}

جنيالوجيا القصة.. مشروع تأمليّ في قصص عربيّة

محمود الرحبي محمود الرحبي 5 يناير 2022

 

1- من النحويّ إلى الوظيفيّ

اللغة عنصر أساس في الأدب، لذلك ظل سؤال اللغة مفتوحًا وراهنيًا وعصيًا على كل تحديد نهائي. وهي في بعدها الوظيفي تنفلت من أن تكون مجرد غلاف شكلي توصيلي عابر. فإن كانت اللغة في الكتابة السيارة (أو نص القراءة كما يسميه رولان بارت) يمكن أن تعتبر وسيلة توصيلية، فهي في الأدب – والقصة القصيرة نوع من أنواع هذا الأدب – تأخذ بعدًا وظيفيًا. إنها تسري في المادة المكتوبة سريان الدم في الشرايين. تتحول في الأدب إلى سكن وإقامة دائمة. كما أن سؤال اللغة لا يتوقف عند نحوها. الجانب التركيبي يخرج اللغة من وظيفتها إلى هيئتها الجسمانية. لأن النحو والقواعد هي علوم لضبط الهيئة الصحيحة واللائقة، ويظل هذا الضبط عامًا وشكليًا ويتساوى في لغة الأدب وغيرها. وفي حالة الوقوع في فخاخ اللغة من هذا المستوى القاعدي من قبل كاتب القصة، يمكن تقويم ذلك بسهولة عن طريق المختص النحوي. على أن لغة الأدب وهي تعبر من النحوي إلى الوظيفي، تصارع من أجل التقيد بقوانين العلم (النحو كأحد علوم اللغة) ويمكن أن يأتي هذا التقيد لاحقًا، مع المراجعات المتكررة، سواء من الكاتب نفسه أو من قبل محرر محايد.

تكون اللغة بذلك متجاورة في الذهن مع الأفكار، أشبه بالأنفاس الخفية التي تدفع كلام الذهن لتحوله إلى كلمات تتحد لاحقًا - مع الكتابة- بالمعاني. وإذا كانت العلاقة بين الكلمات ومعانيها اعتباطية (كما يقول السيميائيون) تكون في القصة القصيرة وظيفية، لتذهب بالتصوير إلى أبعد من المعاني المحددة. سنجد في أحيان كثيرة أن اللغة في القصة مكتفية بنفسها، وأن معانيها متعددة، أو مغلقة، تحتفظ بالمعنى أو جزءًا منه، كما أنه يصعب تقيدها بذلك المعنى المباشر أو النهائي، تظل معاني اللغة في الأدب تأويلية، وخاصة في حالة أن الكاتب ارتضى بها (أي اللغة) سكنًا وإقامة دائمة وخلاصًا. نعبر عن رحلة صعود جبلية (الهايكنج) قصصيًا. سنكون هنا خلف المتسلق الوحيد. اللغة في هذه الحالة صامتة ولا تبحث عن معنى مباشر، إنها باختصار لا تعبر عن شيء محدد. هي أشبه بكاميرا تلتقط ولا تتحدث. الصورة هي من يقوم بالبحث عن كلمات ومعان لها. لذلك لا يمكن أن تقرأ الصورة قراءة واحدة. إن صورة المتسلق الجبلي عبر الكلمات تشبه صورته فوتوغرافيًا من الخلف من جانب واحد، شيء ظاهر وباقي المكونات يستلم التأويل زمامها. في هذه الحالة يمكن الحديث عن معنى متلاش ينطلق من القاعدة ليلتقي ويشتبك بالأفق. ينطلق من الأثر ولا يكون قاموسه اللغوي عبر المعاني المحددة. لذلك اللغة في الأدب بصورة عامة والقصة القصيرة بصورة خاصة، تصنع نحوها الخاص. تنطلق اللغة في كتابة القصة من المتعارف عليه في كل خطاب، ولكنه انطلاق بغرض التجاوز، على نقيض لغة الصحافة (وأمثل بلغة الصحافة بغرض التقريب فقط، وذلك لأنها لغة لا تقبل المراوغة) وهذا المتعارف عليه عادة هو متعارف لغوي تركيبي. تحترم لغة القصة القصيرة هذا العرف وتلتزم به في كامل حدوده. ولكنها فقط لكي توقع حضورها بين الأجناس. فالقواعد الشكلية تجمع كل أنواع الكتابة سواء في الجنس الواحد (كالسرد مثلًا) أو حتى في مختلف الأجناس بتعددها (سواء في نص الكتابة أو نص القراءة). فباستثناء أجناس الأدب، فإن اللغة لا تبتعد كثيرًا – في جانبها الوظيفي – عن حلبة المعاني المحددة. في الدراسات النقدية مثلًا يجب التعبير عن لغة واضحة المعالم، سليمة المقاصد، وإلا فإن المعنى سيكون بعيدًا والغرض المعبر عنه سينهار، وبالتالي لن يخرج القارئ بالفائدة المنشودة. بل إن بعض النقاد والدارسين، ينشدون التوضيح والتبسيط وأحيانًا بأكثر من طريقة لكي يوصلوا المعنى المحدد دون لبس أو مواربة. في خضم ذلك تترك لغة القصة هذا الصراع جانبًا، لأنها باختصار لا تبحث عن فوائد مباشرة وسهلة، تتركه لتحلق بعيدًا هاربة في الفضاء الفسيح. ورغم ذلك فسوف يلاحقها القارئ بشغف، متشبثًا بكل ريشة تسقط منها في ذلك الطريق المحلق.





