قبل أسابيع رحل والدي عن هذا العالم، لم يكن والدي أول الأحبة في عالم يؤول كل شيء فيه إلى فناء. في غمرة حزني وإحساسي بالشوق المتزايد كلما أوغلتْ لحظة الرحيل بعيدًا في الزمن، وجدّْتُني أسترجع تلك اللحظات الضائعة التي كان بإمكاني أنا وهو أن نقضيها معًا؛ أتناول وإياه طعامه المفضل؛ زيارة الأماكن التي تملأ رئتيه بهواء الرضا والسرور؛ نقاشات الصباح وأحاديث مساء؛ ونبش لذاكرته لاستنطاقها بما لم تبح به بعد، وغيرها من لحظات مضيّعة. في حينه، لم تبدُ تلك اللحظات مهمة كما هي اليوم، ولم تكن على قائمة الأمور المستعجلة، طالما أني كنت أستبعد لا شعوريًا على الأقلّ فكرة رحيل والدي.
مثل غيري، يحزنني موت الآخرين خصوصًا الأحبة المقربين، وليست لديّ الشجاعة الكافية للتفكير في موتهم، تلك الشجاعة التي نفتقدها أيضًا للتفكير في موتنا الشخصي، فجميعنا قد نعجز عن مواجهة تلك الصدمة الوجودية الناتجة عن إدراكنا أننا سنتوقف يومًا عن الوجود ليستمر العالم دوننا، فندفع أفكار الموت بعيدًا خلف انغماسنا في معمعة الحياة وكثافة حضورها، والاكتفاء بالقول" "لا أزال حيًا". لعلنا هنا أمام تنافر معرفي يتمثّل في أنك تعلم أن جميع البشر يموتون، وأنك بشر، ومع ذلك لا تصدّق أنك ستموت. ولكن، كم مرة دفعنا هذا الاطمئنان المبني على عدم التصديق إلى التسويف؟ قد نبكي تلك الفرص الضائعة التي لم نعشها مع أحبائنا، ولكن ماذا عن فرصنا الشخصية؟
علّمني والدي في طفولتي من الحكمة أن "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا" قبل أن أكتشف لاحقًا، وأتوقف عنده في هذه السطور، أن للحكمة شطرًا آخر وهي أن "اعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا"[1]. ربما أراد والدي أن يعفيني من عبء تناقض لا يستحقه طفل لديه، كما هو مفترض، كل الوقت والحق ليعيش عمرًا كاملًا دون نقصان، وأن يعرف كيف يبدأ قبل أن يعرف كيف ينتهي. لكن هل يمكن فعلًا الجمع بين نقيضين؛ الوجود والعدم؛ الحياة والموت؟ وهل من فائدة أصلًا من تلك المحاولة؟ هل التفكّر في الموت هو دليل عجزنا كما ذهب سبينوزا أم هو تأمل للحياة الحقيقية كما ذهب أفلاطون؟ هل من فائدة للتصالح مع الموت؟
جدل الحياة والموت
يرفض الفيلسوف الفرنسي لويس لافيل الفصل بين تأمّل الحياة الذي دعا إليه سبينوزا، وبين التأمل في الموت الذي نصح به أفلاطون، التناقض في هذين الزوجين؛ الموت والحياة، برأي لافيل، هو ما يضفي المعنى على كليهما، فبمجرد أن ندفع بفكرة الموت بعيدًا تصبح الحياة مجرد عادة أو مجرد تسلية لا أكثر. وحده الموت يجعلنا أمام الحياة وجهًا لوجه، ويحذّر من أن الإصرار على أن نشيح بوجهنا عن الموت ظفرًا بأقصى ما نستطيع من حياة، فإننا بذلك نشيح بوجهنا عن الحياة أيضًا، ففي نسيان الموت نسيان للحياة.
إن لحظة ميلادنا تقترح علينا الوجود لكنها لا تهبنا إياه، يبقى ذلك وعدًا، تأتي لحظة الموت لتغلقه باكتمال. برأي لافيل أننا لا نكون حاضرين تمامًا مع ذواتنا إلا يوم وفاتنا، الذي معه، لا يمكن لنا أن نضيف شيئًا إلى ذاتنا المتشكّلة، فتأمل الموت، الذي يجبرنا على إدراك حدودنا، يجبرنا في الوقت ذاته على تخطّيها، إنه يكشف لنا عن كونية الكائن وتعاليه على وجودنا الفردي. وهو، بذلك، يفتح لنا المنفذ، ليس فقط نحو حياة مستقبلية، ذات طبيعة مؤقتة في جميع الأحوال، ولكن نحو حياة ما وراء طبيعية، تخترق وتغمر مجمل حياتنا الظاهرة، لا يجدر بنا إرجاؤها أو التحضير لها، ولكن، منذ اللحظة، ولوجها.
