}

العودة إلى الذات.. مونولوج ذاتي لكسر حاجز الصمت

حسام أبو حامد حسام أبو حامد 8 مايو 2021
آراء العودة إلى الذات.. مونولوج ذاتي لكسر حاجز الصمت
(Getty)
بعد سنوات من انتفاضة شعبية آلت إلى حرب أهلية مدمرة، وجدت نفسي أكثر وحدة، بعد أن مزّقت الحرب النسيج الاجتماعي، وحالت بيني وبين معظم الأهل والأصدقاء. بقيت قدماي عالقتين في وحل الجغرافيا، التي غادرها جلّ أولئك الأحبة، متوجهين إلى المنافي البعيدة والقريبة، أو إلى قبورهم، أو أصبحوا أسماء في قوائم المعتقلين والمفقودين. خيّم عليّ صمت عميق كتب ذات مرة محمود درويش عن هديره، متسائلًا: "هل ثمة صمت؟"، ماذا لو "نسينا اسمه وأرهفنا السمع إلى ما فيه؟".. يجيب درويش:

"... لسمعنا
صوتَ ارتطام التفاحة بحجر في بستان الله،
وصرخةَ هابيل الخائفةَ من دمه الأول،
وأَنينَ الشهوة الأصلي بين ذكر وأُنثى
لا يعرفان ما يفعلان، ولسمعنا تأملات
يونس في بطن الحوت، والمفاوضات السرّية
بين الآلهة القدامى
...
وإلى بكاء جلجامش على صاحبه أَنكيدو،
وإلى حيرة القرد حين قفز من الشجرة
إلى عرش القبيلة"
                  (من قصيدة "هدير الصمت")

منحني الصمت فرصة لأرقب ذاتي من خارجها، ولأطل من هناك على ألمي؛ رموز ذاكرتي التي دمرتها المعارك؛ مشاعري كيف أصبحت؛ قناعاتي هل تغيرت؟؛ هواجسي كيف تضخّمت؛ لغتي التي أصبحت شظايا. هل يحق لنا الخوف من الصمت؟
لو أرهفنا السمع إلى صوت الصمت "لصار كلامنا أقلّ"، كما يذهب الشاعر، لكن بعد ما يكفي من سماع كان لا بد لي من أن أكسر حاجز الصمت الذي بدد ضجيج الاجتماع الطبيعي. أكثر فأكثر، بدأت أخوض حوارات مع ذاتي، ساعيًا، بفضل هذا المونولوج، لأن أمتلك عالمًا بديلًا، قد يبدو حقيقيًا ومناسبًا. هل في ذلك نوع من تعويض سيكولوجي وسوسيولوجي؟
حتى في جغرافيا الشروط الإنسانية الطبيعية، نحدّث أنفسنا طوال الوقت، باستخدام الكلام الداخلي، أو الحديث الخارجي، ونخوض نقاشات معمقة، من دون أن يكون هناك أحد للرد سوى أفكارنا ذاتها، ليس بالضرورة أن تكون مفكرًا، أو ممارسًا لنوع من الكتابة الإبداعية لتمارس هذا النوع من الحوار. ويبقى السؤال هل نحن في حاجة إليه؟ هل من فائدة تُرتجى لتطويره؟



فن الإصغاء إلى الذات

(Getty)                                                                                                                                                                                                        


تُذكّرنا حكمة قديمة بأن للإنسان فمًا وأذنين، معنى ذلك أننا مهيؤون للاستماع أكثر من الكلام، فمن الحكمة أن تصغي إلى ما يقوله الآخرون. الاستماع قد يبدو جناسًا ناقصًا للصمت، وهو لا يتطلب منك أن تكون هادئًا وحسب، بل حاضرًا، أيضًا. حافظ على عقلك في الوقت الحاضر، ليساعدك على جني ثمار الاستماع. لكن، أليس في الإصغاء إلى النفس قدر من الحكمة يعادل، أو يفوق، الإصغاء إلى الآخرين؟



