}

أفول الفرنكفونية وتحوّلات الثقافة واللغة العربية

فريد الزاهي 5 مايو 2021
آراء أفول الفرنكفونية وتحوّلات الثقافة واللغة العربية
ينبني نقد الفرنكفونية على التباسها المبني على الهيمنة والاستعمار

في الفترة الأخيرة قامت قناة "فرانس 24" ببث نقاش عن استعمال اللغة الفرنسية في البرلمان الأوروبي. وكان الحديث يدور عن الاندحار المطّرد الذي تعرفه هذه اللغة ذات الماضي المجيد. ما الذي يمكن أن يثيره فينا هذا النقاش، نحن الذين نعيش في المغرب الكبير ومنذ ما يقارب القرنين تجذّرت هذه اللغة في الحياة اليومية كما في الحياة الأدبية والثقافية؟ ثم لماذا التباكي على مصير لغة عرفت منذ عقود انفتاحًا متناميًا على اللغة الإنكليزية، بحيث باتت حتى قنواتها التلفزيونية الرسمية وإداراتها تستعملها بشكل منهجي. فبين ماضٍ عرفت فيه اكتساحًا وطمسًا للكثير من اللغات المحلية كالبروتانية والباسكية والكاتالانية والأكسيتانية، ها هي الآن تعيش أزمة في عقر دارها وتراهن على امتداداتها خارج أراضيها في أفريقيا وغيرها.

 

الفرنكفونية ولغاتنا المحلية

قد يبدو أفول الفرنكفونية أمام الاكتساح الذي تعرفه اللغة الإنكليزية مصيرًا بدهيًا لشباب اليوم الذين ينزعون بشكل متزايد إلى اكتسابها والتعامل بها، بالنظر إلى التحوّلات التي جاءت بها العولمة الاقتصادية والإلكترونية. لكن جيلنا والجيل السابق علينا، وإن كان يملك منظورا نقديًا للفرنكفونية وآثارها الثقافية ويسعى إلى بناء ثقافة وطنية بلغته الأم ولغته المكتسبة (الفرنسية والإسبانية في حال المغرب الكبير)، فإنه ظل يعيش "وعيًا شقيًا"، مرحًا تارة كما هو الأمر لدى كتّاب بالفرنسية من قبيل الخطيبي، وممزقًا كما لدى كاتب ياسين ورشيد بوجدرة وعبد اللطيف اللعبي.

اعتبر كاتب ياسين أن اللغة الفرنسية "غنيمة حرب"


لنكن صريحين مع أنفسنا بهذا الصدد. ففي هذه البلدان العربية الفرنكفونية، كان الأدب المكتوب بالفرنسية مدخلها للعالمية. فلقد حظي كاتبان مغربيان بجائزة غونكور المعروفة (الطاهر بن جلون عام 1987 وعبد اللطيف اللعبي عام 2009)، كما حاز كتاب ومثقفون وباحثون مغربيون على العديد من الجوائز والتكريمات غيرها. بيد أن جيل كاتب ياسين والخطيبي وإدريس الشرايبي واللعبي وعبد الوهاب المؤدب وغيرهم، يبدو كما لو أنه جيل الذروة. فإذا كانت اللغة الفرنسية لا تزال سارية في هذه البلدان، فإن ما يكتب وينشر في مجال الدراسات والأبحاث يبدو أهم وأبلغ وأغنى بكثير في الوقت الراهن مما ينشر في مجال الكتابة الأدبية. إن هذه المفارقة، إن كانت تؤكد افتراض أفول الفرنكفونية، فهي من ناحية أخرى لم تنتج لدينا أدبًا مكتوبًا باللغة الإنكليزية. فهذه الأخيرة لا زالت لحدّ اليوم أسيرة المعاملات الاقتصادية والدبلوماسية والتواصل غير الأدبي.

لقد جاء الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية في وقت كان يتّسم بتصفية الاستعمار. وهو ظلّ يعيش مفارقة هذه الرغبة في التحرّر وفي استعمال لغة الآخر (المستعمر). وهو من ثم ظلّ ممزّقًا بين عشق (محظور) لهذه اللغة وبين ضرورة التعبير عن واقع محلي. إنها وضعية خصبة سوف يجعل منها عبد الكبير الخطيبي وعبد الوهاب المؤدب علاقة منتجة وإبداعية، فيما سعى آخرون إلى تحويلها إلى وضعية إشكالية يلزم تفجيرها من الداخل. بل هي حكاية صراع بين الرغبة والضرورة، وبين الإحساس بالذنب أمام اللغة الأم والسعي إلى توطينها في لغة الآخر.

