فإذا كانت عملية التحديث التي طاولت بعض المدن العربية، القاهرة، دمشق، بيروت، على سبيل المثال، وخاصة القاهرة التي كانت سباقة بسبب توفر الظرف السياسي الملائم، والمشروع الحداثي الذي شرع به محمد علي باشا، قد واكبه أو نجم منه نهوض ثقافي وتغير بأدوات إنتاج المعرفة وآليات الفكر والتعبير، ما أدى إلى التأسيس لفن الرواية في الأدب العربي وتطوره، فماذا عن حال الرواية في المرحلة الراهنة، حيث تمور المنطقة بالحروب والدمار والتهجير والنزوح والانهيارات المجتمعية، وتدمير المدن، وخاصة بيروت اليوم؟
بيروت المدينة المتحولة
هل تبدل المدينة أفكارها وثقافتها بتبدل أساليب حياتها المعنوية والمادية؟ هذه هي القاعدة التي استنبطت من خلال التحول الذي طرأ على هذه المدن انطلاقًا من منتصف القرن التاسع عشر، هذا التبدل نحا باتجاه التحديث والحداثة والازدهار المعرفي والثقافي، وبروز الوعي المديني الذي تجلى في الرواية. فصارت الرواية مرآة له، وصارت العلاقة بين الكاتب والمدينة علاقة يمكن وصفها بالعضوية، فهو أخذ يكتشف المدينة في عملية الكتابة ذاتها، مثلما كانت المدينة بتحولاتها تتسلّل إلى وعيه، وربما احتلت مكانة المرجعية في كتاباته، خاصة مدينة الكاتب، حتى لو عاش بعيدًا منها، فهي المكان الأول بمفهومه الواسع، هي الفضاء الاجتماعي وما يستبطن من التراكم التاريخي والثقافي، وهي الفضاء الذي تنبني فيه شخصية الكاتب.
لكنها ليست أمكنة فحسب، إنها جغرافيا وتاريخ في الوقت نفسه، إنها فضاء المشاعر بكل تناقضاتها، والمفاهيم والقيم والآمال والإخفاقات والنجاحات، هي جامع المتناقضات، فكيف بمدينة مثل بيروت أثبتت في الخمسين سنة الأخيرة، على الأقل، أي منذ اندلاع الحرب الأهلية، وربما منذ ما بعد حرب 1967، إلى اليوم، أنها مدينة الحياة والموت بالتوازي، فهل هناك تحولات أعظم وأكثر تعقيدًا؟ لم تكف بيروت عن الضجيج الذي يلهم الفنانين والكتاب والرسامين والموسيقيين في كل مراحلها الزمنية وأطوارها المتبدلة.
بيروت والرواية
لعلّ كثيرًا من المدن العربية اشتبكت بعلاقات تأثّر وتأثير مع الرواية، كالقاهرة ودمشق وبيروت وطنجة وعمان والجزائر وقسنطينة، وغيرها، إنما تبقى بيروت صاحبة النصيب الأكبر، من حيث انشغال الروائيين بها، وحضورها في الروايات، بل حتى في عناوينها، والدور الكبير الذي لعبته في مجال احتضان الرواية العربية وإطلاقها وترويجها، وما قدمت من إنتاج أدبي، ليس في حقل الرواية فحسب، بل في مجمل المنتج الأدبي من شعر وقصة ومسرح ونقد ودراسات وغيرها، إضافة إلى المجلات والدوريات والصحف بملاحقها أو صفحاتها الثقافية، من دون أن ننسى معرض بيروت للكتاب والمجال الواسع الذي كان يفسحه أمام دور النشر العربية، والفعاليات الثقافية الملحقة به.
بيروت كانت، وحتى وقت قريب، ملجأ للأدباء والمبدعين الهاربين من قمع السلاطين بكل أشكالهم في بلدانهم، حيث تلاحق الكلمة والأفكار وتخنق حريات التعبير، وكانت منبرًا لقول ما لا يمكن قوله، بما تقدم من فضاءات الحرية الإبداعية. بيروت لا تُختصر بفضائها الجغرافي وشوارعها وأبنيتها ومظاهر عمرانها، بل هي أوسع وأرحب، بيروت هي فضاؤها الذي يمنحها تلك الصفة الكوزموبوليتانية لناحية المعرفة والإبداع والفكر، على الرغم من تناقضاتها الأخرى ومن تعدديتها التي أدت دورين متناقضين أيضًا، دورًا أثرى ثقافتها، ودورًا أدى إلى خرابها بحروب أهلية مدمرة.
كما قال عنها الأديب التونسي الطاهر لبيب في روايته "في انتظار خبر إنَّ" (منتدى المعارف، 2023): "المدينة المعطاءة التي تناديك إلى ما تملك وإلى ما لم تعد تملك"، ورأى في سطوة صورة بيروت على نفوس المبدعين، أنها تنبع من "تغزل الشعراء بها، فقد أنثوها، لهم شغف بها وعتب عليها، ولهم غضب منها وخوف عليها". ويقول على لسان إحدى شخصيات الرواية: "بيروت جُعلت للحب والكره، لا تعرف اعتدالًا، حبها شغف وفي كرهها طعم الموت، لن تحس بأنك فيها إلا إذا أحببت أو كرهت بإفراط... لم أرَ ما رأيت في بيروت من قدرة على الإفراط في كل شيء، وعلى تحويل المفارقات إلى جنون".
