كنت وأنا أقرأ كتاب البديري، ربما للمرة العاشرة، فلقد قرأته للمرة الأولى منذ زمن لا يقل عن ثلاثين سنة، كنت أتساءل، فكيف كان يتصرف الحلاق الشامي أثناء العهد البيزنطي، كيف كان ينظر إلى العالم، والحياة، وإلى القيصر البعيد هناك في الأناضول. إلى من كان يدعو بالنصر. وهل تغيَّر شيء على بلاد الشام خلال العهدين سوى أنَّ اسم الحاكم قد تغيَّر فقط. فبدلًا من الاسم اليوناني المعقد الطويل، حلَّ اسم يتبدى وكأنه عربي، وهذا تعويض كافٍ عن القتل والجوع، والطاعون، والجراد، والغلاء الفاحش.
بلاد الشام والبلقان إقليمان سيئا الحظ، ولعنتهما الكبرى هي الجغرافيا الظالمة التي مزقتهما إلى بليدات، وجبال، ووديان، لم تمكِّن الإقليمين أبدًا من تشكيل دولة موحدة كبيرة. هذه الجغرافيا الظالمة كانت أكثر من كريمة مع أقاليم ثلاثة محيطة، الأناضول، ومصر، وفارس. ولذا كانت نقطة الصراع بين هذه الأقاليم الثلاثة دائمًا الشام. ومن يدفع ثمن تمزقه الجغرافي والثقافي، وعجزه عن تشكيل دولة كبيرة موحدة، كان الشام.
والمرة الوحيدة التي استطاعت الشام أن تثأر لعجزها الجغرافي، وتمزقها الثقافي، كانت في الفترة الأموية، حين شكلت تلك الإمبراطورية الرائعة التي امتدَّ نفوذها من الهند وحتى جنوب فرنسا. لكن، علينا أن نلاحظ أن هذه الغلطة التاريخية جغرافيًا سرعان ما عوقبت عليها الشام عقوبة مروِّعة، حين أُسقِطت الدولة الأموية، وانتُقِم منها، ثم من الشام، حين هُمِّشت الشام تهميشًا مروِّعًا لعدة قرون، حتى عاد بها نور الدين بن زنكي إلى بعض النور، ثم صلاح الدين، ثم عادت إلى التبعية المروِّعة لواحد من الإقليمين الكبيرين، مصر، أو الأناضول.
ولنعد إلى التاريخ. الأناضول سيطرت على الشام في العهد الحثي، فكان لا بد من اصطدامها بمصر، ومتابع التاريخ يعرف التفاصيل، ولكن الروائي والشاعر فقط يستطيع تخيّل الخراب والحرائق، والقتل، والسبي، والنهب الذي حاق بضحايا الجغرافيا الممزِّقة.
مضى الحثيون، وجاء المقدونيون، ثم اللاتين، ثم الروم.. بيزنطيو روما الشرقية، فحكمت المنطقة كلها، وحكمت مصر، وشمالي أفريقيا، وكان الصراع هذه المرة مع فارس، وكان الضحايا هذه المرة، كما في كل الحروب الإقليمية، هم الشاميون. القتل، والغصب، والحريق، والنهب، والسبي، و.. الدعاء بالنصر.
وجاءت المسيحية، وهي دين غريب عن الأديان السابقة كلها، فلم تكن دينًا متعبدًا للملك، وللسلطان الأرضي، بل كانت دينًا شعبيًا سئم القياصرة، والحكام مطلقي الصلاحية، دينًا يقول: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله. أي ابتعد عن قيصر وسياسته وبطشه، ومن صفعك على خدك الأيمن أدر له خدك الأيسر، و.. من كان منكم بلا خطيئة، فليرمها بحجر. و.. هذا لحمي فكلوه، وهذا دمي فاشربوه.. إلى آخره..
ضاقت روما بهذا الدين المفتِّت لوحدة الدولة، فحاربته، ولكن الناس المهزومين الضائعين، السئمين، العاجزين أمام البسطار اللاتيني المرعب، وجدوا خلاصهم في هذه العلاقة الكونية مع السماء، ومع الله، ومع ما هو أقوى من البسطار وقيصره، فأمعنوا في تدينهم في الدين الجديد، ولكن بيزنطة ـ وهي ما يعنينا في مقامنا هذا ـ كانت أذكى من الاستسلام أمام هذه الجائحة المعادية للدولة، فتبنت الدين الجديد، ولكن الشام الممزَّقة جغرافيًا وثقافيًا، مطلقة هذا الدين الضمير، لا دين المؤسسات، سرعان ما أطلقت عددًا من الفرق، والمذاهب المسيحية، النسطورية، الأريوسية، الأبيونية، المرقيونية، وأهمها اليعقوبية، التي ستسيطر على الشام ومصر تحت اسم الدينين الوطنيين؛ السريانية، والقبطية.
