}

الخيال والحلم وسبُل الخروج من اللعبة

مالك ونوس مالك ونوس 21 فبراير 2022
آراء الخيال والحلم وسبُل الخروج من اللعبة
يغطيهم ورق ويحملون لافتات "البشر، احذروا مستقبلكم"(2/4/2021/Getty)

لدى التأمل في حالنا، ومراقبة المحيط الذي نحن فيه، يشعر المرء وكأن المسافة الفاصلة بين الخيال والواقع، والتي باتت رقيقةً جدًا، قد أخذت شيئًا فشيئًا بالزوال، لدرجة تخال نفسك فيها مرة جزءًا من الجمهور الذي يتابع ما يجري أمامه على خشبة مسرحٍ، أو على ستارة عرضٍ سينمائية، ومرة أخرى تخال نفسك واحدًا من الممثلين الذين يلعبون دورًا لا ينتهي عندما تنطفئ الأضواء، كما درجت العادة. لكن، في أحيانٍ كثيرةٍ، تمتزج الرؤى ببعضها، فيبدو وكأن الجدار الرابع الوهمي في المسرح، والذي يفصل الفريقين قد زال، أو أن الستارة الحريرية التي تظهر صور الممثلين عليها في قاعة السينما قد رُفعت واختلط الممثلون بالجمهور، فلا تعرف إن كنتَ تؤدي دورًا دراميًا، أو أن الواقع قد قارب الخيال، فيضغط عليك الأمر حتى تضعف وتُخرج من أعماقك السؤال، الصرخة، الذي تظن أن فيها خلاصك: هل نحن في لعبةٍ؟
ليس غريبًا أن يتكرر هذا السؤال في أفلام السينما، لكن الغريب أن يشعر المرء نفسه في الحياة الواقعية وكأنه يعيش ضمن خيال، أو أنه يحلم فيرى نفسه الشخصية الأساسية في هذا الحلم، وأنه مدفوع إلى اتباع سلوكٍ حدده له الآخرون. بقي سكان الكوكب شهورًا غير قادرين على التمييز إن كانت طريقة حياتهم وسلوكياتهم الجديدة التي فرضها انتشار فيروس كورونا، مع الإغلاق والقيود والإجراءات التي اتبعت للحد من انتشاره، هي حقيقة أم خيال. وفي كل صباح كان الناس يستيقظون، وبلا شعور يرتدون ثيابهم من أجل التوجه إلى أعمالهم، غير أنهم ينتبهون أنهم إن فعلوا ذلك قد يتعرضون للاعتقال، وتفرض عليهم غراماتٍ لسببٍ بسيط، هو خروجهم من منازلهم. يا للسخرية، هم الذين كانوا يتابعون بتشوق الأفلام التي كانت تعرض ظاهرات مشابهة، ها هم أنفسهم منزعجون من تحقق ما رأوه في السينما، وربما لذلك رفضوا في البداية تصديق فرضية انتشار فيروسٍ يهدد وجود البشرية.







حين شاهدنا فيلم، "أنا أسطورة"/ I am A Legend"، أقفلنا جهاز التلفزيون، وأرحنا أعصابنا، وقلنا كم نحن محظوظون مقارنة ببطل الفيلم، الذي جسَّد دوره الممثل ويل سميث، فلم نعش تجربةً من هذا القبيل، ولن نعيشها، إنها محض خيال. إذ يصعب تخيُّل مدينة بحجم نيويورك وقد فرغت عن بكرة أبيها من البشر إثر انتشار وباءٍ فيها جعل جزءًا من سكانها يتحولون إلى زومبي. أظهر الفيلم المدينة وقد غزتها الغزلان والحيوانات المفترسة، بعدما أصبحت مهجورة، وعشنا تجربة مطاردة بطل الفيلم الغزلان محاولةً منه لاصطياد أحدها لكي يسد جوعه، غير أن نمرًا يسبقه إليه ويقنصه ليعود هو خالي الوفاض. كما رأينا الجهد الذي يبذله البطل، والذي للصدفة يكون مختصًّا بعلم الفيروسات، مسابقًا الزمن من أجل إيجاد عقار يقضي على الفيروس الذي تسبب في تحوُّل البشر إلى وحوش. بعد سنوات من عرض الفيلم الذي ظهر سنة 2007، عشنا التجربة ذاتها بعد انتشار كورونا والإغلاق، وشهدنا فراغ الساحات والشوارع والمتاجر من البشر، وشهدنا تجوُّل الماعز البري في إحدى بلدات مقاطعة ويلز في بريطانيا، كذلك تجوُّل الذئاب في نيويورك ذاتها، لقد ظنوا أنها قد هُجرت، وأن لا ضير في أن تصبح امتدادًا لغاباتهم.