الخصوصية التي تتمتع بها بيروت، والتي ساهمت كثيرًا في منحها هذه الأهمية الروائية، تنجم من تعدد مجتمعها ما يمنحها تعددية ثقافية، وهذا الوضع الاجتماعي المتعدد دينيًا وثقافيًا وسياسيًا، والمعقد والمتحول باستمرار بسبب مورانها بالحروب والفوضى، فسح آمادًا واسعة للتخييل الروائي، فكانت رواية الحرب، ورواية الحب، ورواية التاريخ، ورواية الهويات، ورواية المقاومة، والبطولة، ورواية الأيديولوجيات، ورواية القضايا الوجودية، ورواية التشظي، وروايات لا يمكن عدّها، إنما في النهاية كانت بمجملها ميدان التجريب والحداثة الروائية.
كانت علاقة بيروت بالروائيين علاقة متبادلة، يثري كل منهما الآخر، فهي بقدر ما منحتهم من ضرورات ومستلزمات الكتابة والنشر، كانت تتسلل إلى عمق نفوسهم وتزرع بذور التخييل والأسئلة الروائية لديهم، وصارت بيروت بهذا القدر من الأهمية لدى الأدباء، فنالها النصيب الأكبر من الحضور الروائي، عربيًا بشكل خاص، كما لدى بعض الأدباء الأجانب.
كل هذا وبيروت دائمة التحوّل، بيروت التي نهضت من حرب أهلية دمرت عمرانها وبناها التحتية، وشظّت مجتمعها، وخلقت واقعًا جديدًا لديها، استمرت في جاذبيتها وإغواء المبدعين بها، كان على الرواية أن تتكيف مع إيقاع المدينة في كل مرحلة، حتى تتمكن من التعبير عنها في شظاياها وتحولاتها.
مستقبل الرواية، مستقبل بيروت
حتى سنوات قليلة قبل اليوم، كانت بيروت لا تزال تحتل موقعها في ميدان الأدب والإبداع، وفق المعايير والأدوات التي تحدثنا عنها سابقًا، لكن هناك أزمة تفجرت بعد سنوات من التغير السياسي في المنطقة، بدأت بالأزمة الاقتصادية أو المالية التي دخلت فيها البلاد، مرورًا بأزمة كورونا ثم تفجير مرفئها، وصولًا إلى الحرب الحالية التي تنذر بتفاقم أزماتها مجتمعة، ومصير مفتوح على احتمالات لا يمكن تحديدها، إنما يبقى القلق والتنبؤ سيد الموقف، خاصة فيما يتعلق باليوم التالي لوقف الحرب، والتحولات التي تكون قد طاولت بيروت كلها، ليس لناحية الدمار فحسب، إنما لناحية التغير الديمغرافي واضطراب الهوية الثقافية التي كانت في ما مضى تمتلك القدرة على الوقوف في وجه التناقضات وتصادمها، بالإضافة إلى الحال التي ستنتهي إليها الحرب إذا ما وقفنا عند التجارب التاريخية وما آلت إليه النزاعات في كثير من البلدان. كم سيكون صعبًا على من عاشوا تجربة الحرب، وكانوا أمام الموت والدمار لحظة بلحظة أن يكتبوا، وكيف سيتعاملون مع العنف والمعاناة من تجارب الحرب المتطرفة في الأدب؟ ما هو الوعي المديني الذي سينشأ على ركام ما يتدمر على كافة الصعد؟ ربما الوضع يشبه السير في الاتجاه المعاكس، تقفي أثر الفترة الزاهية في المدينة خاصة بالنسبة للآداب ومجمل المنتج الثقافي على العموم، وللرواية على الخصوص، هذا السير إلى الخلف لا يعني، بالنسبة إلى التجربة البيروتية، نكوصًا نحو الماضي بسلبياته، بل على الأرجح هو عودة لتشريح الوعي، لتفكيك التاريخ القريب في طريق الوصول إلى ما ينعش، ليس المدينة بحدّ ذاتها على الرغم من أهميته، إنما الفضاء الموّار بأسباب الإبداع والنسغ الضروري لنهوضه من جديد. ستكون هناك رواية الأنقاض بكل ما تحمل الكلمة من معنى، ليست أنقاض العمران والبنى التحتية وتدمير الأماكن التي شكلت هوية بيروت بالنسبة للوافد والمقيم فحسب، بل أنقاض مرحلة صعبة حاصرت بيروت التي لا تعرف العيش من دون حرية، فصادرت شغفها وحولت ضجيجها المبدع صخبًا يقتل بذور الإبداع. هذا دور الرواية الحديثة وأحد أركانها الأساس، فالرواية لا تنشغل بقضايا الحاضر فحسب، إنما بقضايا الماضي فتستدعيه إلى مربّع النقد، وهي لا تكف عن التقاط الظواهر وطرح الأسئلة. وبيروت متجذرة أيضًا في ذاكرة الروائيين الذين شغفوا بها، أخمّن أنها ستبقى حاضرة في وعي الرواية والروائيين خاصة في تحولاتها الحالية الكارثية، وفي قدرها الذي لم تختره بنفسها، بل قدرها الذي يشبه قدر امرأة عشقها الجميع، لكنها لم تعشق أحدًا مع أنها فتحت لهم جميعًا حضنها.