، تمقت السخرية في قيامها على المفارقة، وأنظمتها لا تحتمل النقد، خاصة إذا ما مسّ الفرد أو النسق السياسي برمته.
بالصدفة اطلعت على مجموعة من الرسوم الكاريكاتورية نشرها الفنان السعودي المعروف فيصل السمرة في صفحته بالفيسبوك. تعود تلك الرسوم إلى فترة شبابه في الثمانينيات، وهو جانب لم أكن أعرفه عن تجربة هذا الفنان المعاصر الذي درس الفن بباريس، وتعرّض أحد معارضه في التسعينيات للمنع ليتوقف عن العرض في السعودية ولا يعود لها إلا بعد سنوات من ذلك.
ذكرتني تجربة فيصل السمرة بتجربة جورج بهجوري، الذي زاوج لمدة طويلة بين "الرسم الساخر" (الكاريكاتور) وبين التشكيل. وانتبهتُ إلى ضمور هذا الفن الحيوي المشاغب في بيئتنا العربية، مع أن الرسامين والفنانين التشكيليين لدينا كثْر حتى أَنَّ عددهم أضحى يجاور وفرة الأدباء، بحيث لا يضاهيه سوى ضمور الرسوم المصورة الموجهة للأطفال وبخاصة للناشئة والكبار.
من المزاوجة إلى الاحتراف
لا يوجد فنانون تشكيليون كثيرون مارسوا الكاريكاتور بهذا القدر أو ذاك من الشهرة. أو إن أغلبهم ظل ذا ممارسة محلية لا تبلغ أطراف العالم العربي كما كان حال بهجوري، الذي بدأ حياته مزاوجًا بين الكاريكاتور والتشكيل، بل إنه مارسه بشكل منتظم منذ 1953 (حتى أواسط السبعينيات)، في مجلتي "روز اليوسف" و"صباح الخير"، بدعوة في البداية من إحسان عبد القدوس الذي طلب منه كشف أحوال الناس في صفحة تحمل عنوان: "أخبارهم على وجوههم". والحقيقة أن هذا الانبثاق الاحترافي لفن الكاريكاتور دان به بهجوري لقيم القومية والتقدمية التي هبت رياحها في تلك الفترة، ولانفتاح الفن العربي على قضايا المجتمع وللحرية النسبية التي كانت تجعل من النقد الاجتماعي مهمة المثقف والكاتب.
لقد ارتبط فن الكاريكاتور في العالم العربي (كما في غيره من البلدان) بالصحافة. وهو في ذلك يشكل بصورة ما ذاكرة المجتمع العربي وصراعاته الوطنية والقومية، يلتقط الأحداث ويعلق عليها بنبرة ساخرة نَقّادة، مندِّدا بهذا الفعل أو ذاك، ومكثفا بشكل بارع وضعيات مركّبة يمنحها أحيانًا طابعًا حكائيًا. هذا الطابع الحكائي المصور، المشبع بالمفارقات الساخرة، هو ما يجعل المصور الكاريكاتوري يزاوج أحيانًا بين الصورة والكلمة، وبين الوصف والحكي ليؤلف لقطة باهرة لا تخطئ هدفها. وهذه الخاصية المركبة للصورة الكاريكاتورية هي ما يمنحها كثافتها التعبيرية. والحقيقة أن تلك المزاوجة ليست لازمة، واللجوء إليها يجعل الصورة فقيرة إلى اللغة، خاصة في ثقافة متمركزة حول اللغة والخطاب كما هو حال الثقافة العربية.
حين يتملص الفنان الكاريكاتوري من اللغة يمنح لرسالته طابعًا تصويريًا، ويسبغ عليها استقلالًا ذاتيًا لا يمكن أن يصل إليه الكاريكاتوري إلا بالتكثيف البصري. وهو ما يعني أن فنان الكاريكاتور يبلور أسلوبًا شخصيًا يجعل من الصور والشخصيات والإحالات والوضعيات والتفاعلات دالة بذاتها، وفي غنى عن أي مكوّن لغوي يأتي لتوضيحها. لذا فإن دور اللغة يغدو ثانويا، ويأتي فقط لتعزيز الدلالة البصرية.
تتمثل هذه البصمة الشخصية للفنان في طبيعة الرسوم، وطبيعة الشخصيات، وشكل تمثيلها وتصويرها، كما في طبيعة التركيب الحكائي أو الوصفي. فلا حاجة لنا إلى البحث عن توقيع بهجوري أو ناجي العليّ أو علي فرزات تحت الرسم الكاريكاتوري كي نتعرف عليه. فأسلوبه هو ما يقدمه لنا أساسًا، بالشكل نفسه الذي نتعرف فيه على لوحات بيكاسو أو دالي أو الجيلالي الغرباوي أو محمود سعيد.
فن محفوف بالمخاطر
عرف الفن والصحافة المصرية منذ أواسط القرن الماضي فن الكاريكاتور، الذي ارتبط منذ نهاية الأربعينيات بالتطور الباهر للصحافة بمصر. وهكذا تآلفت مصر (ومعها العالم العربي برمته) بفن قريب من حساسية الشعب، بين التصوير التشكيلي والرسم، لا يحتاج لتأويل وثقافة بصرية خاصة، ويتوسل أيضًا باللغة خلافا للتشكيل. لكن فنان الكاريكاتور ظل هدفًا لكافة أنواع القمع والتنكيل حين يجاوز حدود المجتمع، ويصور الشخصيات النافذة أو يتناول بالنقد اللاذع القضايا الحساسة للدولة أو النظام.
