لطالما كان يتردّد في خلدي عنوان رواية ماركيز الشهيرة "لا أحد يراسل الكولونيل" وأتذكّر ذلك الكولونيل النزيه كم كابد وهو ينتظر رسالة تنبئه عن مستحقاته التقاعدية، فيتفاعل الأمر في نفسي أكثر وأسرح في فضاءات حزينة، خاصة عندما أكتشف كم من السنوات مضت ولم أستلم رسالة بريدية في بلدي سورية، وعندما كتبت مرّة على صفحتي في فيسبوك، تحت ضغط مشاعر موحشة في لحظة حنين للماضي: لا أحد يراسل الكونتيسّة. انهالت عليّ الرسائل بعدها من أصدقاء الصفحة إلى صندوق بريدي، أغلبها كان يحاول دعمي باعتباري أعاني من الوحشة والوحدة، وفي الواقع كنت أشير إلى الرسائل البريدية، فأنا أنتمي إلى الجيل الذي شكّلت الرسالة ركنًا أساسيًّا من حياته، وإذا كانت الرسالة تحتاج إلى عنوان فإن العنوان لم يكن مشكلة بالرغم من انعدام التنظيم الإداري والإجرائي لحياة الناس في مدننا. وزاد هذا الوضع تعقيدًا وضبابية مع الزمن لكن الرسائل بقيت تصل إلى العنوان المقصود، إنما من دون الحد الأدنى من المسؤولية والمحاسبة في حال لم يستلم صاحب العلاقة رسالته، فغالبًا ما كانت الرسائل تترك في عهدة سمّان الحي أو المكوجي أو الحلاق أو أي محل من المهن الاجتماعية التي كانت شائعة، ويبقى أمر توصيلها إلى صاحبها أو أمانة الحرص عليها من دون فتحها والاطلاع على أسرارها أمرًا يتعلق باحترام القيم والأخلاق لدى الوسيط أو من أودعت عنده الرسالة. وما يجري على الرسائل كان يجري أيضًا على البرقيات، بالطريقة الالتفافية على العنوان. قد يشعر المرء أحيانًا بالممنونية لانتهاء خدمة من هذا النوع بعد أن حلّت محلّها المراسلات عبر الإنترنت، وصارت البرقيات خبرًا من الماضي في عهدة التاريخ والحنين إلى عمر مضى، ففي الساعة 23 و59 دقيقة من 30 مارس/ آذار 2018، قبل دقيقة من انتهاء ذلك اليوم، بعث كريستوف أندي ببرقية وصفها بأنها الأخيرة في تاريخ خدمة البرق "تلغراف". وجاء في البرقية "تم إرسال آخر برقية تلغراف- نقطة- هذه الخدمة التي بدأت عام 1879 بفرنسا كانت تدار من موقع باري سنت ميشل - نقطة- وموقع باري آلري -نقطة- وبهذا تطوى صفحة تاريخ الاتصالات التقليدية لصالح التقنيات الجديدة - نقطة- حظًّا سعيدًا وشكرًا للزملاء… - نقطة-". هذه البرقية التاريخية إعلان رسمي وصريح عن موت مرحلة من مراحل تطور البشرية بعد موتها السريري قبلها، وبعد أن دخل العالم عصر الثورة الرقمية، فماذا عنّا نحن شعوب العالم الذي لم يعد له ترتيب، ونحن الشعب السوري تحديدًا، الذي يشهد أقسى وأشرس حرب في التاريخ الحديث؟
في فترة السبعينيات كنت أتراسل مع صديقة الطفولة وبداية المراهقة بعد أن انتقلتُ إلى اللاذقية مع عائلتي وبقيت هي في مدينتها دمشق، ربطتني معها علاقة جميلة كبرت ونضجت مع الزمن إذ ما زالت مستمرة إلى اليوم، كانت لدينا ميول أدبية، ترسل إحدانا إلى الأخرى آخر ما كتبته من خواطر ونصوص أدبية وقصائد كانت غارقة في الرومانسية، وتحكي لها آخر رواية قرأتها، بعد أن كان أول نقاش أدبي بيننا قد حصل حول رواية "بائعة الخبز" ونحن في نهاية المرحلة الابتدائية. كانت رسائلها تصلني إلى عنوان بيت ذويّ، اللاذقية، الحي الفلاني، مقابل الفندق الفلاني، بجانب السمان فلان، الطابق الثالث، منزل السيد جميل حسن، وهو اسم والدي، ومنه إلى ابنته سوسن حسن. لم أكن أتعجّب من هذه التفاصيل بالرغم من أنها طويلة، وكانت في بعض العناوين تطول أكثر، فكان بالنسبة لي وغيري هذه هي الطريقة الضرورية لإرسال الرسائل.