من الانهمام بالموت إلى الانهمام بالحياة
إدراك الموت، بوصفه أوضح الحقائق، كان ولا يزال قاسمًا إنسانيًا مشتركًا، وقد احتوى أدب القرون السابقة على مجموعة غنية ومتنوعة من المفردات والمفاهيم اللاهوتية، والفنية، والطبية، والعملية، والفلسفية، والاقتصادية، التي من خلالها فكّر الناس بالموت وكتبوا عنه. في العموم الغالب، ارتبطت فكرة الموت بحياة ما بعد الموت، مع كل ما تتضمّنه تلك الفكرة من وعد بالخلود، لكنها أيضًا كانت أداة للسيطرة السياسية، حين وظّفت السلطة "الآخرة" تبريرًا ميتافيزيقيًا لقوتها الأرضية، فكان يمكن حشد شعب بأكمله من أجل الموت في حرب باسم حماية الجماعة المؤمنة، تكون عقباها خلودًا في نعيم حقيقي أو باسم حماية العرش الذي قدّم نفسه وسيطًا يمتلك مفاتيح السماء. ولكن هذا الانهمام بالموت تراجع لاحقًا لصالح التركيز على الحياة، وبعد أن كانت الأنظمة الشمولية في القرون السابقة تستند إلى قدرة الملك على القتل، استندت لاحقًا إلى قدرته على إدارة الحياة.
لتفسير هذا الانقلاب، سأمضي مع ميشيل فوكو ومفهومه حول السلطة الحيوية [2]، إذ وفّرت تقنيات إطالة الحياة، والتحكّم بها، ممارسة السلطة الحيوية بطريقتين مختلفتين، في فترتين زمنيتين متتابعتين ومترابطتين، في الوقت نفسه. تمثّلت الأولى في ضوابط الجسد، والثانية في ضوابط السكان. فظهور تخصصات الجسد في منتصف القرن السابع عشر أدّت إلى التركيز على تكوين جسد فردي قوي ومفيد، فهم على أنه آلة، وأرادت مؤسسات مثل التعليم والجيش وعلم التشريح وغيرها، تشكيل الفرد، ودمجه في المجتمع، وتحويله عنصرًا مفيدًا، فالنظام التعليمي الذي كان ينقل سلسلة من المعرفة، كان مسؤولًا أيضًا عن سلسلة من العادات والمواقف الجسدية وكذلك فعلت مؤسسة الجيش.
بعد قرن بدأت محاولات السيطرة على السكان، وفي حين ركّزت ضوابط الجسد على الفرد، ركّزت ضوابط السكان على الأنواع، ودراسة الأجسام لدعم العمليات البيولوجية الجماعية، وبرزت مفاهيم تحديد النسل، والوفيات، ومستوى صحة السكان، ونحوها. ولم يعد الهدف من ممارسة القوة، الموت، بل الحياة وإدارتها، وساد تصور للوجود البشري بوصفه وجودًا بيولوجيًا.
مقهى الموت
بدت الثقافة الغربية الحديثة ثقافة تنكر الموت ولا تحب الحديث عنه أو التفكير فيه، لكن مع حلول القرن الحادي والعشرين، بدأت فكرة الموت توضع على طاولة النقاش، فيما بدا تمردًا على السلطة الحيوية [3]، من خلال مقاهي الموت (Cafés Mortels)[4]، التي انطلقت بداية في سويسرا عام 2004، مع أول مقهى نظّمه عالم الأنثروبولوجيا السويسري برنارد كريتاز، في نوشاتيل، بهدف كسر "السرية الاستبدادية" المحيطة بموضوع الموت؛ ليستوحيها مطّور الويب البريطاني، جون أندروود، ويكون له الفضل في نشر نموذجها عام 2011، حين بث أول اجتماع لمقهاه في منزله في لندن، طوّر بعدها موقع "Death Cafe" على الويب لينتشر النموذج في 66 دولة حول العالم.
لا تشير كلمة "مقهى" إلى المكان الفيزيائي (المقهى) الذي يخطر في البال أوّل مرّة، فيمكن عقد حلقة من 12 شخصًا (غالبًا) في منزل أحد أفراد المجموعة أو مقبرة أو قاعة مستأجرة، وكذلك في المطاعم والمقاهي أو أي مكان آخر مؤقت يتم الاتفاق عليه. بات الهدف الرسمي لمقاهي الموت هو مساعدة الناس على تحقيق أقصى استفادة من حياتهم المحدودة، عبر مناقشة أفكارهم، وأحلامهم، ومخاوفهم حول الموت. توفر المناقشات المفتوحة أيضًا وسيلة للتعبير عن الأفكار حول حياة المرء التي أثارها موت أحد أفراد الأسرة، وشجّعت المشاركين على التعبير عن رغباتهم الخاصة بعد وفاتهم، لمدة قد تمتد إلى ساعتين، ولعل الكعك والشاي الذي يتشاركه المجتمعون، لخلق بيئة داعمة، أهم ما يميز هذا الحدث.