لتسأل نفسك: متى كانت آخر مرة قمت فيها بفحص أفكارك ومشاعرك؟ متى كانت آخر مرة فكرت فيها في احتياجاتك، ولبيتها بالفعل؟ متى كانت آخر مرة قلت فيها نعم، وكنت تعنيها فعلًا؟ إن تجاهل مشاعرنا وعواطفنا وحاجاتنا قد يكون وسيلة للتكيّف اعتدنا عليها منذ الطفولة في مختلف المواقف الأسرية والاجتماعية الأوسع، لذلك لم نعتد أن نستمع إلى أنفسنا في كثير من الأحيان، فلأجل الحفاظ على السلام مع المحيط، تعودنا على التقليل من احتياجاتنا. و"بمرور الوقت، يمكن أن تصبح هذه الطريقة هي طريقتنا الافتراضية في العمل، وإدراك العالم، مما يديم دورة عدم الاستماع إلى أنفسنا"(1).
أحيانًا، قد يكون مرد عدم استماعنا إلى أنفسنا هو الخشية مما نسمع، فأنت "تخشى أن تكون "محبطًا، أو مجروحًا، أو غاضبًا... في بعض الأحيان المشاعر والأفكار التي تظهر عندما نحاول الاستماع إلى أنفسنا يمكن أن تشعرنا بحزن شديد، وتكون مربكة، وحتى فوضوية، لدرجة نفضّل معها عدم الاستماع إلى أنفسنا"(2). المعالجة المتخصصة في الصحة العقلية، كريستين برونر، ترجّح أن ما يعيق رغبتنا في الاستماع إلى أنفسنا بدلًا من التركيز على الاستماع للآخرين هو افتراضنا أن "كل شخص آخر أكثر ذكاءً وحكمة ولديه الإجابات"(3) التي لا نملكها.
هنالك ما يمكن عمله عاطفيًا وجسديًا لمنح نفسك ما تحتاجه، ويأتي على رأس ذلك أن تتعلم فن الإصغاء إلى الذات، بأن تبدأ بالاستماع إلى نفسك لتختبر إلى أي حد يتطابق فكرك مع عملك. وفي هذا العالم المتغير بسرعة، والذي يشهد انقلابًا للقيم، وتقوده روح القطيع، ربما بشكل غير مسبوق، تبرز الحاجة لإعادة اكتشاف معتقداتك الأساسية، التي تشمل موقفك من الحياة، ومن نفسك، ومن الآخرين، لتعرف ما إذا كانت هي معتقداتك فعلًا، أم أنك أخذتها على عاتقك منذ الطفولة، عبر العاطفة التي تدير عقلك الباطن، لتتحكم في قراراتك، وتحول دون الاستماع إلى نفسك. هذه اللحظة مطلوبة، خصوصًا حين يكون الشخص الذي أصبحت عليه يتعارض مع أحد معتقداتك، وقد تكتشف أن الرقيب الداخلي ما هو إلا صوت أحد الوالدين، أو أي مُربّ آخر، وبات من الضروري الآن أن تستمع لرقيبك الذي تصنعه قناعاتك الحقيقية. قيمك هي ما يهمك بشدة، وإذا كنت لا تعرف قيمك الحقيقية، وتعيش على قيم لا تناسبك حقًا، فقد تشعر دائمًا بالقلق وعدم الرضى.



لستَ مجنونًا

(Getty)                                                                                                                                                                                                        


بعد الإصغاء، صار في إمكانك الآن أن تحاور نفسك، لكن لا تنسَ، دائمًا، فضيلة الإصغاء إليها، فأول ما يصطدم به هذا الحوار، ويبقيه لحظة عابرة، وعفوية غير موجهة تفتقر القصديّة، أن معظم الثقافات تنظر إلى من يحاور نفسه على أنه شخص غريب الأطوار، خصوصًا إن استخدم الكلام الظاهري. الدراما ومشتقاتها تصوّر لنا شخصيات مشوهة تتمتم مع ذاتها، حتى أنك حين يقبض عليك متلبسًا في تلك الممارسة تلوذ بالتعبير عن الذنب الخجول.
بداية، وأنا أصمم مونولوجي الخاص، شعرت بالقلق على صحتي النفسية. لم يكن ذلك بتأثير الثقافة السائدة، بقدر ما كان نتيجة ما لدي من زوادة لا بأس بها من علم النفس، بحكم دراستي للفلسفة، حيث ترتبط هذه "الهلوسات" اللفظية ببعض الأمراض النفسية، كالفصام، وغيره، لكن الدراسات الأكثر حداثة، التي اطلعت عليها أخيرًا، منحتني الطمأنينة اللازمة، حين أكّدت أن حديث الإنسان مع نفسه وإليها أمر طبيعي، وصحي جدًا، بل له دور في الحفاظ على صحة عقولنا، حين يساعدنا على تنظيم أفكارنا، ويقوي ذاكرتنا، ويعدّل مشاعرنا. إنه يساعدنا، عمومًا، على التحكم في أنفسنا. وإن الحديث مع الذات، عندما لا يكون العقل شاردًا، هو علامة على الأداء الإدراكي العالي، وبدل أن يكون ذلك دائمًا دليلًا على مرض عقلي، يكون أحد العلامات المهمة على الكفاءة الفكرية.



