}

ما أهمية المكان والأوطان عند الشعوب؟

خطيب بدلة خطيب بدلة 14 نوفمبر 2022
آراء ما أهمية المكان والأوطان عند الشعوب؟
حدود سايكس بيكو التي قسمت المشرق والعرب

الظروف تتغير، والأحداث تتسارع، والجغرافيا لا تستقر على حال، والحروب تدور.. الدول الضعيفة تخسر أجزاء من أراضيها لصالح دول مجاورة قوية عسكريًا، مثال ذلك: الجولان السوري، ولواء إسكندرون، والقدس، والجزر الإماراتية التي تحتلها إيران.. أو تُقَسَّم الدولة الواحدة إلى دويلات، نتيجة الحروب الأهلية التي تشتعل غالبًا لأسباب دينية، أو مذهبية، أو عرقية... وفي المقابل، تزداد مساحة الدول القوية، وبين عشية وضحاها تصبحُ مجموعةٌ من أبناء شعب ما جزءًا من شعب دولة أخرى، ليصبح لزامًا عليهم التكيُّف مع الحياة في الدولة الجديدة.. وعلى هذا النحو؛ تتبدل المفاهيم السائدة بين البشر، وتنشأ مصطلحات جديدة، وطرائق جديدة في التفكير، وتتناقص الأهمية الروحية والعاطفية للمكان، حتى تكاد أن تتلاشى.
العرب القدماء كانوا يرحلون طلبًا للماء والكلأ، لم يعرفوا مفهوم (الوطن/ الدولة) بالمعنى الحديث للمصطلح قط، والباحث لا يجد للوطن ذكرًا في أشعارهم، عدا إشارات لأماكن متفرقة، يوردها شاعرُهم في معرض وقوفه على أطلال حبيبته الراحلة، متأملًا في بقايا الأثافي، وبعر الآرام، وأماكن الأوتاد التي كانت تسند البيوت، وإذا غادرت حبيبتُه، بعد حين من الزمان، مكانَها الجديد، فلا بد أن يتغزل بالمكان الجديد، ناسيًا المكانَ السابق، إذ ما عاد يعني له شيئًا..
عند الحارث بن حلزة، الأماكن هي برقة، والمحياة، والصفاج، وعاذب، وعند عنترة بن شداد، الجواء، وعند زهير بن أبي سلمى، حوامة الدراج، والرقمتان.. وأما قصيدة امرئ القيس "سما لك شوقٌ"، فتتحدث كلها عن التنقل بين الأماكن:
سَما لَكَ شَوقٌ بَعدَما كانَ أَقصَرا
وَحَلَّت سُلَيمى بَطنَ قَوٍّ فَعَرعَرا.
إلى أن يقول:
تقطع أسبابُ اللبانة والهوى
عشية جاوزنا حماةَ فشيزرا.
وهذا يوحي بأن تلك البلاد لم تكن تعرف أي نوع من الحدود، فامرؤ القيس كندي، نَجدي، وعرعر منطقة في المملكة العربية السعودية الحالية، بينما حماة وقلعة شيزر منطقتان في وسط سورية الحالية.
في أيام الدولة العثمانية، التي استمرت 400 سنة، بقي مفهوم الوطن، بالنسبة لدول منطقتنا، غائمًا، فسورية ومصر والعراق، وغيرها، كانت مجرد أسماء لكيانات لا حدودَ ثابتة لها، لا، بل إن الأتراك كانوا يقولون عن سورية "شام شريف"، وأما سورية الحالية ولبنان الحالي فكانتا، في مطلع القرن العشرين، كيانًا واحدًا، بدليل أن جمال باشا (السفاح) أعدم بعضَ معارضي حكمه، يوم 6 أيار/ مايو 1916، في دمشق، والبعضَ الآخر في بيروت. وفي فيلم "سفربرلك"، الذي ألفه الأخوان الرحباني، وأخرجه هنري بركات، سنة 1967، ثمة تركيز على الوحدة السورية اللبنانية المصيرية. وفي سنة 1920، تأسس بنك سورية ولبنان، وأصدر الليرة السورية سنة 1924، لتحل محل الجنيه المصري، الذي كان السوريون يتعاملون به، حتى إننا، حتى اليوم، ما نزال نسمي النقود "مصريات"، أو "مصاري".