2- اللغة: بين الحجاجي والبلاغي

 ["مجيء اللغة يعني مجيء اللعبة" –  جاك دريدا]

لماذا يقترن الحِجاج بالبلاغة؟ لإيلاء اللغة دورها الجمالي - قبل المضموني - في الإقناع والترجيح. وقد أولى العرب هذا المجال اهتمامًا واسعًا. نتذكر في تاريخ الأدب العربي الكثير من الفقرات الحِجاجية المقترنة بالبلاغة، من أشهرها تلك المناظرة التي حدثت في القرن الرابع الهجري ووردت في كتاب "الإمتاع والمؤانسة" – لأبي حيان التوحيدي – في مجلس الوزير أبي الفتح، بين المنطقي متى بن يونس والنحوي أبي سعيد السيرافي. ونماذج الحجاج كثيرة في تراثنا، ولكن هذه المناظرة كانت هي الأبرز، ليس فقط لأنها جرت بين منطقي ونحوي، إنما لأن الخطوة (البلاغية) الثالثة هي من أكدها وخلدها، خاصة حين نعرف أن من سجل ونقل إلينا تلك المناظرة هو أبو حيان التوحيدي البياني الكبير تلميذ أبي عثمان الجاحظ.

ولكن هذا الحجاج في أحد مستوياته الإقناعية يستمد بلاغته ليس من اللغة (العالمة) فحسب، يمكن أن يجد وقوده حتى في لغة الناس بقواعدها النحوية الدنيا (يمكن الرجوع إلى بول ريكور في كتابه الخطاب وفائض المعنى، حين تطرق إلى انفتاح البلاغة وتثوير إمكاناتها) فمثلًا حين يستخدم الكاتب حوارًا باللهجة المحلية العربية، هو في الأصل، يحول اللغة إلى كلام، ويخرج المنظومة اللغوية - مؤقتًا - من مستواها البلاغي العام إلى المستوى الكلامي العام، أي أنه يستخدم الكلام العامي كحجاج بلاغي، بعد أن كان هذا الحجاج مقتصرًا على اللغة العالمة في اقترانها بالبلاغة. وفي ذلك انتقال من ميدان السياق الذهني الصرف إلى ساحة التداول اليومي. ولا شك في أن هناك من الكتاب من يرفض أو يتحفظ على استخدام اللهجة المحلية أو الدارجة في نسيج سرده، وهذا تقريبا ديدن الكتاب الرواد وعلى رأسهم نجيب محفوظ، الذي لن تجد بسهولة حوارًا محليًا في قصصه ورواياته. ولا شك في أنه ينطلق من قناعة في ذلك، فالانتقال - وهذا ما يمكن أن يدور في خلده- من المتن الوصفي إلى المتن الحواري لا بد من أن يتم بنفس المفردات مع تصرف محدود بالقاموس. لغة الحجاج إذن ستكون هنا مفصحة، أو هي في مستوى ثان من التحول، اللغة ثم الكلام. رغم أن استخدام اللهجة في الحوارات قد يعدو تنازلًا من الكاتب أو (نزولًا في أفضل تقدير) بالخطاب السردي إلى ميدان التداول اليومي العام. تتميز عوالم قصص نجيب محفوظ بأن ميدانها الشارع والأسواق والبيوت، وهي ميادين صراع وصراخ (قصصه التي تتحدث عن القبضايات مثلًا) ولكن كل ذلك (الكلام) يتم تقديمه لنا بالفصحى وليس بالعامية. إن وعي الكاتب بانتقال اللغة إلى كلام (أي إلى حجاج صوتي) لا يجب أن يتم خارج لغة المتن، إنه وفيّ لها وإن علت نبرته ونزل من مستوى السياق إلى الشارع. إنه بذلك يحافظ على نموذجيته اللغوية.