ماعز جبلي في بلدة في ويلز 


عند تغييب القانون، وتراجع الدولة عن أداء وظيفتها الرعائية، يصبح الفرد ضحية أهواء الآخرين، من أقوياء ومتنفِّذين، فيفقد دوره وقدرته على الفعل، ليدخل بعدها طور نكوصٍ فيلجأ إلى الغيبيات ليريح ذاته المتأذية. كما قد يلجأ آخرون إلى عالم الأدب والفن، حيث الخيال يحقق لهم المتعة والملجأ من شرور يومهم الرتيب. كذلك هنالك كثيرون لا يرون الواقع سوى على شاكلة فكرتهم عنه، لذلك فإن الطاولة كشيء ليست الطاولة إلا لأنها كذلك وفق العُرف الجمعي الذي ساعدت اللغة في تكريسه عبر إعطائها الاسم الذي يصفها، أو يصنفها. هنا قد نقع في إشكالية مع هؤلاء حول الخيال والعالم الواقعي أو الحقيقي، أيهم هو الحقيقي وأيهم تبِعَ الآخر، وهل يمكن إدراك الواقع سوى بالموت، لأن الموت عند كثيرين هو الشيء الوحيد الحقيقي الذي يقع، فنحن لا نعرفه، تمامًا كما الخيال، لكن على عكس الخيال، نحن ندرك الموت، لكن لا ندرك الخيال.




أرادت السياسة تضييق المسافة الفاصلة بين الحقيقة والخيال، فابتدعت لنا الحروب التي تشبه الخيال حين أخذت تديرها بطريقة اللعبة الإلكترونية. أليس قيام جنديٍّ في قاعدة أميركية بولاية نيفادا، على سبيل المثال، بالتحكم بطائرة من دون طيار في قاعدة أميركية في جيبوتي، أو العراق، أو شمال سورية، وإعطائها الأوامر بالانطلاق في اتجاه اليمن، أو مدينة دير الزور، أو إدلب، ثم قيامه بالضغط على زر إطلاق أحد صواريخ، "هيل فاير" التي تحملها باتجاه هدفٍ، حدّد هو أنه يستحق المهاجمة بغض النظر عن الأضرار الجانبية التي قد تنتج عن الضربة، والتي عادة ما تكون كارثية، ألم يكن هذا العمل جزءًا من إحدى الألعاب الإلكترونية التي كانت ثمرة جموح الخيال، ثم صار واقعًا؟ بوسع هذه الطائرة وقائدها الذي يجلس على بعد آلاف الأميال من مكان تحليقها، تمييز الشخص المستهدف إذا نظر إلى السماء والتقطت كاميرا الطائرة بصمة عينه وحللتها، أو إذا أجرى مكالمةً عبر هاتفه النقال واستطاعت اعتراضها. لا يمكنك استيعاب هذا الأمر سوى حين تستعين بالخيال، أو حين تستعيد أحد أفلام السينما المشابهة، التي عادة ما تكون قد سبقت مصنعي السلاح في تخيل ما جرى.
حين أصبح الواقع تجسيدًا للخيال، بل وتطرَّف هذا الواقعُ في حالات كثيرةٍ سابقًا الخيال نفسه في لا معقوليته، بات البحث، أو ربما العودة إلى الحلم سبيلًا لوقف اليأس الذي يجر كثيرين إلى جحيمه. أما إذا اعتبرنا أن الخيال كان عاملًا من العوامل التي تسببت بويلاتٍ وحروبٍ وحتى بأمراض، فهل يكون الحلم منقذنا من الواقع الذي فرضه الخيال، واقع عيشنا في أتون لعبة، وربما سبيلنا للخروج منها؟ هل ما زال للناس أحلام، هل ما زال في مقدورنا اجتراح الحلم؟ لم تكن هنالك في يوم من الأيام حاجة للحلم كما هي الآن، إنه زمن التصحر، زمن الأمل الذي تحوَّل يأسًا، وفي هذا الزمن بالذات يصير للحلم معنى، وتصير له ضرورة أيضًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.