وصف معلّقون تلك المقاهي بأنها محاولة لإحياء التقليد الوثني لعيد الجنازة، حيث يجدّد الأحياء روابطهم بعد تخلّيهم عما يثقل قلوبهم. مع تلك المقاهي، بدا الموت بوصفه آخر المحرّمات وقد خرج من الخزانة السرية للسياسة الحيوية. في عالمنا العربي والإسلامي لا يزال نقاش الموت مؤطّرًا بالتراث، والطقوس، وخطابات رجال الدين، ومؤسسات الدين والسياسة، وغابت أي طقوس مدنية للموت. هل يمكن لك أن تصمّم مثلًا جنازتك خارج هذه الأطر، كأن توصي بحرق جثتك مثلًا؟ حتى استثناءات نادرة لبعض المشاهير، بحكم كونهم كذلك، قد تُقابل بعاصفة من الاستنكار الممزوج بالسخرية؛ جنازة المطربة اللبنانية صباح مثلًا. حتى أمنياتنا بحسن الختام لا تتعدّى قبرًا وجنازة وصفح الآخرين عن أخطائنا بحقهم. وماذا عن الحسن الذي ينبغي تجسيده في لحظتنا الحاضرة؟
الموت في زمن كورونا
الموت سيء الصيت دائمًا، لكن وباء كورونا المستمر (وقبله جحيم حروبنا الأهلية في المشرق)، أحدثا تطورًا قاسيًا بشكل خاص؛ كانت زيارة الأحبة المحتضرين في المشافي أو في البيوت، متعذّرة، ولم نشاركهم في كثير من الأحيان اللحظات الأخيرة، واكتفينا بمكالمة هاتفية أو محادثة فيديو، ولم نشارك في مراسم العزاء والدفن. ناقشنا أفكارًا من نوع: مناعة القطيع، والقتل الرحيم، والموت الجيد، وبدا أننا مهتمون برحيل أحبتنا، ولم نمتلك الشجاعة الكافية للتفكر في موتنا الشخصي. لا أبالغ حين أقول، إنه في كثير من الأحيان تعاملنا مع كورونا حاصد الأرواح على أنه شائعة، وأبعدناه عن غرف بيوتنا وزوايا تفكيرنا قدر الإمكان، تاركين التفاصيل للمشافي وصالات العزاء. كان علينا لتوفير الطمأنينة أن نلوذ بالإنكار (شعوري) والنكران (لا شعوري) فنعتبر الفيروس جزءًا من نظرية المؤامرة، أو أن مخاطره مبالغ فيها لصالح شركات اللقاح، أو أن سلالتنا وجيناتنا عصية على الاختراق مقارنة بغيرنا من السلالات، أو أن نظامنا الغذائي... إلى آخره إلى آخره. فجأة تضاءل سطوع حقيقة الموت في زمن كورونا.
رهاب الموت
غالبًا ما يؤخذ إحجامنا عن الحديث عن الموت كدليل على أننا خائفون، وبالتالي نقمع الأفكار المتعلقة به، لكنّ الأدلة المباشرة التي تدعم ذلك غير متوفرة دائمًا، وأظن أن العادة والمعتقدات التي تحدد طرق التعاطي مع فكرة الموت تلعب دورًا مهمًا أيضًا.
صحيح أنه في بعض الحالات قد يتحوّل قلق الموت إلى عصاب مصحوب بحالات فزع متكررة يصعب السيطرة عليها، وهي حالات يرصدها علماء النفس، لكن أيضًا قد يصعب وضع حد فاصل بين ما هو طبيعي وما هو غير طبيعي في الخوف من الموت.
ذهب عالم النفس كارل كوستاف يونغ إلى أن ما نقاومه يستمر. إذًا؛ الأفكار السوداوية والمشاعر القاسية قد تصبح أكثر حدّة عندما نحاول قمعها، والمعروف أن أحد مبادئ العلاج النفسي هو القبول بالواقع ومواجهته بدل الهروب منه. صحيح أننا لن نحبّ الموت ولن نرغب به، لكن يمكن لنا الاعتراف به، وبدل الخوف منه يمكن لنا أن نحوّل تركيزنا إلى احتضان الحياة لنعيش كل لحظة بطريقة ملهمة، وإذا استطعنا تحويل الموت إلى قوة دافعة بإمكاننا أن نرسم حياة نشعر معها أننا أحياء حقًا.