الليرة السورية- الإصدار الأول 1924 


وفي سنة 1976، أدخل حافظ الأسد قطعات من الجيش السوري إلى لبنان، عاثت فيه فسادًا، وأُخْرِجَتْ منه، بتهديد أميركي، عقب اغتيال رفيق الحريري في فبراير/ شباط 2005، وقد أسس ذلك الوجود العسكري السوري في لبنان لأحقاد وعداوات لم يعرفها شعبا الدولتين طيلة تاريخهما، لا بل إن هنالك مَن كان يتحدث عن وحدة سورية الكبرى (الحزب السوري القومي الاجتماعي)، وتضم إلى جانب سورية الحالية، لبنان، وفلسطين، وشرق الأردن، وهناك ـ أيضًا ـ مَن يؤمن بأن البلاد العربية كلها ستتوحد، ذات يوم، في دولة واحدة.





لعل مصر قد سبقت الجميع إلى تشكيل دولة بالمعنى المعاصر، مع مشروع محمد علي باشا في مطلع القرن التاسع عشر، هذا مع أن محمد علي، في الأصل، والٍ عثماني من أصل ألباني.

محمد علي باشا (1769 ـ 1848) حاكم مصر (1805 ـ 1848)


والحقيقة أن التقسيمات الحالية لدول المنطقة، كلها، تعتمد على اتفاقية سايكس بيكو التي وضعتها فرنسا وإنكلترا في أثناء الحرب العالمية الأولى، وباشرتا بتطبيقها عندما أصبحت الإمبراطورية العثمانية في ذمة التاريخ.. والطريف في الأمر أن حدود دولنا الحالية، التي نستميتُ في الدفاع عنها، هي حدود اتفاقية سايكس بيكو نفسها، الاتفاقية التي ما زال التيار القومي يهجوها، عادًا إياها مؤامرة استعمارية تهدف إلى منع قيام الوحدة العربية المأمولة (أو المُتَوَهمة)، التي قيل إنها ستمتد من المحيط إلى الخليج.




في أواخر الخمسينيات، انتشت جماهير الشعب، في كل من سورية ومصر، بتجربة الوحدة بين الدولتين، وصار واجبًا على الشعبين السوري والمصري أن يلغيا اسمي دولتيهما، ويستعيضا عنهما باستخدام مصطلحي الإقليم الشمالي والإقليم الجنوبي.. وللتعبير عن هذا الفرح الطفولي راحت الجماهير تخرج بمئات الألوف، إلى الشوارع، لا لكي تحيي تجربة الوحدة بحد ذاتها، وتؤكد على أهميتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بل لتعيِّش القائد جمال عبد الناصر، مع العلم أنهم، وبالأخص جماهير الإقليم الشمالي، لا يعرفون من حقيقة هذا الرجل سوى ما وصلهم عبر الخطابات الإنشائية من أنه تحدى النظام الملكي، والاستعمار البريطاني، وأمم القناة، فكان مستهدفًا من الدولة الصهيونية، التي تؤازرها الدولتان الاستعماريتان فرنسا وبريطانيا.
المهم؛ انطلقت قرائح الشعراء في مديح هذه الوحدة، مشيرة إلى أماكن ربما لم تكن معروفة من قبل، مثل سوق الموسكي، وسوق الحميدية، كما في أغنية صباح التي لحنها فريد الأطرش:
من "الموسكي" لـ "سوق الحميدية"
أنا عارفة السكة لوحدية
كلها أفراح وليالي ملاح
وحبايب مصرية وسورية.
لا بل ارتفعت نسبة الخيال الإبداعي لدى بيرم التونسي، فجعل العربي المصري، في الأغنية التي لحنها عبد العظيم عبد الحق، وغناها محمد قنديل، يقف فوق الأهرام، فيرى أمامه بساتين الشام:
أنا واقف فوق الأهرام
وقدامي بساتين الشام.
وبساتين الشام هي الغوطة التي كانت توصف بـ الغَنَّاء، التي كتب لها الزعيم فخري البارودي أغنية: "عالغوطة يا الله نروح يا الله عالغوطة، عروس الشام الحلوة بدها زلغوطة"، وغناها معن دندشي.
والغوطة، نفسها، هي التي كانت تختبئ في أدغالها عصابات الثوار، لتجعل المستعمر الفرنسي بين 1920 و1946، يتجرع الأهوال، وهي نفسها التي ضربها بشار الأسد بالكيماوي في سنة 2013، وقتل 1400 إنسان دفعة واحدة.