في ظل اللعبة اللغوية نكون أمام ثلاثة مستويات، المستوى الأول لغوي بلاغي، والثاني لغوي كلامي /حجاجي، والمستوى الثالث أو الطريقة الثالثة هي أن تتنازل لغة الأدب عن موقعها وتبدأ باستعارة حديث عام ينتمي إلى الحدود الدنيا من النحو والقواعد البسيطة للغة. إلى جانب ذلك يمكن الحديث عن سياق حجاجي (متصالح) أي أن هذا الحوار وإن قدم بالفصحى إلا أنه ينفتح على العامية ويتصالح معها، ولكن ضمن شروط وأهداف ومقاصد غير مجانية، وعادة لا تخرج عن أصول الاحتراف اللغوي. وهذا الأسلوب نجده في قصص يوسف إدريس كثيرًا. وموجود – قليلًا - حتى في قصص نجيب محفوظ، مثلًا نجد عبارة "على فكرة" في سياق حوار بالفصحى لمحفوظ، ولكنه يستخدم كل ذلك بحذر وتحفظ شديدين، ولتقريب الفكرة، هاكم المثال التالي من قصة لنجيب محفوظ حملت عنوان "الحب والقناع" الموجودة ضمن مجموعته القصصية "الشيطان يعظ":

-  ما رأيك في زيارة ماما بعد العصر؟

- ليكن ذلك غدا إذ أنني دعوت عبد الباري ووهدان إلى فنجان شاي مساء اليوم.

نلمح أنه استبدل كلمة "أمي" بـ"ماما" وتصرف بذكاء مع كلمة "فنجان شاي" التي تقال في السياقين الفصيح والعامي.

هذا التصرف جعل مستوى الكلام قريبًا من مستوى اللغة، لذلك فاللغة في موقعها الحجاجي تحافظ على قيمها النموذجية، ولا تتحول إلى مستوى (الكلام الحواري) إلا عبر القاموس نفسه، والبحث عن إمكانات هذه اللغة من داخل منظومتها وليس بالنزول إلى منظومة الشارع بتعميماته المفتوحة. حيث نجد في ذلك استفادة وبحثًا في إمكانيات اللغة العالمة، وليس بالضرورة في إمكانيات الكلام العام.

ولكن إذا كان كاتب القصة يمتح عوالم قصصه من لغة الشارع والأسواق والبيوت، يستمد أحيانًا حتى حوارات قصصه من هذه الميادين، لكي يعبر لنا عن المستوى الاجتماعي والثقافي للشخصيات. مثلًا عند يوسف إدريس نجد أن المستوى الحواري ينطق ويعرب ويعبر عن المستوى الثقافي والاجتماعي للشخصيات الناطقة، ففي قصة له تحمل عنوان (أكان لا بد يا لي لا أن تضيء النور) نقرأ الحوار التالي:

- ربنا يفتح عليكي.. وينور لك طريقك.

