تنقسم الكوميديا، بحسب نقاد الفن، إلى قسمين رئيسين، كوميديا الموقف، وكوميديا المهزلة الـ Farce، والملاحظ أن القسم الأكبر من الأغاني الكوميدية التي أُنتجت في البلاد العربية، خلال ما سمي عصر النهضة الموسيقية، تنتمي إلى النوع الثاني، فهي أقرب إلى المرح والفرفشة والتنكيت، موضوعها الأساسي مشاكل الحب والزواج، وقلما تتطرق إلى المواقف السياسية أو الفكرية الجادة.

لدي، في مستهل هذه المقالة، ملاحظةٌ أساسية، هي أن التأليف الكوميدي، عمومًا، صعب للغاية، فمن السهولة بمكان أن تُبكي الناس، وأما إضحاكهم فيحتاج إلى موهبة كبيرة، ومهارة استثنائية، وقد ترتب على هذه الحقيقة أن الشعراء والملحنين والمطربين الذين تشاركوا في صنع الأغنيات الكوميدية، كانوا من المبدعين الكبار.

بديع خيري ونجيب الريحاني

يعود الفضل في التأسيس للأغاني الكوميدية، مبدئيًا، إلى هذين المبدعَيْن، بديع خيري ونجيب الريحاني، اللذين ظهرا مع بدايات القرن العشرين، ثم انضم إليهما موسيقار الشعب سيد درويش، وقد أنجز الثلاثة، خلال زمن ليس بالطويل، أهم المسرحيات والأوبريتات الغنائية التي ترصد حياة الناس في قاع المجتمع المصري... ولو أننا تأملنا فيما كان يبدعه بديع خيري (1893- 1966) من أشعار، للمسرح والسينما، لوجدنا فيه الكثير من القصائد الكوميدية اللطيفة التي نبحث عنها.

في فيلم "لعبة الست"، للمخرج ولي الدين سامح، إنتاج سنة 1946، تمر بنا أغنية هجائية مرحة، يغنيها المطرب الكوميديان عزيز عثمان، من تأليف بديع خيري، وألحان محمود الشريف. إنها أقرب ما تكون إلى هجائيات ابن الرومي التي كانت تركز على الشكل الخارجي للإنسان المَهْجُوّ، وتصوره على نحو كوميدي، كاريكاتيري، وهذا النوع من الهجاء اتَّبَعه، كذلك، أبو عثمان الجاحظ في "رسالة التربيع والتدوير"، وفيها يصف مهجوَّه "أحمد عبد الوهاب"، بأنه مدور، مربع، قصير الأطراف، جعد الأصابع. وللعلم فإن هذا الهجاء غير عادل، لأن شكل الإنسان ليس من صنع يده.

كان عنوان الأغنية التي قدمها عزيز عثمان في الفيلم، "بطلوا ده واسمعوا ده"، وهذا، في الأصل، مثل شعبي مصري، يعبر عن وجود شيء غريب جدًا سيعلن عنه المتحدث. المهم أن الصبية الجميلة لُعْبَة (تحية كاريوكا) تتزوج من حسن أبو طَبَق (نجيب الريحاني)، والحاضرون في حفل الزفاف يطلبون من ابن خالتها عزيز عثمان أن يغني للعروسين، احتفاء بهذه المناسبة، وبما أنه يكره هذا العريس، ويغار منه، سرعان ما يغني:

بطلوا ده واسمعوا ده، ياما لسه نشوف وياما

الغُرَاب يا وقعة سودة، جوزوه أحلى يمامة

هي كانت فين عينيكي يا يمامة

لما دورتي بإيديكي ع الندامة؟

الصدامة اللمامة

إنتي عاجبك فيه جنانُه؟ والَّا لخبطته ف كيانه؟ والَّا تعويجة سِنَانُه؟

وفي الكوبليه الأخير من الأغنية يقول إن بإمكان زوج من الأرانب أن يختبئا في صيوان أذنه ولا يظهران للعيان!

حسين السيد ومحمد عبد الوهاب

الحديث عن المطرب عزيز عثمان يأخذنا إلى أغنية جميلة أخرى، تغنيها ليلى مراد في فيلم "عنبر"، إخراج أنور وجدي 1948، وفيها أن بطلة الفيلم ليلى مراد تعلن عما يشبه المسابقة لانتقاء عريس، فمَنْ يستطيع منهم الاستيلاء على قلبها، مستعدة أن تجري وراءه، فيأتي إليها مجموعة عرسان يعرضون عليها إمكاناتهم، بطريقة شديدة الإضحاك، ولكنها تعتذر لهم، وتختار بطل الفيلم الوسيم.