فإذا كان الخطيبي قد امتدح عشق اللسانين ومحبة اللغة من خلال تملّكها وممارسة نقد مزدوج إزاء الذات والآخر، فإن كاتب ياسين سوف يتخلّى عن كتابة الرواية ليتوجّه إلى الكتابة المسرحية. فهذا النوع الأدبي جعله يتواصل مع الجماهير التي كان يدافع عنها ويتخلّى عن اللغة الفرنسية لصالح العربية الدارجة، ثم لصالح الأمازيغية القبايلية. لقد كان هذا القرار لديه تعبيرًا عن رغبة آسرة في إنهاء حالة النفي في اللغة الفرنسية. وهو الأمر نفسه الذي سيراود كاتبًا جزائريًا آخر هو رشيد بوجدرة. فقد أصدر هذا الأخير في بداية الثمانينيات من القرن الماضي رواية "التفكّك" بالجزائر باللغة العربية، ليصدر لها "ترجمة" لها سنة بعد ذلك باللغة الفرنسية. وقد نُشر له حوار في الفترة نفسها يدافع فيه عن الكتابة باللغة العربية باعتبارها نهاية المنفى اللغوي الذي فرضته عليه لغة الآخر. سنوات قليلة بعد ذلك أعلن الكاتب المغربي عبد اللطيف اللعبي انقطاعه عن الكتابة باللفة الفرنسية والكتابة باللغة العربية. إنها حكاية "ردّة" لم تلبث أن تبدّدت ليعود الكاتبان إلى حظيرة اللغة التي بها صاغا أجمل مكنونات الأدب المغاربي. والحقيقة أن الكاتبين، بالرغم من إتقانهما للغة العربية، إلا أن مستوى ما نشراه بها لم يرق جماليًا وأدبيًا لما كتباه باللغة الفرنسية. فلقد أثبت بحث لي في الماجستير في الأدب المقارن حينئذ أن رواية بوجدرة قد كتبها هذا الأخير بالفرنسية وقدّم لها صيغة عربية (مترجمة) أصدرها قبل الأصل الفرنسي...  كما أن اللعبي أثبت أنه يكتب جيدًا بالعربية المقالات فيما كانت أشعاره بالعربية متواضعة. ولو أنه لم يعد لاستعمال اللغة الفرنسية لما حاز أبدًا على جائزة الغونكور.


 

الفرنكفونية هل هي أفق حيوي؟

لقد اعتبر كاتب ياسين أن اللغة الفرنسية "غنيمة حرب". وكان موقفه من الفرنكفونية من العنف بحيث إنه يعبّر عن موقف عام من آثار الاستعمار الثقافي. ففي عام 1966 قال: "الفرنكفونية آلية سياسية استعمارية جديدة لا تعمل سوى على تأبيد استلابنا. بيد أن استعمال اللغة الفرنسية لا يعني أننا عملاء لقوة أجنبية. وأنا أكتب باللغة الفرنسية لأقول للفرنسيين أنني لست فرنسيًا". أما الخطيبي فقد كتب نصًا خاصًا بمؤتمر الفرنكفونية عام 1989 يعبّر فيه عن نقده لها من موقعه ككاتب مغربي. وبما أن الساهرين على المؤتمر لم يستسيغوا نبرته الناقدة فإنهم منعوه من إلقائه وتوزيعه كما كان الأمر ساريًا حينها. وهكذا بعث الخطيبي برسالة لآلان دوكو، الوزير المنتدب وقتئذ المكلّف بالفرنكفونية، يندّد فيه بحجب مداخلته في المؤتمر. وتنتهي الرسالة هكذا، بنبرة تذكر بشكل صريح بنبرة كاتب ياسين، وتسعى للتملّك المتعدّد للغة الفرنسية: "إني لا أذكر هذه الحادثة إلا لقول ما يلي: ثمة لبسٌ يحافظ عليه الفرنسيون بخصوص مفهوم "الفرنكفونية": فالتحدّث باللفة الفرنسية والكتابة بها ليس معناه الوقوف سياسيًا إلى جانب فرنسا. إنهما نظامان يلزم الفصل بينهما؛ فاللغة الفرنسية لا وطن لها" (المغرب العربي وقضايا الحداثة، ص. 102).