قامت روما الدولة بإعادة تشكيل مؤسسة الدين ليصبح دينًا دولتيًا، فعقدت مجمع نيقيا لتوحيد الرأي حول المختلف عليه في الدين، ولكن الشاميين رفضوا التخلي عن رؤاهم للدين الذي نشأ في أحضانهم والانضواء تحت وحدة الدين ـ الدولة، وقامت الثورات والصراعات، فعقدت روما الشرقية مجمعًا ثانيًا هو مجمع خلقيدونيا. وبعد هذا المجتمع انقسمت المسيحية إلى مرحلتين: المسيحية الخلقيدونية، التي دان بها الأناضوليون وأوروبة المسيحية، وبعض الشام وبعض شمالي أفريقيا، والمسيحية اللاخلقيدونية، التي دان بها كثير من الشاميين تحت مسميات مذهبية مختلفة، وفارس التي دان أكثر مسيحييها بالنسطورية، وبدأت الثورات، وإخمادها، والحروب الفارسية مع بيزنطة، وما جرَّه هذا كله على الشام التي تعنينا الآن، من قتل، وحرق، ونهب، وغصب، إلى آخر ما يمكن أن تجرَّه الحروب الطاحنة على الحياديين والمواطنين الأبرياء..
كانت الشام قد احتقنت بالقبائل العربية (المتشوِّمة)، التي تحضرت، أو ما زالت على بداوتها، وكانت الشام قد حاولت إقامة دولة شامية في تدمر بعد ثرائها المهول من تجارتها عبر الشرق والغرب، ولكنها أخفقت تحت ضربات روما المدمرة، وكانت قد حاولتها من قبل تدمر مع الأنباط في مدائن صالح، والبترا بعد ثرائها المهول من تجارتها عبر الشرق والغرب أيضًا، ولكنها أخفقت تحت ضربات روما أيضًا.
لديَّ سؤال روائي يتمسَّح بالتاريخ: أين اختفى الأنباط والتدمريون المهزومون بعد سقوط دولتهم؟ هل تسربوا، أو بعضهم، إلى الحجاز، إلى مكة؟ ونسابو العرب حين ينسبون العرب يقولون عن قريش إنهم العرب المستعربة، بل حتى تسميتهم بقريش، وهو مصغر القرش، وفي أحد معانيه سمكة القرش النهمة والجريئة، والعرب كانوا يسمون من كان خارج جزيرة العرب من العرب بالنبط.
ويعود السؤال: كيف استطاع قصي بن كلاب، أحد أجداد الرسول صلى الله عليه وسلم، أن يؤلِّف قلوب البداة الغزاة ليسمحوا بمرور القوافل من اليمن والحبشة، وفارس، والشام والروم، عبر أراضيهم، لو لم يكن لديه سابق خبرة بهذا النوع من الإيلاف ـ الاتفاقية التي أخضع بها قبائل العرب العاصية للتنظيم الجديد، هذا التنظيم الذي سيحدثنا عنه القرآن الكريم بقوله: "لإيلاف قريش، إيلافهم، رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا ربَّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف". صدق الله العظيم.
بل ما الذي جعل عبد الله بن جدعان، أحد أشراف قريش وتجارها الكبار، يدعو إلى إقامة حلف الفضول، وهو الحلف الذي سيذكره الرسول الكريم في ما بعد، بما معناه: لو دعيت إليه لاستجبت.... هذا الحلف الذي كان المقصود منه حماية الضعفاء من الأقوياء، أو.... إقامة شكل جديد من أشكال الدولة، هذا الحلف. أليس شكلًا من أشكال الكونغرس، أو مجلس الشيوخ المبكر؟.... هل كان هذا الحلف ـ المجلس استجابة لنداء بعيد عرفه القرشيون في الشام قبل لجوئهم إلى الحجاز....
وهل كان الشاميون ـ القبائل العربية المتشومة- يعرفون هذا التاريخ الذي نجهله، فاستقبلوا المسلمين الحجازيين استقبال المحرِّرين العائدين، ورأوا فيهم محققي الحلم بدولة شامية طالما اشتاقوا لها؟ الله أعلم.... لكنه.... سؤال روائي.