- طب ما تنورهولي أنت.. ينوبك نواب!!

- النور لا بد من الداخل، من القلب. نورك في ايدك.

- عايزاك تعلمني الصلاة.

- عندي كتاب خذيه.

- أنا عايزه درس خصوصي!

سنلاحظ في الحوار السابق مستويين، الأول عامي ينطلق من متحدثة جاهلة، والثاني فصيح ينطلق من متحدث مثقف. سنجد يوسف إدريس، بخلاف نجيب محفوظ، في حواراته يولي اهتمامًا بانسجام اللغة مع المستوى المتحدث بها.

3- بين الحكي والسرد

يمكن للقصة القصيرة أن تعتمد على ما يحكى، ولكن ذلك الاعتماد لا يأخذ شكلًا خطيًا بالضرورة - من البداية إلى النهاية - إنما يحتمل (أنواعًا وطرائق) تتحمل اللغة فيها دورًا أساسيًا في تشكيل وتحويل الحكاية إلى قصة. فكل منا يمكنه أن يحكي حكاية، ولكن ليس الجميع يستطيع أن يكتب قصة، والسبب أن لغة السرد تتعالى على لغة الحكي، وهذا التعالي موكول إلى طبيعة القصة في حالة تعاملها مع الحكاية.

قل لي كيف تقص ما يُحكى، وسأقول لك إن كان ما تكتبه قصة.

حكاية نتلقفها عبر السماع، ونذهب بها بعيدًا في الزمن. نرثها ونورثها. كل جيل أو راو يضيف عليها شيئًا من بيئته. لدينا عشرات قصص سندريلا. بل إن في كل بلد يمكن أن تجد سندريلا خاصة به. وداخل كل بلد يمكنك أن تجد سندريلا بحرية وأخرى جبلية وثالثة صحراوية. الحكاية ابنة لسان بيئتها. ولكن حين يخضعها القاص لحقيبة عدته ومشارطه تتحول - عبر صيرورة الحبكة - من حكاية إلى قصة.

في قصة (ثمن زوجة) لنجيب محفوظ من مجموعته القصصية (فتوة العطوف) يسرد حكاية - بالمعنى البسيط للكلمة - تدور حول موظف يتعرض للخيانة في بيته، ثم تتحول الحكاية عبر الحبكة إلى قصة. تتلخص (ولا يمكن تلخيص قصة ولكن يمكن تلخيص حكاية) في أن الموظف حين يكتشف الجريمة يتصرف بهدوء ويطلب من العشيق مبلغًا مقابل صمته. ولكنه - أي الموظف - يبيت أمرًا انتقاميًا لزوجته، فيجمع عائلتها في عشاء، ويخرج من جيبه مبلغًا، ويطلب من زوجته أن تحكي حكاية هذا المبلغ. هذه الحكاية ما هي إلا القصة (قصتها)، ولكن الزوجة تلوذ إلى الصمت النهائي. حيث تستأذن من المجلس لتقدم على الانتحار. نحن هنا إذن أمام قصة تتضمنها دعوة للحكي. في قلب القصة هناك حكاية لم تحك، لأنها معروفة سلفًا، الجديد فيها هو الانتحار؛ هو النهاية التي يتكفل السرد بها.

يوسف إدريس في قصته "بيت من لحم"، وهي من عيون القصص العربية، يسرد قصة صامتة، أو لا يمكن أن تسرد إلا بلغة الصمت- عن فقيه أعمى. وقصص يوسف إدريس مليئة بمثل ذلك. يسرد حكاية سمعها ولكن لا ترى أثرًا للحكي فيها. بل إن تفاصيلها تقدم بلغة أشبه بلغة الإشارة، إنها تشير ولا تنطق. السرد هنا يحتل مقامًا أوليًا بينما الحكاية المسموعة تتوارى خلف سلطته. يدخل الفقيه الشاب الأعمى إلى الغرفة التي يتآخى فيها الفقر والحرمان وفقدان الأمل. تبدأ القصة بالمقطع الإشاري التالي: (الخاتم بجوار المصباح. الصمت يحل فتعمى الآذان. في الصمت يتسلل الأصبع. يضع الخاتم. في صمت أيضًا يطفأ المصباح. والظلام يعم. في الظلام، أيضًا تعمى العيون. الأرملة وبناتها الثلاث. والبيت حجرة. والبداية صمت.)