اعتبر المهدي المنجرة أن الفرنكفونية لا تشكّل أساسًا للعلاقات الدولية


لقد اعتبر المهدي المنجرة، وهو مفكر مغربي يدعو للمستقبليات، أن الفرنكفونية لا تشكّل أساسًا للعلاقات الدولية لأنها تنبني على التفاوت بين الشمال والجنوب، وعلى ما سمّاه سمير أمين التفاوت غير المتكافئ. والخطيبي وهو يتفق تمامًا مع هذا الرأي، نراه يدعو إلى نزع الوطنية عن اللغة الفرنسية لأنها لا تنتمي للفرنسيين مقدار ما لا تنتمي اللغة العربية للعرب وحدهم. الفرنكفونية مشروع واسع ومعقّد، وهي لدى البعض أمر طوباوي. وبإمكاننا التساؤل عما إذا كان أتباعها قد منحوا لأنفسهم الوسائل المادية والثقافية لتمكينها من قواعد صلبة. ألا يوجد بين الشمال والجنوب عدم توازن بالغ البدهية؟ أليس عدم التوازن هذا موزّع بين احتكار البعض وفقر البعض الآخر؟

هكذا ينبني نقد الفرنكفونية على التباسها الأصل المبني على الهيمنة والاستعمار من جهة، وعلى التفاوت الاجتماعي بين مصدرها الفرنسي وأفقها الأفريقي والعالمي. من ثم فإن الأدباء المغاربيين (عدا بعضهم من الموالين صراحة لفرنسا كقوة سياسية) يتسلّحون في خلقهم لهذه المسافة بالضرورية، بنقد جيوسياسي ينطلق من موقعهم في تربة العالم الثالث. من ناحية أخرى، ولأنهم يكتبون باللغة الفرنسية ينطلقون من تملّك خاص لهذه اللغة يجعلها غريبة عن مصدرها ومفارقة له. وهي وضعية وإن كانت مطبوعة بالالتباس هي أيضًا، إلا أنها تتكئ على بلورة "أنثربولوجية" جديدة للغة الفرنسية تحوّلها إلى لغة تخترقها لغات أخرى محلية هي العربية والأمازيغية في حال بلدان المغرب. 

إننا ونحن نذكر بهذه الوضعية السجالية اليوم، وتبعًا للنقاش السياسي الدائر الذي انطلقنا منه هنا، نذكّر أيضا بأنه نقاش لا يعنينا ككتاب باللغة الفرنسية (وأنا طبعًا من ضمنهم)، ولا كمغاربيين عمومًا، بقدر ما يعني المصالح السياسية لفرنسا في المنظومة الأوروبية. فالاشتغال الذي مارسه الكتاب المغاربيون على اللغة الفرنسية قد جعلهم يكتبونها بلغاتهم الأم (العربية والأمازيغية). هذا بالضبط هو ما دفع كاتبًا مغربيًا آخر هو عبد الفتاح كليطو إلى أن يعنون كتابًا له بما يلي: "أتكلم كل اللغات، لكن بالعربية"، هو الدارس للمقامات والأدب العربي بذكاء تأويلي باهر وبلغة فرنسية تتحكّم فيها بلاغة الإيجاز العربية. من ناحية أخرى، إذا كانت الفرنسية لا زالت حيّة في التواصل والإدارات المغاربية كما في المجال الاقتصادي، فإنها أضحت تترك المجال تدريجيًا لتوطن اللغة الإنكليزية خاصة في المعاملات الدولية.

إن ذلك يعني أن اضمحلال النخبة الفرنكفونية، وهو يعضد النخب الاقتصادية والثقافية الجديدة المتعاملة باللغة الإنكليزية، يترك المجال رحبًا لتعضيد النخب المعرّبة. واللغة الفرنسية، وهي تفقد سلطتها في بلدان المغرب الكبير، تمنح مجالًا أكبر لتطور الثقافة العربية الحداثية التي نمت بفضل الترجمة وعمليات التعريب المتوالية. وهو ما أحدث شروخًا جديدة بين أصحاب اللغة الوحيدة وأصحاب اللغات الأجنبية... بيد أن امتلاك اللغات الأجنبية وتعضيد الترجمة ومأسستها، كفيلان بمنح فرصة أكبر للثقافة العربية لكي تخرج من انغلاقها، وتتحرّر من التفكير الإسلاموي لتكون ثقافة منفتحة على العالم... وتلكم معضلة على الأنظم التعليمية رصدها والعمل على حلّها.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.