بعدها، في أوائل الثمانينيات صرت أستلم رسائل من خارج سورية، وكانت تأتيني بدافع الحرص على شكل رسائل مسجّلة أحيانًا، يأتيني الإشعار إلى البيت، ثم بعدها إلى الجامعة حيث عنواني الجديد، بعد أن صرت في الجامعة، فأرى الإشعار في لوحة الإعلانات في كلية الطب، لوحة إعلانات مكشوفة يمكن للورقة أن تتعرض للضياع إما بسبب تيار هوائي أو بتطاول أحد ما عليها وإخفائها، وبالتالي لا أستلم الرسالة، وقد حدث مرة أن فقدت رسالة مسجّلة لي، ولم يكن من الصعب استلام أي رسالة نيابة عن صاحبها بشكل احتيالي أو قانوني، فتصبح الأسرار بين الأيدي خاصة بالنسبة إلى رسائل العشاق والمحبين، وتبدأ الحكايات تتلى والروايات تؤلف، كما في الرسالة إلى ابنة محجوب من أسعد بن شهدان في الأغنية التي يؤديها مروان محفوظ وهدى حداد، إذ يقرأ كل واحد بكيفه وتضيع الحقيقة.
المواطن الذي يشعر بالضياع لأن ليس لديه عنوان يخصّه، يشعر في الوقت نفسه بالعراء وأنه مكشوف على عيون الرقباء والمتربّصين بحرّيته وفرديّته وذاتيّته، فيصير ممزّقًا بين الضياع والخوف وانعدام الأمن والحماية |
لا أعلم بالضبط متى اختفت صناديق البريد التي كانت موزعة في شوارع المدينة، عندما كنّا نلصق الطابع على الرسالة ونلقيها في أي صندوق، صرنا بعدها نضطر إلى الذهاب إلى مكاتب البريد من أجل إرسال رسائلنا. أمّا لمن يريد أن يضمن وصول رسائله فكان عليه أن يشترك بصندوق بريد في مقر مديرية البريد والمراكز التابعة لها، ويدفع رسومًا سنوية لقاء خدمة إلقاء رسائله في الصندوق المعدني الصغير بين عشرات بل مئات من الصناديق المشابهة المغلقة من الخارج بقفل ومفتاح مع صاحب الاشتراك ومفتوحة من الداخل على مكاتب موظفي البريد، وكان على المشترك أن يتكبّد عناء الوصول إلى مقر البريد من أجل الكشف اليومي أو كل بضعة أيام على بريده.
لم تنتهَ الرسائل الورقية بالمطلق في سورية، بل ما زال هناك العديد منها، لكنها ترسل إلى العناوين بالطريقة الالتفافية ذاتها، المدينة ثم الحي والشارع ثم ذكر معلم معروف قريب من مكان الشخص المستهدف، غالبًا ما يكون بياعًا أو مطعمًا شعبيًّا أو بقالة أو غيرها من المحلّات التي يتعامل معها الأشخاص أكثر من غيرها، أمّا إذا كان المعلم على علاقة بمنشأة ثقافية أو عيادة طبيب أو ما يشبه هذا فإن الوصول إليه يتطلب جهدًا أكبر، هذا كان قبل الحرب الغاشمة التي صار عمرها عشر سنوات، فكيف بعدما دُمّرت الكثير من المدن والأرياف والأحياء وهجّرت الحرب ساكنيها؟ إذا دُمّر الفرن، أو محل المكوجي أو البقّال كيف ستصل الرسائل؟ إذا لم يبقَ بيت جيران كيف سيصنع السوري عنوانه؟
قد تبدو هذه التفاصيل والحديث عنها أمرًا تافهًا، أو نوعًا من الثرثرة المجانيّة، لكنه في الواقع أكثر أهميّة وحساسية، فالعنوان أمر في غاية الأهمية بالنسبة إلى الدول المستقرّة التي تضع نصب عينيها المواطن وخدمته كهدف للتنمية وإدارة الحياة، ففي مدن تلك الدول اهتمام بكل تفاصيل هندسة المدن وإنشاءاتها وبنيتها التحتية وتنظيمها، وفي مداخل الأبنية المغلقة دائمًا ببوّابة تفتح من قبل ساكنيها، هناك صناديق بريدية لكل شقة ولكل بيت، وفتح صندوق البريد أمر في غاية الأهميّة بالنسبة للشخص، وإذا صادف أن سافر أو ابتعد عن مكان سكنه فمن المتعارف عليه كتقليد اجتماعي بين السكان أن يطلب من أحد جيرانه فتح صندوق بريده وإخباره في حال كان هناك أمر مستعجل، فالمراسلات البريدية التقليدية أو الورقية ما زالت تشكل ركنًا أساسيًّا من الحياة في هذه البلدان، ومشهد ساعي/ة البريد مألوف بلباسه/ا الخاص ودرّاجته/ا الملحق بها عربة صغيرة فيها حمولة الرسائل، وهذا بالطبع يحيلنا إلى العنوان وأهميّته، وسهولة الوصول إليه. لا يأتي هذا التنظيم عفو الخاطر أو من دون تخطيط مسبق وتنفيذ دقيق، لأن العنوان هو مفتاح الوصول إلى الهدف مهما كان نوعه وأهميته وموقعه، وهو يسهّل، ليس فقط على الجهات الحكومية والإدارية عملها، بل على الأشخاص والتعامل فيما بينهم والعلاقات الاجتماعية وعلاقات السوق، وهو، لأهميّته، جزء من قاعدة بيانات هامة لبرنامج الخرائط وغيره من البرامج التي تشكل قاعدة أساسية من قواعد التنظيم في العصر الحديث.