ليلى مراد امرأة ذات جمال استقراطي هادئ، ولذلك لا تصلح لحمل مشهد كوميدي، وللتغلب على هذه الحالة يختار المخرج العرسان من مشاهير الكوميديا في مصر، إسماعيل ياسين، ومحمود شكوكو، وعزيز عثمان، والياس مؤدب الذي يجيد اللهجة اللبنانية... أضف إلى ذلك أن حسين السيد رفع نسبة الهزل في عرض المزايا التي يقدمها كل عريس لليلى، ومنها، مثلًا، المقطع الذي يؤديه عزيز عثمان:

سيبِكْ منهم، دَه مفيش غيري

قيمة ومركز ووظيفة ميري

مربوط ع الدرجة التامنة، والناس درجات

ومرشح آخد التاسعة، غير العلاوات

معرفش لا كده ولا كده م الباب للباب

لا لي دعوة لا بِدَهْ ولا بده ولا ليا اصحاب

يعني المَهِيَّة من الصرّاف مع العلاوة ع الأنصاف

ها يكونوا ملك إيديكي نضاف.

وانشالله آكل أنا عيش آكل أنا عيش

آكل أنا عيش حاف حاااااااااااف

ومما يجدر ذكره أن الملحنين الكبيرين اللذين أتينا على ذكرهما، محمود الشريف ومحمد عبد الوهاب، قدما الأغنيتين بإتقان منقطع النظير، ولكنهما لم يستطيعا التخلي عن عنصر التطريب الذي يعشقانه، ومثلهما الموسيقار فريد الأطرش في أغنيته الكوميدية الشهيرة "يا سلام على حبي وحبك".

فريد الأطرش وشادية وفتحي قورة

قصة الفيلم، أنت حبيبي، شائعة، وهي أن فريد الأطرش دعا إلى منزله، سنة 1956، مجموعة من المشتغلين في السينما، منهم المخرج الكبير يوسف شاهين، وقال إنه يريد إنتاج فيلم، قصته مكتوبة على ورقة صغيرة، ملخصها أن الشرطة تلاحق شابًا راكضًا، وعندما يسألونه عن السبب يقول:

- أنا هربان من أهلي، عاوزين يجوزوني بالعافية.

ويكتب أبو السعود الأبياري السيناريو، ويعرض الفيلم في السنة التالية، وفيه العريس، فريد، والعروس شادية، وقد أجبرهما الأهل على العيش معًا، يغنيان بطريقة هزلية "يا سلام علي حبي وحبك":

فريد: مش ممكن أعيش من بعدك، ده خيالك جنبي ليلاتي

وبقول لو ربنا ياخدكْ، كنت أعمل ايه يا حياتي؟

شادية: انشالله انتَ يا حبيبي، يا هنايا وكل نصيبي

نلاحظ أن هذه الأغنية تقوم على لغتين متناقضتين، قسم منها عاطفي يوحي بالمحبة، فتأتي التتمة لتعلن استهزاء أحدهما بالآخر، فهي تقول:

يا حبيبي هواك جنني والشوق ملاني جراح (هذا كلام عاطفي جميل)

وحياتك تبعد عني، وتسيبني عشان أرتاح. (هنا التتمة الهازئة)

فيجيبها: هو يعني أنا ماسك فيكي؟ 

عندما نصل بالحديث إلى هذين المبدعين الكبيرين، بيرم التونسي وزكريا أحمد، نكون قد دخلنا، فعليًا، عالمَ السخرية الرفيعة، أو من العيار الثقيل

حتى عبد الحليم حافظ

لا شك في أن سماع أغنية كوميدية مرحة من موسيقار الأزمان فريد الأطرش أمر يدعو للدهشة، فقد اشتهر بأغانيه التي تقطر حزنًا وأسى، وأما عبد الحليم حافظ فهو مولع بالأغاني العاطفية، يضفي عليها بأدائه العذب حزنًا ورومانسية، ولكنه، هو الآخر، لم يقاطع الأغاني الكوميدية، ففي فيلم "ليالي الحب"، إخراج حلمي رفلة 1955، يغني من كلمات فتحي قورة وألحان محمود الشريف، بعنوان "يا سيدي أمرك"، وهي تبدأ باللعب على ألفاظ جزء من موشح أبي خليل القباني (بالذي أسكر من عذب اللمى)، وبنفس الطريقة التي حكينا عنها في أغنية فريد وشادية، نجد الشطرَ الأول عاطفيًا، والشطرَ الثاني هازلًا:

بالذي أسكرَ من عذب اللمى، كانْ في حالُه، جَتْلَو بَلوه من السما

والذي أجرى دموعي عِندما، كان حَ يبعتني لأقرب محكمَه

ثم ينتقل إلى أغنية أم كلثوم وحَقِّكَ أنتَ المنى والطلب، من شعر عبد الله الشبراوي، وألحان أبو العلا محمد، ويأتي الشطر الثاني:

الله يجازي اللي كان السبب

وهكذا.