من الداخل إلى الخارج وبالعكس

(Getty)                                                                                                                                                                                                        


يتحكم الأطفال الصغار بأفعالهم بمجرد أن يبدأوا بتطوير اللغة، كما لاحظ جان بياجيه. عند الاقتراب من سطح ساخن، عادة ما يردد الطفل كلمة "ساخن" بصوت عالٍ، ويتحرك بعيدًا. يمكن أن يستمر هذا النوع من السلوك حتى مرحلة البلوغ. أما ليف فيجوتسكي فيرى أن الميل للتعبير عن أفكارنا الداخلية في الحديث الذاتي الفعلي، النموذجي لدى الأطفال، يتم استيعابه، ويتحول إلى كلام داخلي لا صوت له في مرحلة البلوغ(4).



يساعدك المونولوج الذاتي الداخلي على تنظيم أفكارك، وتكييفها بمرونة مع الحاجات والمطالب المتغيرة، لكن هل من ميزة لمونولوج ذاتي خارجي؟ لماذا لا تحتفظ بذلك داخل نفسك، إذا لم يكن هناك من يسمع كلامك؟
يتمتع الحديث إلى النفس بصوت عال بمزايا معينة تجعله متفوقًا على الكلام الداخلي، حتى عند البالغين، فيذهب تشارلز فيرنيهو، أستاذ علم النفس في جامعة دورهام، ومؤلف كتاب "الأصوات في الداخل"، إلى أنه بينما يظهر الكلام الداخلي الصامت بشكل مكثّف، وجزئي، ونستخدم معه كلمات مفردة، وجملًا مختصرة، فإن التحدث بصوت عالٍ يسمح باسترجاع أفكارنا بالكامل، لأنه يكون مصحوبًا بالإيقاع والتنغيم الذي يؤكد على معناها الواقعي، مما يشجع على خلق أفكار معقدة ومتطورة. وتذهب دكتورة علم النفس العصبي والمعرفي، بالوما ماري بيفا، إلى أن دراسة حديثة أجرتها وزميلها، ألكساندر كيركهام، في جامعة بانجور، أثبتت أن التحدث بصوت عال يحسّن من التحكم بالمهمة، بما يتجاوز ما يتم تحقيقه من خلال الكلام الداخلي. في التجربة، منح 28 مشاركًا مجموعة من التعليمات المكتوبة، وطلب منهم قراءتها بصمت، أو بصوت عالٍ، وبقياس تركيز المشاركين وأدائهم في المهام، تبين تَقدُّمَ من قرأ منهم التعليمات بصوت عال. يعدّ التحدث بصوت عالٍ أمرًا ابتكاريًا وإبداعيًا، فكل كلمة وجمل منطوقة لا تجلب فكرة موجودة فحسب، بل تؤدي، أيضًا، إلى إنشاء روابط عقلية ولغوية جديدة. الشكل المبتور للكلام الداخلي الصامت يُشجّعنا على إنشاء لغة مختصرة "سرّية" ونشر الاختصارات الذهنية، لكن لإجبار أنفسنا على التعبير عن أنفسنا بشكل كامل، يستدعي الحديث إلى الذات بصوت عال صورة المستمع، أو المحقق المتخيَّل، بشكل أكثر وضوحًا، مما يسمح لنا بمساءلة أنفسنا بشكل أكثر نقديّة من خلال تبني منظور خارجي لأفكارنا. وبالتالي النظر في أوجه القصور في حججنا. تضيف ماري بيفا "إن قدرتنا على إنشاء تعليمات ذاتية صريحة هي في الواقع واحدة من أفضل الأدوات التي لدينا للتحكم المعرفي، وهي ببساطة تعمل بشكل أفضل عند قولها بصوت عالٍ"(5).
يسمح لنا التحدث بصوت عالٍ إلى أنفسنا بفرز أفكارنا بطريقة أكثر وعيًا، حيث تؤدي العمليات المتضمنة في التحدث بصوت عالٍ إلى إبطاء سرعتنا قليلًا أثناء وصولنا إلى مراكز اللغة في الدماغ "بهذه الطريقة، نصبح أكثر وعيًا بتشتت الذهن ويمكننا بعد ذلك أن نصبح أكثر قصدية"(6).