المهم.... الدولة الأموية ـ الشامية لم تستطع العيش طويلًا، فلقد هاجمها الخراسانيون تحت راية العباسيين، ولنذكر أن ما بين سقوط فارس الدولة على يد المسلمين، وسقوط دمشق الأمويين، لم يزد عن القرن الواحد.... وانتصرت الجغرافيا. وفقدت الشام الممزَّقة جغرافيًا وثقافيًا مركزيتها، ولكن الصراع التاريخي ما بين إيران وطوران سرعان ما يتجدد، والتاريخ الشرقي الكلاسيكي، وملاحم فارس كلها قبل الإسلام، حافلة بالصراع ما بين إيران، أي الشعب الآري ـ الفارسي، وطوران، آسيا الوسطى، والعميقة. وهكذا أتى الترك، لتصبح الدولة العباسية ميدان الصراع ما بين إيران ـ الإدارة ـ فقد كان لهم ديوان القلم الذي أعطاه لهم المأمون ابن الزوجة الفارسية ـ وطوران ـ ديوان العسكر منذ المعتصم ابن الأم التركية، أما العرب فقد تمزَّقوا في الشام إلى دويلات، كما كانوا قبل الإسلام؛ الحمدانيون في حلب والموصل، بنو صدقة في جعبر، وبنو منقذ في شيزر، بنو عمار في طرابلس، بنو مرداس في الساحل. (هذه الأسر لم تكن متعاصرة. أنا أتحدث عن دويلات المدن الشامية التي لم تستطع منذ الأمويين تشكيل دولة مركزية موحدة).
وفي هذه الأثناء، تمامًا، ولم يمض على الإسلام في الشام ثلاثة قرون ونيِّف، عادت الأناضول البيزنطية إلى الشام ثانية، فليس هنالك من دولة مركزية تمنعهم، ودام الصراع على حلب مع سيف الدولة وورثته إلى أن استولوا على حلب، أو أتبعوها إقطاعيًا بهم، واحتلوا أنطاكية، ثم الساحل الشامي، وحمص، وحماة، وطرابلس، ووصلوا إلى حدود دمشق.... وتدخلت مصر.... فطردتهم.... وجاء الصليبيون.
الغريب أن الصليبيين القادمين من دول كبرى موحدة تقريبًا في أوروبا خضعوا للجغرافيا الشامية غير القادرة على صنع دولة موحَّدة، وهكذا تمزقوا في إمارات لم تستطع تشكيل دولة صليبية موحَّدة أبدًا، فشكَّلوا إمارة أورفه، وإمارة أنطاكية، وإمارة طرابلس، وإمارة بيت المقدس، وإمارة الكرك. أما المسلمون، فكان لهم إمارة حلب، وحمص، وحماة، ودمشق، أي سوريا الداخلية، فالساحل كله صار للصليبيين.
والغريب أن الاستعمار الغربي في القرن العشرين حين احتل الشام عمد إلى تمزيقه (عمدًا هذه المرة) حسب التمزق زمن الصليبيين، فأعطى أورفه إلى تركية ما بعد العثمانيين، وأقام في إمارة أنطاكية دولة ساحلية، وفي طرابلس دولة لبنان الكبير، وفي بيت المقدس دولة فلسطين، وفي إمارة الكرك دولة شرقي الأردن، وفي إمارة بصرى، وهي إمارة كانت تراوح بين الخضوع للصليبيين حينًا وللعرب حينًا، أقام في بصرى دولة جبلية، وفي دمشق دولة، وفي حلب دولة....
هل نرى كيف فهم الغرب لعنة الجغرافيا الظالمة..
المهم، وعَوْدًا إلى الصليبيين، جاء الأتابكة وهم من أعوان السلاجقة، فأسهموا في طرد وهزيمة الصليبيين إسهامات رائعة، ثم جاء الأيوبيون فطردوا الصليبيين على يد صلاح الدين في حطين، ثم جاء المماليك فقاموا بدور التصفية النهائية لهم من معظم فلسطين.
في هذه الأثناء، كانت الأناضول الرومية ـ البيزنطية تتعرض إلى غزو عنيف من الأتراك، غزو تدريجي، ولكن صارم، وكان من أشهر المعارك معركة مانزيكرت، أو ملاذكرد، التي هزم فيها السلطان السلجوقي ألب أرسلان البيزنطيين، وأسر الإمبراطور رومانوس، وامتد سلطانه من أفغانستان إلى البحر المتوسط. ولكن نظام وراثة الملك جعل المملكة تتمزق خلال عشرين سنة، وتمعن في تمزقها، حتى وصل الأمر إلى أن صار لكل مدينة حاكم.... وجاء العثمانيون بعد السلاجقة، فأكملوا احتلال الأناضول، ثم عبروا إلى أوربة ـ البلقان، ثم أوربة الوسطى، ثم استولوا على القسطنطينية. ومن الغريب أن المسلمين جميعًا في مصر والشام وإيران وشمال أفريقيا كانوا يسمونهم الروم، أفلم يحتلوا جغرافيًا الأناضول ـ دولة الروم، ثم امتدادات بيزنطة في أوروبة؟ لذلك حمَّلوهم اسم الروم....