لا أثر للحكاية في المقطع السابق. بل بدلًا من ذلك تتكرر كلمة (الصمت) دلالة على أن السرد من يتحدث وليس اللسان. وأن نمو الحدث سيكون في الظلام والصمت. سيكون خلسة لا يسمع عنه أحد. سرد أخرس يتتبعه القارئ ويتلمسه كما يتلمس الأعمى الطريق.

إن ما تسمعه يمكنك أن تحكيه ولكن ليس بالضرورة يمكنك أن تقصه. ما تقصه سيكون عبر اللغة. وهذه اللغة تختلف في مقام القصة عنه في مقام الحكاية. في الأولى تدعو إلى الصمت ونكران الكلام، إلى إغماض العينين وإعمال الحواس الصامتة. أما في مقام الحكي فإن العينين تظلان مفتوحتين تريان كل شيء عبر الذاكرة. الصور في الحكاية تتحدث وتعبر من البداية إلى النهاية في خط مستقيم. بينما في حالة القصة تكون كل جملة مستقلة. لا ينتقل القاص إلى جملة موالية إلا بعد أن يطمئن إلى أن جملته السابقة قد اكتمل عودها، ثم بعد ذلك يشق طريقه بصمت مغمض العينين إلى نهاية القصة.





4- الخيال: بين السردي والشعري

الخيال بؤرة أي عمل أدبي، محايثًا وممازجًا له، فكأنما الواقع الذي نعيش، لا يمكن أن يسبك أدبيًا بدون تدخل خيوط الخيال. فحين يصف الأديب سحابة تراها عينه تبرق في السماء، فإنه يصفها أدبيًا كأنما يراها بعين أخرى، هي عين الخيال، التي ستحرك كل صورة جامدة. فهو سوف يضيف إلى تلك السحابة ـ بواسطة هذه العين ـ سربًا من الطيور، أو قوس قزح. وهذا هو الخيال في معناه الأولي البسيط، أما في معناه المركب، فالخيال يخرج من حيز التأمل الذاتي إلى مساحة أوسع. فعند الشعراء غالبًا ما يتدخل الخيال بواسطة عدة بلاغية (أدوات التشبيه والاستعارات) لإضفاء مسحة شعورية بإدماج عناصر جديدة على مشهد طبيعي ينطلق من ذات الشاعر. سيصف الشاعر مشهدًا يتحرك أمامه بصدق وانسجام، ولكن شعوره الذاتي، أو ذلك الوقع المؤثر الذي يضفيه ويخلعه على مشهد عابر، يجعله مؤبدًا في اللحظة والزمن. يصف سليم بركات الصرخة بأنها "قبضة باب من نيكل". هنا استعار صفات لمعدن النيكل اللامع للإبلاغ في وصف صرخة. هذه الاستعارة هي في الأساس تركيب خيالي على لحظة منظورة أو شعور محسوس. طفل يبكي فزعًا، إنها من السطوع والوضوح أن استدعت في خياله قبضة باب ساطع كصرخة، أو صرخة بشرية كقبضة معدن.

أما في القصة - وأنواع السرد عمومًا - يكون هذا التركيب موضوعيًا، ومباشرًا. فذات الشاعر التي خلعت صفات المعدن على صرخة ستكون عند السارد منقوصة إلى الفعل. قد يكون وصف الطفل الذي يصرخ هو الأساس في رسم صورة سردية مكتملة، لن يكون الشعور هو الأساس، إنما المشهد كاملًا ومجردًا.

