}

تجليات الزمن في أغاني أم كلثوم

خطيب بدلة خطيب بدلة 13 مارس 2023

تعتبر السيدة أم كلثوم (1898- 1975) ظاهرة فريدة في تاريخ الغناء العربي، اكتسبت خلال مسيرتها الفنية التي بدأت على نحو مبكر، وامتدت إلى آخر يوم في حياتها، لقبين شرفيين كبيرين هما: كوكب الشرق وسيدة الغناء العربي.

إنها، بزعمي، فلتة من فلتات الزمان التي لا تتكرر، إذ يندر أن يوجد صوت آدمي بهذه القوة، وبهذا الاتساع، وبهذه العذوبة، وله تلك المقدرات العالية على التنقل بين القرار والجواب، والتلوين في الأداء، والتنغيم والسلطنة... وإن وجد مثل هذا الصوت الآن، أو في المستقبل، فسوف تعاني صاحبتُه من أزمة حقيقية، وهي: من أين ستأتي بأمثال الشعراء الكبار الذين استقطبهم صوتُ أم كلثوم، فقدموا لها أعظم ما عندهم من أشعار، أمثال أحمد رامي، ومحمود بيرم التونسي، وعبد الوهاب محمد، ومأمون الشناوي، وأحمد شفيق كامل، وعبد الفتاح مصطفى، ومرسي جميل عزيز، وأحمد فتحي، وإبراهيم ناجي؟ وهل يعقل أن تعثر على أمثال أولئك الملحنين العباقرة الذين يُعتبرُ كلُّ واحد منهم قمة، ومدرسة في التلحين قائمة بذاتها: محمد القصبجي، وزكريا أحمد، ورياض السنباطي، ومحمد عبد الوهاب، وبليغ حمدي، ومحمد الموجي؟ بل من أين تأتي بالفرق الموسيقية الشرقية الجبارة التي رافقت أم كلثوم، وكانت تضم أعظم العازفين والملحنين و(المُنَوِّطين) والقادة... حتى إن الموسيقار الكبير محمد القصبجي، وهو أول مَن اشتغل على تطوير تجربة أم كلثوم، وتخلصيها من النمطية، وقدم لها خمسة وثلاثين لحنًا لأغان خالدة مثل: يا صباح الخير يللي معانا، وما دام تحب بتنكر ليه، ويا غائبًا عن عيوني، وأوبرا عايدة، وليه تلاوعيني، ورق الحبيب... بقي ردحًا طويلًا من الزمن يجلس في فرقة أم كلثوم الغنائية بصفة عازف عود فقط!؟  

الأمر اللافت للانتباه في تجربة سيدة الغناء العربي أم كلثوم هو بروز (الزمن) بوصفه عنصرًا أساسيًا، ينتظم القسم الأكبر من أغانيها، والمتتبع لكلمات القصائد الفصيحة والعامية التي غنتها ربما ينتابه شعور بأن المرء لو استبعد الزمن منها لأصبحت قصائد بسيطة، مسطحة، لا معنى ولا عمقَ إنسانيًا أو فلسفيًا لها... بمعنى آخر: إن وجود عنصر الزمن هو الذي يعطي لتلك القصائد أهميتها الكبرى على صعيد الفن والفكر والشفافية، ومعلوم أن هاجس الزمن يسيطر على مخيلات المبدعين الكبار، لأنه صنوُ الخلود، ونقيضُه، ومن يريدُ أن يماري في ذلك فليرجع إلى الأساطير القديمة، وإلى قصائد الشعراء الفلاسفة كأبي العلاء المعري وهوميروس ودانتي ألجييري.

ليس صعبًا على الدارس العثور على عنصر الزمن في أغاني أم كلثوم، إذ أنه سرعان ما يقبض على قسم كبير من تجلياته بدءًا من عناوينها: أغدًا ألقاك؟، إنت عمري، ألف ليلة وليلة، حسيبك للزمن، ذكريات، شمس الأصيل، فكروني، قصة الأمس، لسه فاكر، دارت الأيام، هذه ليلتي...  

يمكننا أن نستدل على السبب الذي يجعل للزمن هذه القيمة الكبرى في هذه الأغاني العظيمة من خلال مقطع صغير ورد في أغنية فكروني وهو القائل (وإحنا مش حنعيش يا روحي مرتين)، بمعنى أن العمر واحد، وقصير، ومحدود، ويجب علينا أن نحافظ عليه، أو نقتِّرَ في استهلاكه استجابة للمثل الشعبي الشامي الذي يقول (العمر مو بعزقة)!