نأي بالنفس
ذهب تشارلز فيرنيهو إلى أن الأبحاث تُظهر أن الناس يتحدثون بصوت عالٍ عندما يتعرضون للضغط، أو يواجهون تحديات معرفية، والأمر مفيد، أيضًا، للأطفال عند حل الألغاز، أو المهام الأخرى(7). ويرى إيثان كروس، أستاذ علم النفس في جامعة ميشيغان، أنه حين نتحدث مع أنفسنا فإننا نحاول رؤية الأشياء بموضوعية أكبر، لذلك تحوز كيفية التحدث مع النفس على الأهمية، ويميّز بين نوعين من الحديث مع الذات: الحديث الذاتي التعليمي (مثل التحدث مع نفسك من خلال أداء مهمة ما)، والتحدث الذاتي التحفيزي (مثل إخبار نفسك: "يمكنني القيام بذلك"). وحتى لو بدا ذلك الأمر مبتذلًا، فإن تحفيز نفسك بصوت عالٍ قد ينجح، ويكون الحديث الذاتي أكثر فائدة عندما يجمع بين التفكير والعمل، أو يعزز إطارًا تعليميًا. وبحسب كروس، فإن الطريقة التي تشير بها إلى نفسك عندما تتحدث إليها قد تحدث فرقًا، ووجد من خلال دراسة قام بها، ومجموعة من الباحثين، أن بإمكان الحديث الذاتي أن يؤثر على المواقف والمشاعر، وأن الأشخاص الذين تحدثوا عن أنفسهم بصيغة الغائب، مثلًا "يمكنك فعل هذا"، بدلًا من "يمكنني القيام بذلك"، شعروا بقلق أقل أثناء الأداء. يفسر كروس أن ذلك كان بسبب "النأي بالنفس"، أي أن تركّز على الذات من منظور شخص ثالث، على الرغم من أن هذا الشخص هو أنت.



يجعلك ذلك في موقع من يريد أن يحل مشاكل الآخرين الذي يكون دائمًا قادرًا على تقديم المشورة المناسبة حول مشكلة لم ينغمس فيها، وحين تخاطب نفسك لتحفّزها فإن استخدام صيغة الغائب يساعدك على النظر إلى الموقف من منظور منطقي وموضوعي بدلًا من منظور عاطفي ومنحاز(8).



خاتمة
الطريقة التي تصغي بها إلى نفسك، وتحدّثها، تؤثر على الطريقة التي تشعر بها تجاه نفسك، وتطال الأشياء التي يمكنك تحقيقها في الحياة، وكيف ينظر إليك الآخرون، وكيف تتفاعل مع العالم. أبحاث كثيرة تدعم أهمية حواراتنا الداخلية، وما تقوله لنفسك لا يؤثر فقط على فرصك في النجاح، ولكن يمكن أن يعزز، أيضًا، بشكل كبير كيفية تكيّفك مع الظروف المتغيرة، وسعيك لتحقيق أهدافك. صحيح أننا محاصرون في بيئات الأسرة والعمل والدراسة، التي لا تسمح لنا بتنشيط هذه الروافع لمعرفية البديهية، بل وتشجعنا في كثير من الأحيان على تجنبها، لكن ذلك لا ينبغي أن يستمر في منعك عن تطوير هذا المونولوج إذا ما أردتَ أن تكون أفكارك هي مصدر إلهامك. قد لا تستطيع أن تغيّر العالم، ولست في حاجة إلى تغيير حياتك كلها، لكن تعديلات ضرورية قابلة للتنفيذ ستقودك نحو الأفضل، لا سيما حين يكون:
"القمح مرّ في حقول الآخرين
والماء مالح
والغيم فولاذ
وهذا النجم جارح
وعليك أن تحيا وأن تحيا..."
                           (من قصيدة "مديح الظل العالي").


هوامش:

[1]Margarita Tartakovsky, "How to Listen to Yourself—Especially If You’re Really Out of Practice",  Psych Central, September 10, 2019: https://bit.ly/3nPLb3x

[2] Ibid

[3] Ibid
[4] "Talking out loud to yourself is a technology for thinking", Psyche Magazine, 23 DECEMBER 2020 :  https://bit.ly/339mSEm

[5]Paloma Mari-Beffa," Is talking to yourself a sign of mental illness? An expert delivers her verdict", The Conversation, May 3, 2017:  https://bit.ly/2RoBqgC

[6]Georgina Berbari, "Talking to yourself is normal. Here’s when you should be concerned", Considerable, October 18, 2020   https://bit.ly/2SgsvOG

[7] Zachary Pincus-Roth, "Spending the pandemic talking to yourself? If you live alone, you’re not alone", The Washington Post, Jan. 5, 2021:  https://wapo.st/33fhwaK

[8] Kristin Wong, "The Benefits of Talking to Yourself", The New York Times, June 8, 2017:   https://nyti.ms/3vDThz0

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.