حين يصف الشاعر أدونيس مدينته دمشق بالقول "أيتها الطريدة المليئة الساقين" فإن ما خلعته ذات الشاعر هنا يغني عن أي شرح. لا تحتاج الصورة إلى إضافات بقدر ما تحتاج إلى توسيع عملية التأويل. فنحن أمام طريدة ولكنها مليئة الساقين، لا بد أن شعورًا يمتزج هنا بالفتنة والذعر. لم يقل يا غزالًا إنما طريدة، لتدل مباشرة على الذعر والهلع، ومليئة الساقين لتدلل على الجمال والاكتمال. فالمشهد هنا غير مبتور، إنما على النقيض من ذلك؛ مكتمل. بل يفيض بمعان جديدة وتأويلات متعددة رغم قلة عدد كلماته. هذا في الشعر، أما في السرد والقصة بصورة خاصة، يستلم الوصف زمام الحالة ويذهب بها نحو التفاعل والاكتمال. وهذا أحيانًا لا يتم إلا بتدخل عناصر كثيرة، مثل الحبكة والصراع وحتى الحوار بنوعيه الخارجي (الديالوجي) والداخلي (المونولوجي)، وذلك بغرض إيصال المعنى. كتب يوسف إدريس قصته القصيرة "نظرة" التي تدور فكرتها حول فتاة صغيرة كانت تحمل صينية بطاطس من الفرن وتمشي في السوق، طفلة تعمل كخادمة، ولكن حين يصل الوصف البطيء إلى مشهد أطفال يلعبون، تتوقف الطفلة لحظة – يتحول هنا الوصف إلى فعل- تلقي عليهم "نظرة طويلة ثم ابتلعتها الحارة" هي هذه الكلمة الأخيرة تحديدًا في هذه القصة. ولكنها مثل التوقيع الذي يلخص فيه الكاتب المعنى كاملًا، وهو ما حمله عنوان القصة في البداية (النظرة) ولكن المعنى لم يتجل ويسفر عن نفسه إلا في النهاية. وكأنما السطر الأخير والكلمة الأخيرة البوتقة التي وضع فيها الكاتب خلاصة قصته. ستشعر بالفرق والفهم، وينجلي كل لبس ما أن تصل إلى الكلمة الأخيرة.

وإن كنت ستعيش القصة في كل سطر فيها، فإن المعنى هنا يتكون - أثناء القراءة- ببطء شديد، ولا يحتاج منك إلى تأويل مجتزأ ـ كما هو الحال مع الشعر ـ إنما الكاتب يقدم لك خريطة تقودك مع كل كلمة وجملة إلى المعنى الذي أراد إيصاله، على أن تظل الرسالة في عمومها - مع السرد والشعر- مفتوحة ولا نهائية، وإلا لما سمي الأدب أدبًا. فالأدب البليغ يمتلك قدرة لا نفاد لها على التأويل، ومن هنا منطلق راهنيته. إبداعات قاومت عوادي الزمن لتصل إلينا جديدة في كل مرة. تقرأ الآن المتنبي كأنك تقرأه من جديد، وذلك لأنك في كل مرة تكتشف معناك الخاص. وحتى هذه اللحظة الحيرة قائمة حول إن كان يقصد القلق أم الحصان في قوله "على قلق كأن الريح تحتي". وهل نجيب محفوظ في رواية "زقاق المدق" كان يرسم فقط ذلك الزقاق الضيق المحدود في حي الحسين، أم جميع الأزقة والحارات الضيقة التي يمكن أن يؤثثها الخيال ويوسع رقعتها. وعلى ذكر رواية "زقاق المدق" فإن القاص يوسف الشاروني كتب مرة قصة انطلاقًا من هذه الرواية، ولكن العجيب أن صانع العاهات "عيطة"، الذي هو أحد ابتكارات نجيب محفوظ في روايته المذكورة، رسم له خيال الشاروني - في قصته التي حاكت هذه الرواية - تمثالًا في نهاية الزقاق وذلك تقديرًا له لأنه كان يوفر العمل للناس! وهو أمر لا يمكن أن يحصل لولا تدخل الخيال، بل إن الخيال هنا يتدخل ليرسم أبعادًا جديدة، إنه خيال مبني على مثال خيال سابق، ولكنه استطاع أن يشق طريقه الخاص.

*نصّ مقاربة ضمن مشروع تأملي للقصة القصيرة، يستند فقط على قصص عربية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.