}

في المشهد النقدي الفلسطيني

راسم المدهون 12 أغسطس 2021

بغياب "شيخ النقاد الفلسطينيين" الراحل إحسان عباس يمكننا اليوم الحديث عن مروحة واسعة نسبيًا من النقاد، أو الذين يكتبون نقدًا أدبيًا في صورة مستدامة وتختلف إمكاناتهم وملكاتهم النقدية وكذلك انتماءاتهم المختلفة بين النقد الأكاديمي الصافي أو النقد الآخر الذي سنسميه هنا "النقد الحر" بتنويع منابعه وأدوات قياسه مستفيدًا من هنا وهناك بدون أن يقيد نفسه بالانتماء الكامل لمدرسة أو نظرية. هؤلاء يكتبون – غالبًا – نقدًا يميل إلى الخوض في الأعمال الأدبية ولا يكتفون بالتنظير النقدي العام وغير التشخيصي، وهم أيضًا ينتسبون غالبًا إلى رؤى تتكئ على الذائقة الشخصية والتجريب. نقول هذا ونشير منذ البداية إلى ضبابية العلاقة بين النقد الفلسطيني– عمومًا – وبين النتاجات الإبداعية المختلفة، فمن يتابع ما يكتبه الفلسطينيون من نقد يلحظ "ندرة" تناول ما يبدعه الفلسطينيون في الأدب بالمقارنة مع التنظير من جهة، ونقد الأعمال الأدبية العربية من جهة أخرى.

في الغالب يميل النقد الفلسطيني إلى تحاشي "الاشتباك" النقدي بالشكل والمعنى العميقين وذلك في تقديري يعود في سببه الأهم إلى حساسيات سياسية "تفرز" المبدعين و"تفرز" معهم النقاد وتوزعهم على هذه الجهة السياسية أو تلك، أو هي على الأقل توزعهم على اتجاهات سياسية وأيديولوجية تجعل القارئ يبحث عن تبريرات لآرائهم أو هو على العكس يبحث عن تبريرات لرفض آرائهم وتصنيفها أيديولوجيًا وسياسيًا بدوره، خصوصًا وأن "الحالة" النقدية الفلسطينية لم تنجح إلى اليوم في بلورة علاقة تفاعلية إيجابية مع النسبة القليلة من الذين يبحثون عن الأدب والنسبة الأقل من الذين يثير اهتمامهم النقد الأدبي فيقبلون على قراءته ومتابعته.

في المشهد النقدي الفلسطيني يبرز اسمان بقوة وإن في حيزين أدبيين مختلفين ينتسب كل منهما لجنس أدبي بعينه، ففيما يجنح الدكتور فيصل درّاج إلى نقد الرواية يذهب الراحل يوسف سامي اليوسف نحو نقد الشعر فيكرس كل منهما معظم جهده النقدي في ذلك "الاختصاص" وتبدأ من ذلك الخيار بالذات ملامح اهتماماتهما ليس بالجنس الأدبي وحسب ولكن أيضًا وأساسًا بالحوامل الاجتماعية والفكرية والذاتية التي يفرضها.

"شيخ النقاد الفلسطينيين" الراحل إحسان عباس 


تجربة درّاج النقدية إذ تتناول أعمالًا روائية إنما تذهب نحو سبر الحياة الاجتماعية ذاتها بما هي عوالم سياسية وحضارية تتجسد في أحداث وتطورات. الحالة النقدية هذه تمتزج فيها القراءة الفنية بالفكر وتياراته المختلفة، ودراج ينتبه في عمله النقدي لمجموع المؤثرات التي تقف خلف النص وتؤسس له. هنا بالذات يكمن الفارق الأساس والأهم بين عمله النقدي وبين ما يتناوله الراحل يوسف سامي اليوسف الذي يأخذه الشعر نحو سبر من نوع مختلف يقع في النفس بما هي ذات فردية تموج فيها العواطف والشجون الإنسانية بما فيها العشق والألم الفردي، وهو في استثناءات قليلة لامس عوالم الرواية ولكن أيضًا من خلال سبر الروح الإنسانية بالذات كما فعل في كتابه القصير والبديع "رعشة المأساة" عن تجربة غسان كنفاني وهو أحد الأعمال النقدية بالغة الأهمية مع عمله الآخر، المختلف بل المثير للجدل والخلاف، "مقال في الرواية".

في حالتي درّاج واليوسف نقرأ أكثر من أية حالات نقدية أخرى اهتمام النقد بالنص ذاته فنلمح التخفف الناجح من "عادة" زج النظريات النقدية وتقديمها كحكم قاطع الآراء، لصالح قراءات أكثر عمقا وتتناول لب النص المنقود وجوهره حتى في تلك الأعمال التي تناولت قضايا شعرية كبرى كما في كتب يوسف سامي اليوسف عن الشعر العربي وبالذات تناوله لمقولات شهيرة كالحب العذري مثلا، فيما نجح فيصل درّاج في تقديم قراءات عميقة لواقع المجتمع الفلسطيني وتطوراته وكيف انعكست على تطور الرواية الفلسطينية كما فعل في قراءاته الكثيرة للأعمال الروائية الفلسطينية لأكثر من جيل من الروائيين خصوصا التفاتته في العقد الأخير لإبداعات الروائيين والروائيات الجدد وكثير منهم من أصحاب الرواية الأولى ووضعه قراءاته في سياقاتها النقدية التي تتكامل مع قراءة أعمال الروائيين المعروفين والمكرسين.

لو شاء لنا بعد ذلك أن نعدد ملامح الاختلاف بين الناقدين سنشير بالتأكيد إلى أن كلا منهما يذهب إلى ثقافة عالمية مختلفة، ففيما تخرج فيصل درّاج من الجامعات الفرنسية وتأثر بالأدب الفرنسي (وبالطبع بالنقد الفرنسي) نرى يوسف سامي اليوسف درس الأدب الإنكليزي ومارس تعليم اللغة الإنكليزية وعشق الأدب الإنكليزي وبالذات ت. س. إليوت، وتعمق في قراءة شكسبير بل ظل منتميًا إلى عوالمه المسرحية والشعرية وهذا في تقديري ملمح افتراق له أثره الملموس والحيوي على خيارات كل منهما بدءًا من القراءة ووصولًا للنقد.

هما فارسان لتجربتين نقديتين تفترقان في ملامحهما وأدواتهما ولكنهما تتكاملان في انتمائهما للجميل، الجاد الذي أثرى ويثري حياتنا الثقافية عموما والإبداعية خصوصًا، وهما علامتان مهمتان للأجيال الجديدة من المبدعين والمبدعات.

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.