العنوان أمر شبه مقدّس، ليس بالمفهوم الإيماني أو الديني أو الغيبي او إلى ما هنالك، لكنه يمتلك من القيمة والأهمية ما يجعله صنوَ الهويّة الشخصية أو جزءًا مهمًّا منها، ولا يمكن للمواطن في تلك الدول أن يكون بلا عنوان، ما عدا بعض المشردين الذي تحاول الحكومات متابعتهم بطرق أخرى، وللعنوان مفردات ورموز تشكّله، في المدينة نفسها. هناك الحي والشارع والمبنى ورقم البريد، وهذا يفرض إجراءات تنظيمية خاصة من أجل الوصول إلى العنوان، ترى الشاخصات على الزوايا تحمل أسماء الشوارع المتقاطعة بأسهم دالّة، والأبنية السكنية والمحلات أو العقارات، جميعها تحمل رقمًا في مكان واضح، بهذا الترتيب والتنظيم لا يمكن لأحد أن يضيع عن العنوان، وفي الوقت نفسه لا يمكن لسيارة أجرة أو سيارة عادية أن تتوه عن العنوان الذاهبة إليه عن طريق تطبيق برنامج المسح الجغرافي الذي يرسم الطريق أمام السائق ويعطيه اقتراح الطريق الأقصر، ويغيّر أو يبدّل الاتجاه ليقترح طرقًا أخرى من أجل الوصول فيما لو كانت هناك أعمال صيانة أو أي طارئ أدّى إلى قطع الطريق، البرنامج الممنوع في بلداننا، ليس فقط لأن البنية التحتية غير مؤهّلة، لكن لكثرة المواقع الممنوع الاقتراب منها باعتبارها عسكرية أو أمنيّة أو تتطلب حدًّا عاليًا من السريّة والخصوصيّة.
العنوان أمر شبه مقدّس، ليس بالمفهوم الإيماني أو الديني أو الغيبي او إلى ما هنالك، لكنه يمتلك من القيمة والأهمية ما يجعله صنوَ الهويّة الشخصية أو جزءًا مهمًّا منها، ولا يمكن للمواطن في تلك الدول أن يكون بلا عنوان |
قد يبدو الانشغال بهذه التفاصيل التي تظهر بسيطة وتجاوزها العالم المتحضر الساعي إلى جعل الحياة ميسّرة أمام الأفراد، غير مبرّر، لكنّه بالنسبة إلى فرد من الدول المتخلفة أو تلك التي تهمل فيها الأنظمة شعوبها وتحكمهم بقبضة شديدة ولا تسمح إلّا بالشكل الذي ترسمه لهم من الحياة، يبدو هذا الأمر ضربًا من الخيال بالرغم من واقعيته، وبالرغم من أن هناك بعض الإجراءات تقوم بها الحكومة، كما في سورية، توحي بأنها بداية على الطريق الصحيح فيستبشر المواطن خيرًا وينتظر حالمًا بالوصول إلى مستوى مريح مهما بدا ضحلًا لكنه في الطريق الصحيح، إنّما هذه الإجراءات لا تتجاوز الخطوة الأولى، فهناك أرقام للأبنية، لكن معظمها مخلوع من مكانه أو ضائع، وهناك الكثير من البيوت بلا أرقام، كما أن أسماء الشوارع تكاد لا تلفت النظر فيما لو وجدت لأنها ملصقة على جدار جانبي، ولا توجد خدمات للأبنية وصناديق بريد لساكنيها، وليس الفرد مضطرًّا لتسجيل عنوانه في البلدية مثلًا كما في أوروبا، ولا أن يخبرها بعنوانه الجديد فيما لو انتقل، لكن في النهاية يصل الناس إلى العناوين التي يريدونها بمزيد من الجهد والأسئلة وإثارة الفضول، أمّا الدولة، وخاصة الأجهزة الأمنية، فتستطيع أن تصل إلى المواطن بلمح البصر، وتنشله من سابع طبقة تحت الأرض، وتداهم بيته وغرفة نومه في أي وقت من دون الحاجة إلى دليل يوصلها إليه، المواطن الذي يشعر بالضياع لأن ليس لديه عنوان يخصّه، يشعر في الوقت نفسه بالعراء وأنه مكشوف على عيون الرقباء والمتربّصين بحرّيته وفرديّته وذاتيّته، فيصير ممزّقًا بين الضياع والخوف وانعدام الأمن والحماية، ويعرف أنه مراقب ولا يحميه غياب العنوان مهما حاول التستر على مكانه، وبالتالي الغربة عن نفسه وعن محيطه وعن وطنه، بل عن المعاني جميعها.