بيرم التونسي وزكريا أحمد

عندما نصل بالحديث إلى هذين المبدعين الكبيرين، نكون قد دخلنا، فعليًا، عالمَ السخرية الرفيعة، أو من العيار الثقيل، وهذان العبقريان، بالمناسبة، اشتهرا، مع أم كلثوم، بإنتاج أغنيات تطاول أعالي ذُرى الرومانسية، وهذه لا تحتاج إلى أدلة كثيرة، وأظن أن هذا المقطع من أغنية "الآهات" يكفي دليلًا:

بات السرور كله، بيني وبينك متقسّمْ

والزهر ويانا، ينظر لنا ويتبسّمْ

والطير يغني لي، والموج يقول وياه... آه

يادي النعيم اللي وجدناه واللي دخلناه... آه   

هذان الرومانسيان، وليس سواهما، أنتجا الأغنية الهزلية الرفيعة المستوى "هتجن يا ريت يا إخواننا ما رحتش لندن ولا باريس" التي تُجري مقارنة بالغة الرشاقة بين مدن العالم المتقدم ومدننا المتخلفة... وكذلك أغنية "أهل المغنى" التي ترقى – بظني - إلى مستوى الشعر الهجائي النادر الذي يسخر من الأنماط السائدة، مثلما فعل أبو نواس في هجاء ظاهرة الوقوف على الأطلال بقوله:

قل لمن يبكي على رسمٍ دَرَسْ

واقفًا ما ضر لو كان جلس؟      

تعالوا نقرأ ما كتبه بيرم التونسي ابتداء من اللازمة:

يا اهل المغنى، دماغنا وجعنا، دقيقة سكوت لله

ده احنا شبعنا، كلام مالُه معنى، يا ليل ويا عين ويا آه

ونلاحظ أن قوله (دقيقة سكوت لله) مستعار من لغة الشحاذين، ومعلوم أن من يضجر من كلام الآخر يقول له: أعرنا سكوتك، أو شَحّذنا سكوتك، أو نقطنا بسكوتك، أو أنا أبوس يدك اسكت!

بعد هذا ينتقل للسخرية من الأنماط الغنائية السائدة. في المقطع الأول لا ينتقد الرومانسية ذات الجودة العالية بالطبع، بل الرومانسية السخيفة:

طلعت موضه، غصون وبلابل، شابط فيها حزين

شاكي وباكي وقال مش عارف، يشكي ويبكي لمين

واللي جابت له الداء والكافيه، طرشه مهيش سامعاه

يا اهل المغنى دماغنا وجعنا دقيقة سكوت لله

لا يتوانى في المقطع الثاني من التهكم على أغنية محمد عبد الوهاب "يا وابور قلي":

ردي عليه يا طيور بينادي، وارمي له الجناجين

وانت كمان يا وابور الـوادي، قل له رايح على فين

قل له اياك يرتاح يا بابـــــوره ويريَّحنــــــــــا معــــــاه

يا اهل المغنى دماغنا وجعنا دقيقة سكوت لله

وينتقل في المقطع الثالث إلى هجاء الأغاني البكائية التافهة التي يتوهم صاحبها أن ثمة عوازل يبعدون عنه الحبيبة:

كل جدع فرحان بشبابه يقول في عينيَّ دمـــوع

يا اللي جلبتي شقاه وعذابُه حلّي لنا الموضــــوع

طالع نازل يلقى عـــــوازل واقفة بتستناه

يا اهل المغنى دماغنا وجعنا دقيقة سكوت لله

ويختتم الأغنية بهجاء المعتدين على فن التأليف الشعري والموسيقي، وكيف يستسهله المتسلقون:

حافظين عشرة تناعشر كلمة نَقْل من الجورنال

شوق وحنين وأمل وأماني وصد وتيـــــــه ودلال

واللي اتعـــاد ينزاد يا خـوانا وليل ونهـــار هـــوّاه

يا اهل المغنى دماغنا وجعنا دقيقة سكوت لله...