غنى مطربون مصريون كثيرون لبلدهم مصر، منذ سيد درويش الذي غنى "بلادي"، وأيضًا "يا عزيز عيني أنا بدي أروح بلدي"، وكتب أحمد فؤاد نجم للشيخ إمام "مصر يما يا بهية"، وأما محمد عبد الوهاب، فقد غنى، من شعر أحمد فتحي، لمعبد الكرنك، ومن شعر أحمد شوقي لـ "جبل التوباد"، ولزحلة اللبنانية "يا جارة الوادي"، وغنى عباس البليدي للإسماعيلية، (حيث يقيم الزعيم مصطفى النحاس) "صفر يا وابور واجري شوية، وصلني أوام لاسماعيلية عايز أوفي الندر اللي علية"، والأغنية نفسها تؤديها نجاح سلام، بعدما قام مؤلفها الشاعر إسماعيل الحبروك بتغيير بعض كلماتها.
ولعل الأخوين الرحباني هما أكثر مَن اشتغل على توثيق أسماء الأماكن والبلاد في لبنان، فغنيا لـ(بيروت، ومشغرة، ووادي التيم، وجبل الشيخ، وتراب عينطورة، وحملايا وتنورين، وميس الريم)، وكانت لهما، بالتعاون مع الشاعر سعيد عقل مجموعة قصائد تتغزل ببلاد الشام، وجبل حرمون، وبالأخص ذلك البيت الذي يحكي عن الثلج الذي يذوب منه، فيغذي ماؤه البلدين معًا:
"ثلجُ حرمونَ غذانا معًا"، إلى أن يقول الشاعر "أنا صوتي منك يا بردى/ مثلما نبعُكَ من سحبي". ولعل الشيء الجديد، على صعيد البلاغة الشعرية، ما جاء في قصيدة "يا ربى" للأخطل: "مشت الشام إلى لبنان شوقًا والتياحًا"، فهذه أول مرة نتخيل فيها مكانًا يمشي إلى مكان آخر من فرط المحبة!
هنالك أغنية لوديع الصافي عنوانها "جايين يا أرز الجبل"، من كلمات أسعد سابا، يعدد فيها أسماء مدن وبلدات وقرى لبنانية، وأخرى لمعن دندشي "يا طير سلم لي ع سورية"، من كلمات عيسى أيوب، يأتي فيها على ذكر مختلف أنحاء البلاد السورية.
أختم هذه المقالة بفكرة أراها خطرة للغاية. وهي أننا، في السابق، كنا نعد أي عدوان إسرائيلي (أو أميركي، أو أي عدوان آخر) على أحد المواقع العسكرية السورية عدوانًا على وطننا، فكنتَ ترى مؤيدي النظام الديكتاتوري الأسدي، ومعارضيه، يتحدون في إدانة العدوان، وإبداء استعدادهم للدفاع عن الوطن، على الرغم من كل شيء. ولكن؛ بعد قيام الثورة، ولجوء عصابة النظام إلى قصف المدن والقرى، وقتل الناس بلا تمييز، وضرب الغوطة وغيرها بالكيماوي، وتحويل سورية إلى منطقة نفوذ للروس، ولملالي إيران، والميليشيات الطائفية، أصبح الناس يشعرون بالارتياح عندما يُقصف موقع عسكري سوري، أو إيراني، من قبل إسرائيل، أو الأميركان، مثلما حدث في سنة 2013، في قصف مطار الشعيرات، ولعله يحدث بعده أيضًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.