ومن الغريب أيضًا أنهم ما إن حملوا اسم الروم، أي حكام الأناضول، حتى تحركت فيهم شهوة استعادة إمبراطورية بيزنطة الرومية. وهكذا بدأ هجومهم على الدولة المملوكية، في الشام، ثم مصر، ثم سقطت آليًا اليمن والجزيرة العربية، وعادت بيزنطة الرومية المسلمة هذه المرة إلى حكم المتوسط العربي، كما كان الأمر قبل تسعة قرون، أي ما قبل وصول الإسلام إلى المنطقة.
هذه الإمبراطورية الرومية ـ المسلمة ـ العثمانية وجدت نفسها وبحكم الجغرافيا وحدها تصطدم ثانية بإيران، ولنذكر الصراع التاريخي ما قبل الإسلام بين إيران وطوران، ولكن في آسيا الوسطى. ها هو ينتقل الآن إلى الأناضول الرومية، وفارس.... وكان على العراق هذه المرة أن يدفع الثمن غاليًا جدًا، فالعراق المسكين الذي تهدَّم منذ هولاكو، ثم منذ إقامة دولة الجلايريين التترية فيه، ثم في حرب التتار مع التتار، ثم التتار مع المماليك، ثم المماليك مع العثمانيين، دفع العراق الثمن في دمار الحياة الحضرية فيه، وفي الإقليم الذي سيسمى بالجزيرة السورية دمارًا تامًا، واختفاء المدن إلا قُرَيَّات تشير إشارة بعيدة إلى ذلك الماضي الحضري الجميل.
أما في كتاب (مذكرات البديري الحلاق)، فقارئ ابن صصري سيبكي مع المؤلف على المدينة التي تعاني من الحرب الأهلية بين المنطاشية والبرقوقية، وهما بقايا المماليك الأتراك، ضد المماليك الشراكسة الصاعدين، ويدفع الثمن غالبًا العوام، فقرًا، وجوعًا، وقحطًا، وطاعونًا، وقتلًا مجانيًا، بالتسمير والتوسيط، و.... قارئ البديري سيرى المدينة وهي تدفع الثمن الغالي للحرب الطويلة بين الانكشارية و.... القبوقولية، وسيدفع هذا الثمن الفقراء والعوام فقرًا، وجوعًا، وقحطًا، وطاعونًا، وقتلًا بالخنق وهو كثير، أو بالخازوق. ولكن ابن صصري، والبديري، لا ينسيان أن يدعوا للسلطان بالنصر على أعدائه طول الوقت، و.... يدعوا.... الله أن يرخص الأسعار للمسلمين. وكلا المؤرخين، وهما رجلان شعبيان غير مثقفين، يعدِّدان لنا طيلة الوقت وجعهما الأكبر وهو الأسعار، بالخبز، والقمح لمن يخبز لنفسه، واللحم، والسمن، والزيت، بل الكزبرة والخبيزة.
أي عالم هذا الذي عاشه هؤلاء الناس، وما الغسيل الذي تمَّ على أدمغتهم، حتى لم يفكروا أبدًا في وجوب إقامة العدل، ووجوب إقامة دولة لهم لا تخضع للسلطان البعيد في إستانبول، أو القاهرة المملوكية، والمماليك كانوا يتعاملون مع الشام دائمًا على أنها أملاك، مخافر أمامية يتخلون عنها عند الهزيمة، أو التهديد الأول من الغازي، وغالبًا ما يكون التتري، حتى إذا استسلمت المدن، وقتل رجالها، واستبيحت نساؤها، ونهبت ثرواتها.... عادوا لجمع الخراج..
ولنذكر أن دمشق في العهد البيزنطي، وبعد طرد الروم للفرس من الشام، جاء الحاكم البيزنطي ليطالب بالخراج، وليعلن المسؤول المالي عن المدينة بأنه قد أدَّاها للفرس الحكام السابقين والمنتصرين على الروم، ولكن الرومي يرفض، ويصرُّ على استيفاء الخراج كاملًا.... أكان هذا ما يفعله المماليك بعد كل انسحاب تتري....