ولكن، حذار من الوقوف عند هذا المفهوم (المنطقي) للزمن والتشبث فيه... فالزمن في أغاني كوكب الشرق له تجليات كثيرة، ومتنوعة، ومتشعبة، ولا يمكن إحصاؤها، أو حصرها، تجليات تبدو إما منطقية، ومنسجمة مع بعضها البعض، أو متناقضة.

في أغنية (غلبت أصالح)، مثلًا، يقسو الزمن على الحبيبة، فتلجأ للحبيب وتشكو له هذه القسوة (كنت أشتكي لك أيامي)، وتستعيذ برضى الحبيب من قسوة الزمان.

وفي أغنية (أهل الهوى) نجد للزمن مفهومًا مطاطًا لا يخضع لوحدات الزمن ومقاييسه العالمية، (يطولوك يا ليل، ويقصروك يا ليل!)، ومع ذلك يشتاق أهل الهوى المعذبون لَلَّيْل، وتقول له المغنية (ويسألوك يا ليل، إمتى تعود يا ليل؟).

لعل أبدع ما يمكن أن نصادفه في حكاية الزمن في الأغاني الكلثومية هو المعنى (الوجودي) للزمن الذي نقله إلينا أحمد رامي عن عمر الخيام


إن طول الليل والنهار، والوقت بشكل عام، ذو علاقة مباشرة بنفسية العاشق، فإن كان معذبًا، مقهورًا، مهجورًا، فإن مرور الزمن يصبح بطيئًا، مملًا، وهذا ما تعبر عنه أم كلثوم في أغنية (الهوى غلاب)، حيث تقول: (الهجر قالوا مرار وعذاب، واليوم بسنة!). وفي أغنية "أروح لمين" تقول: (لوعني حبك، واليوم في بعدك، بيطول سنين)!

حينما يكون العاشق في أوج حبه، فإنه يغتبط، وترتفع معنوياته، ولقاء الحبيب عنده، هو الحدَّ الفاصل بين الشقاء والهناء، بدليل أن "كوكب الشرق" في أغنية "إنت عمري" تذهب إلى أن الزمن الذي مضى من عمرها لا قيمة له، فهو عبارة عن (عمر ضايع!)، وهي تستغرب كيف حسبوه من عمرها (يحسبوه إزاي عليّ؟)! وبعد أن وقعت في الحب، أصبح لديها وضعٌ جديد، عبرت عنه بقولها (ابتديت دلوقت بس، أحب عمري، ابتديت دلوقت أخاف، لا العمر يجري)! وفي أغنية "عودت عيني على رؤياك" تتم مقاربة المعنى نفسه حينما تقول (وان مر يوم من غير رؤياك، ما ينحسبش من عمري).

في أغنية "رق الحبيب"، من شعر أحمد رامي وتلحين محمد القصبجي، نجد العاشقين يتسابقان مع الزمن، وهذا سببُه الشوق (من كُتر شوقي سبقت عمري... وشُفت بكره والوقت بدري). ثم يدخل الزمن في حالة "تعويم"، تترافق مع دخولها في عالم الخيال، فتقول: (وإيه يفيد الزمن، مع اللي عاش في الخيال؟)...

وفي أغنية "يا ظالمني" يعبّر الزمن عن اختلال العلاقة الإنسانية بين الحبيبين، فهو لا يعدو كونه زمنًا ضائعًا، مهدورًا، فالحبيبة لم تصبر على بعد الحبيب، وصده، وهجرانه زمنًا معقولًا يقاس بالساعات، أو الأيام، أو الأسابيع، أو الشهور، بل هي سنون طويلة، غير محدودة: (صبرت سنين على صدك، وقاسيت الضنى في بعدك).

وتتكرر السالفة نفسها في أغنية (للصبر حدود)، ويكون هدر الزمن على أشده، ويكون عنوانه الرئيسي هو انعدام القيمة، إذ تقول (أنا ياما صبرت زمان، على نار وعذاب وهوان، وبأملي أعيش ولو إنه، ضيع لي سنين في هواك)، وفي أغنية "الأمل" لا تشير المغنية إلى وحدة القياس (السنين) بل تستخدم كلمة "زمان" وأثناء الغناء تمدها طويلًا كناية عن طول هذا الزمان: (من زمااااان، طال انتظاري).

وعلى ذكر الانتظار فإن بعض الأغاني يكون الانتظار فيها مزعجًا، ومُتعبًا، وينطوي على حالة عشق مَرَضيّة، كما في أغنية "أنا في انتظارك" حيث تضطر العاشقة لأن تعد الزمن ثانية ثانية (وعديت، بالثانية غيابك، ولا جيت)...