سيسمح لنا التفكير في الموت بتذكّر كل ما هو مهم بالنسبة لنا، وأن نعيش عن قصد لا بالمصادفة، حين يحرّضنا هذا التفكير للبحث عن المعنى الذي نضيفه بأيدينا لا من خلال الاستلام لخطط القدر، عندها لن نرغب أكثر في قضاء الوقت مع من نحب من أشخاص ونهتم بهم، وحسب، بل أيضًا، القيام بكل ما من شأنه أن يجعلنا على صعيدنا الشخصي سعداء، تاركين بصمتنا على مجتمعاتنا. التفكير في الموت قد يسبب القلق، نعم، لكن يمكن تحويله إلى أرضية صلبة نحو حياة مليئة بالمعنى.
الخالدون رغم موتهم
عنما نواجه فكرة الموت نلجأ الى الأشياء التي نعتقد أنها ستهبنا الخلود، وقد وجدت الشعوب ضالتها في خلود "حقيقي" في وعد الأديان لهم بالجنة أو في الإيمان بعقيدة تناسخ الأرواح، وفي كل ما يتعلّق بتصوّرات حياة ما بعد الموت والأساليب المقترحة للإعداد لها [5]، لكن في خضمّ هذه الموقف الجماعي فإن الموقف من الموت يعتمد في النهاية على الشخص؛ هل يحاول هذا الشخص أن يبعد تلك الفكرة عن تفكيره أم أنه يتأملها ويضعها في المقدمة؟
دعا الإمبراطور والفيلسوف، ماركوس أوريليوس، إلى التصالح مع الموت، بأن تكون فكرة "قد تموت الآن" محدّدة لأقوالنا وأفعالنا وتفكيرنا. ولكن، من السهل الحديث عن التصالح مع الموت، لكن تحقيقه في واقعنا قد يواجه صعوبات عديدة، وحتى الآن نحن قلقون من رحيل أحبّتنا، وحين نفكر في موتنا نقلق من آلام الاحتضار، والوحدة، وما هو مجهول، لكن امتلاك الشجاعة لذلك للحصول على المنافع يستحق المحاولة، ولنتذكر مقولة فولتير "تقبّل الموت وسيكون بعدها كل شيء ممكنًا".
تسلبنا فكرة الموت وتأملها اليقين بأن ثمة غدًا، وتنبّهنا إلى أننا لا نسيطر إلا على اللحظة الحالية، وأن نعيشها دون تسويف، ودون أن نرهن أنفسنا للقدر. فضيلة الأشخاص الذين يضعون الموت في المقدّمة أنهم أكثر قدرة على تطوير حياة أكثر أصالة، ينسجم فيها سلوكهم وأهدافهم مع قيمهم. عليك أن تضع الموت في المقدمة لا أن تشيح بوجهك عنه. وإذا كانت الحكمة التراثية في إحدى صيغها تقول: "أطلب الموت تكتب لك الحياة"، فاقترح عليك عزيزي القارئ، أن تتأمل الموت لتكتب حياتك كما تريد.
هوامش:
[1] رأى عدد من رجال الدين المسلمين (مثل ابن عثيمين وابن باز والألباني وغيرهم) أن هذه الحكمة بشطريها المتعلقين بالعمل للدنيا والعمل للآخرة لم تثبت حديثا عن النبي، وهم إن وجدوا في شطرها الثاني توافقا مع التوجه الإسلامي، تحفظوا على الشطر الأول الذي يخالف التراث الإسلامي الذي يحث على الزهد في الدنيا لصالح الآخرة، وفسرها بعض آخر تعسّفا لتنسجم مع هذا التوجه.
[2] للمزيد حول السياسة الحيوية أنظر: ميشيل فوكو، مولد السياسة الحيوية، ت. الزواوي بغورة (الدوحة: منتدى العلاقات العربية والدولية 2018).
[3] هناك أسباب عديدة لعودة النقاش حول الموت مطلع الألفية الثالثة، قد يكون منها الاعتقادات التي انتشرت بنهاية العالم بحلول تلك الألفية، والصدمة التي أحدثتها هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 في الوجدان الغربي، بالنسبة لمقاهي الموت باعتبارها نقاشا ذا طابع قصدي يفضّل التركيز على أهدافها لفهم دوافعها.
[4] للمزيد حول "مقهى الموت" انظر: https://wapo.st/3dVp5tm ؛ https://deathcafe.com ؛ https://bit.ly/2QqULOj
[5] تذهب دراسات إلى أن التفكير في الموت يوفر إغراء للمتدينين، وغير المتدينين، نحو المزيد من المعتقدات الدينية بطرق غير واعية.