ولنذكر أن أهالي حلب، بعد هزيمة قانصوه الغوري أمام العثماني سليم، وهروب المهزومين المماليك إلى حلب، لنذكر أنَّ أهالي حلب الذين كانوا قد عانَوا الأمرَّين من المماليك خلال العامين السابقين لمعركة مرج دابق، حين سكنوا بيوت الحلبيين، وأكلوا أرزاقهم، وأزعجوهم في حريمهم وأطفالهم.... هؤلاء الحلبيون طردوا المماليك عن أسوار حلب، ورحَّبوا بالعثمانيين، فلعل من لا نعرف ظلمه بعد يكون أكثر عدلًا ممن عرفناه ولم نعرف إلا ظلمه.. أي المماليك.
في كتاب البديري، بالإضافة إلى الحروب غير المعقولة ما بين محاولي الملك الشاميين، آل العظم، آل المعني، آل الشهابي، ضاهر العمر الزيداني... إلخ، وهزائمهم أمام البطش الأناضولي، سنلاحظ كثرة الحديث عن العاهرات. ونحن نعرف أنَّ مجتمعًا محافظًا كالمجتمع الشامي المسلم حين يغضي عن وجود هذا الكم الهائل من العاهرات لا يغضي إلا لمعرفته بأنَّ الغلاء الفاحش، وقتل رجال كثيرين، لا بد أن يفضي إلى العمل في المهنة التي لا تحتاج إلى مهارة، ليس هذا فحسب، بل هؤلاء العاهرات، كما يصفهن البديري، تزايدن حتى كن ينمن في الدكاكين، وأمام المقاهي، وعلى الطرقات.... أعوذ بالله.... هل يمكن تخيل سبب لتزايد هؤلاء العاهرات أكثر من نومهن في الطرقات، وعلى أبواب الدكاكين، وفي المقاهي، وهل هنالك سبب لمثل هذه الكارثة أكبر من الإفقار الهائل، وانعدام الرجال في حروب لا يعرفون لها سببًا، وفي شجارات بين الانكشارية المسيطرين على كثير من المهن، وبين القبوقولية، أو الحرس السلطاني، وهي فرق خاصة كانت تصطدم دائمًا مع الانكشاريين الذين صاروا بلديين، أو محليين، وها هم يصطدمون، بالمدفعية، وبالطبنجات، وبالحرائق، وبالتخريب.
في كتاب للدكتورة ماري سركو، تتحدث فيه عن دمشق أيام السلطان عبد الحميد، تتحدث الباحثة عن تسلط المرابين على الضعفاء من الفلاحين، وصغار الملاك، وصغار الحرفيين، واستعانة هؤلاء المرابين، وكثير منهم من اليهود بالقناصل، وبالحماية المأخوذة من المعاهدات بين الحكومات الأجنبية، وإستانبول العجوز، وبالقوانين العثمانية التفضيلية للأجنبي على المواطن.
وحين تقرأ كل هذا لن تدهش لدولة تتغاضى عن الدعارة، وعن الربا، فتتساءل: فما هي هذه الدولة، إذًا، فتكتشف بهدوء أنها الإمبراطورية الرومية التي غيَّرت لغتها، وزيَّها، وشعاراتها، ولكنها الإمبراطورية. وحين تذكر أنَّ شيخ الإسلام في الدولة العثمانية أيام السلطان سليم، والمسمَّى بزنبيلي علي أفندي، قد مانع في إسلام الروم سكان البلاد الأصليين.... ومن أسباب هذا الرفض، أو الذهنية المشؤومة في رفض إسلام الروم (حسب محمد أديب تقي الدين الحصني صاحب كتاب "غاية المرام في منتخبات تواريخ دمشق الشام") الرأي الأخرق القائل بلزوم الإبقاء على صنف من الرعايا يؤدون الخراج للدولة....
وعندئذ لا بد أن نصل إلى القناعة في أن دولة الروم العثمانيين كانت إمبراطورية، إمبراطورية ورثت بيزنطة في تفضيل استمرار الدولة على كل شيء (والحاكم الجائر خير من الفتنة)، وهكذا فضلت استمرارية الإمبراطورية حتى على قتل إخوة السلطان، وما أكثر من قتل منهم تنفيذًا لفتاوى كان يصدرها المفتون الروم المسلمون الحريصون على استمرارية الدولة، وحتى على حج السلطان، ولم يحج سلطان عثماني واحد حسب علمي، ففي حجه مفارقة لمركز السلطنة، مما يمكن الخارجين عليه من زلزلة الدولة.
و.. ربما كان هذا سببًا في قدرة هذه الإمبراطورية على الصمود كأطول دولة عمرًا في تاريخ الإسلام والمنطقة، فشعارها كان دائمًا: الدولة.. قبل الناس.. وقبل كل شيء.