إن وجود عنصر الزمن هو الذي يعطي لتلك القصائد أهميتها الكبرى على صعيد الفن والفكر والشفافية، ومعلوم أن هاجس الزمن يسيطر على مخيلات المبدعين الكبار، لأنه صنوُ الخلود، ونقيضُه

في أغاني أم كلثوم، يتحول الزمن إلى كُرَة، كلُّ مَنْ يعثر عليها (يشوطها) لتبتعد طريقه! وصاحب العمر الذي لا يمتلك غيره، وهو على يقين بأنه لن يمتلك غيره في الحياة الدنيا، سرعان ما يتخلى، وببساطة، عن عمره كله (وليس عن جزء صغير منه!) في سبيل إرضاء الحبيب الذي يبدو إرضاؤه غايةً لا تُدرك. تقول الكوكب في أغنية "بعيد عنك": خود عمري كله بس النهارده خليني أعيش.

ههنا نصل إلى المعنى الفلسفي لتكثيف الزمن في أغاني سيدة الغناء. فحينما تكون الحكاية جميلة، والأمور ماشية (واسم الله عليها!) يَقْصُر الزمن، ويُخْتَزَل. بمعنى أن الإنسان العاشق، المسرور، يشعر بأن الوقت، مهما طال، فهو قصير، وممتع. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك نجده في أغنية "أنساك" حيث تقول: (كان لك معايه- أجمل حكايه- من عمري كلو- سنين بحالها- ما فات جمالها- على حبي قبلو- سنين ومرت زي الثواني- بحبك إنته).

ونجد مثالًا آخر يوضح هذا المعنى، ولكن على نحو أكثر جلاء، في أغنية "أقول لك إيه عن الشوق" حينما تشدو بقولها: ومن الفرحة وأنا جنبك- بعيش في كل لحظة حياة. وفي مقطع آخر من الأغنية نفسها تقول: (هواك هوه اللي خَلَّا العمر غالي- وبالثانية أحسبه مش بالليالي).

لا شك في أن الليل من أهم عناصر الزمن لدى العشاق بشكل عام، وفي أغاني كوكب الشرق بشكل خاص، وإنه لمن النادر أن تعثر على أغان "كلثومية" تجري أحداثها في النهار، باستثناء الأغنية التي ابتدعها محمد القصبجي في الثلاثينيات (يا صباح الخير يللي معانا). وأما شمس الأصيل، فهي أقرب إلى الليل منها إلى النهار، بدليل قولها: والليل إذا طال، وزاد، تقصر ليالينا، واللي ضناه الهوى، باكي وليله طويل.

وفي أغنية "ألف ليلة وليلة" يتم اختزال بضع سنوات في ليلة: (في ليلة حب حلوة- بألف ليلة وليلة). إنها ليلة حلمية تعبر عنها كوكب الشرق في أغنية "هذه ليلتي" بقولها: (هذه ليلتي وحلم حياتي- بين ماض من الزمان وآت)، فتختصر الزمانين الماضي والقادم إلى ليلة. وفي أغنية "أنت الحب" يترافق طول الليل بالألم إذ تقول: (الليل عليّ طال، بين السهر والنوح). وفي "أطلال" إبراهيم ناجي ورياض السنباطي يتم الغمز من قناة اليقظة، ثم الالتفاتُ إلى مغازلة الليل، والاعتراف بصداقته، إذ تقول المغنية: (وانتبهنا بعدما زال الرحيق- وأفقنا ليت أنا لا نفيق- يقظة طاحت بأحلام الكرى- وتولى الليل والليل صديق).

ما من شك في أن أحمد فتحي في "قصة الأمس" يصنع جوًا ليليًا شاعريًا، ويُشعرنا بأهمية الزمن على نحو مدهش حينما يقول وتغني السيدة: (يسهرُ المصباح، والأقداحُ، والذكرى معي، وعيون الليل، يخبو نورها في أدمعي، يا لذكراك التي، عاشت بها روحي، على الوهم سنينا، ذهبت من خاطري، إلا صدى، يعتادني، حينًا فحينا).

ولعل أبدع ما يمكن أن نصادفه في حكاية الزمن في الأغاني الكلثومية هو المعنى (الوجودي) للزمن الذي نقله إلينا أحمد رامي عن عمر الخيام، وبالأخص البيت الذي يقول:

فقد تساوى في الثرى راحلٌ     غدًا، وماضٍ من ألوف السنين

وهو أقرب ما يكون إلى فلسفة أبي العلاء المعري الوجودية الذي قال:

رب لحدٍ قد صار لحدًا مرارًا   ضاحكٍ من تزاحم الأضدادِ

خفف الوطء ما أظن أديم الـ    أرضِ إلا من هذه الأجسادِ

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.