فقبل أن يلج سجونَ عبد الناصر مثقفون وفنانون وتشكيليون وكتاب معروفون، كان عبد المنعم رخا، فنان الكاريكاتور المصري، قد تعرض للسجن أربع سنوات، بعد نشره قبل الثورة لصورة كاريكاتورية كتب تحتها "يسقط الملك فؤاد". وإذا كانت هذه الواقعة ليست واردة دومًا، فذلك لأن القائمين على أمور الحكم يعوضونها بالترهيب وبأشكال أخرى من القمع والكبت. بيد أن السجن ليس سيد المخاطر في مسارات فناني الكاريكاتور. فهم، إن لم يكن القتل والإبادة مصيرهم، يكونون عُرضة لكافة أشكال العنف الجسدي.
لقد تعرض الفنان ناجي العلي للقتل في واضحة النهار في لندن عام 1987، بطلق ناري من الخلف، وهو متوجه لعمله في جريدة "القبس" بالمدينة نفسها. لم يتم العثور على قاتل الفنان، حتى إن الشرطة اللندنية فتحت تحقيقًا جديدًا في القضية علّها تعثر على من ارتكب الجريمة، باعتبار أن تغير الأوضاع والولاءات السياسية قد يسهل مأموريتها. لم يسطع نجم فنان كاريكاتوري أكثر من ناجي العليّ، وكأنه جاء محمولًا إلينا على جناحي قضية كانت تخترق وجدان كافة أبناء العالم العربي. كان لوحده يمثل القضية الفلسطينية، لا فقط برسومه وإنما أيضًا بشخصية حنظلة التي تمثل نظرته إلى العالم. ومع أنه في أواخر حياته غدا ينتقد الشؤون الفلسطينية من الداخل، إلا أن ذلك يمكن اعتباره تطورًا في نظرته للسياسة التحررية الفلسطينية، وموقفًا يتناسب ونظرته لها.
وكان الكاريكاتوري السوري علي فرزات ضحية لاعتداء جسدي بالغ، إذ تعرض للاختطاف (من أجهزة الأمن) والتعنيف الجسماني عام 2011، بمدينة دمشق.
تلكم وقائع تدل بشكل قاطع على أن فن الكاريكاتور يتميز بوضع خاص في الفنون البصرية. والتباسه الاعتباري نابع من علاقته باليومي والاجتماعي، كما بالسياسي والاستراتيجي. فهل يحمل فنان الكاريكاتور نعشه (أو زنزانته) على كتفه؟ ليس هذا قَدر الكاريكاتور العربي فقط، فمقتل خمسة كاريكاتوريين فرنسيين معروفين بباريس في الاعتداء المسلح على مقر "شارلي إبدو"، يمكن اعتباره الأفق الأقصى للخطر المحيق بالرسام الكاريكاتوري، حتى في بلد علماني وديمقراطي كفرنسا.
سياسة الكاريكاتور والكاريكاتور السياسي
حين يتحدث البعض عن الكاريكاتور السياسي، يبدو لنا الأمر من الوهلة الأولى ضربًا من تحصيل الحاصل. فالكاريكاتور مهما ابتعد عن النقد السياسي الساخر يظل متاخمًا له. ومهما تناءى عن انتقاد الشخصيات السياسية يظل فاضحًا للسياق وللأنظمة التي تندرج فيها، بل إنه كلما كانت نظرته البصرية مواربة غالبًا ما تصيب مقتلًا من الهدف. لهذا يفترض الكاريكاتور حرية سياسية قد لا تتوفر بالشكل المطلوب في البلدان العربية، التي تهيمن فيها مساحة المقدس والمحرم سياسيًا ودينيًا واجتماعيًا.
ربما لهذا السبب يُعتبر هذا الفن هجينًا ومتأرجحًا بين الرسم والصورة التوضيحية وأحيانًا التشكيل. بل ربما أيضًا، ونظرًا لهذه الهجنة والالتباس، يظل الفن الأكثر مباشرة والأكثر بلاغة والأقرب إلى الفعل منه إلى الخيال، بالرغم من أن الخيال هو سبيله الأول نحو الاستهداف. ثمة إذًا سياسة توجه هذا الفن وتثوي وراءه، وتشكل استراتيجية له.
فسواء تناول الكاريكاتور اليومي والاعتيادي، أو الكوني والعالمي، أو السياسة أو المجتمع، أو الحدث، فإنه يختزله عادة في صورة ومشهد وحالة. هذه القدرة على الاختزال تقرّبه من النكتة كما من اللقطة الفوتوغرافية. من ثم يرمي الكاريكاتور، في قيامه على الاختزال والتركيب والمفارقة والاستهداف النقدي، إلى بناء الدلالة الداخلية والمعنى الموجه للناظر- القارئ. وفي هذه القوة يبني فعاليته السياسية، ويقول بشكل أوضح وأنجع، ما لا يقوله الخطاب السياسي نفسه.
ما توحي لي به الرسوم الكاريكاتورية لفيصل السمرة يتصل بكافة هذه الجوانب. فهذا الفنان، إن هو تخلى عن "مهنة المتاعب" هذه لارتباطها بالحدثي والسياسي، فلكي يتابع مغامرة فنية لم يتنصل فيها قط من البعد الفني للعمل التصويري، سواء كان تشكيلًا أو منشأة فنية. إنها محطة في مسير فني بلوره السمرة في المجال الفاسح للتعبير البصري. وهو ما منحنا فنانًا مكتمل التعبير، عاش تجربة الكاريكاتور من غير أن يحترفها، وكأنه استبطنها في جسد تجربة فنية متعددة، منفتحة على السياسي، حتى في صلب التعبير التشكيلي والبصري.