}

الخروج من العقل إلى قمقم الاستلاب

مالك ونوس مالك ونوس 1 أبريل 2022
آراء الخروج من العقل إلى قمقم الاستلاب
(gettyimages)

 

هل يعدُّ الموقف المؤيد للحرب شكلًا من الاغتراب عن الواقع والمفاهيم وما تكدَّس في الذاكرة والأرشيف من قصصٍ عن فظائع الحروب؟ أم هي تبدِّيات عقلٍ ضحلٍ، يرى في القوة حلًا لمشكلاتٍ لم تتسبب بها "أخطاء التاريخ" بقدر ما كانت تجليًا لحتمياته؟ ربما هو التماهي مع الفرد الطاغية، الذي يعززه الاستلاب لفكرة عودة الماضي، حين دغدغ هذا الطاغية لدى البعض حلم عودة الدولة السوفييتية التي أفلت منذ ثلاثة عقودٍ، على الرغم من أنه لم يُشر إلى عزمه فعل ذلك.

يدفعنا إلى هذه التساؤلات ما لاحظناه من وجود عدد غير قليلٍ من الأشخاص الذين يبدو أنهم كانوا ينتظرون حادثًا كبيرًا، من قبيل غزو روسيا لأوكرانيا، حتى يضعوا العقل جانبًا، ويبدؤوا بتمجيد الحرب، متناسين أنهم أصبحوا في زمن لا تقف فيه المصيبة عند من يصاب بها، فحسب، بل يعاني منها من يعتقد أنه في منأى عن تأثيراتها أيضًا. وبعد أن بدأت الحرب، لم تتأخر تبعاتها بالظهور سوى أيامٍ لا تتعدى الخمس، حتى وصلت إلى منطقتنا العربية فكانت الطبقات الهشة اقتصاديًا أولى ضحاياها، بعد أن سلبها ارتفاع أسعار المواد الغذائية السريع ما تبقى من أمنها الغذائي.


لقد عرض الباحث والمترجم العراقي، فالح عبد الجبار، لمفهوم الاستلاب في كتابه "الاستلاب، هوبز، لوك، روسو، هيغل، فويرباخ، ماركس"، (دار الفارابي، 2018)، قائلًا إن مفكرين وفلاسفة اعتمدوه، وتشعبت استخداماته مع تطور الفكر الفلسفي والاجتماعي الأوروبي، أواخر القرن الثامن عشر. ورصدَ بدايات ظهوره، مع معارضة الحركات الدينية الاحتجاجية في أوروبا، في القرن السادس عشر، فكرة وجود وسيط بين الله والإنسان. والاستلاب بحسب الترجمة الحرفية لكلمة (Alienation) هو الاغتراب، غير أنه وفي سياق الدفاع عن الجوهر الإنساني، جرى البحث في الاستلاب الديني، الذي تنطَّع له هيغل، وفي استلاب الإنسان الذي يبيع قوة عمله، واغترابه عن منتوجه، حسب كارل ماركس، لتتسع مروحة المعاني التي تنضوي تحت مفهوم الاستلاب، ولتضم معاني منها السلب والتدمير والانتزاع والسلبية والنكوص وكذلك الانطواء.

 فالح عبد الجبار



ما يهم بالنسبة لقراءتنا هنا، أنه ومع الانكسارات والإحباطات التي أصابت أبناء البلدان العربية بسبب الهزائم والقهر والتفقير، بات العجز سمة كثيرين ممن لم يستطيعوا تحقيق حلمهم اليوتوبي (المشروع)، بعد انهيار النموذج الاشتراكي المتمثل بالاتحاد السوفييتي. حينها حصل ما هو حتمي في هذه الحالة من الفقد والخسارة، إنه النكوص إلى وهمٍ يكمن نموذجه في ماضي القوة، وهي القوة المرتبطة بحكم الفرد الديكتاتوري. هذا الوهم نفخت فيه جحافل الجيش الروسي عندما عَبَرَت الحدود إلى أوكرانيا لإخضاعها وإعادتها إلى الحظيرة الروسية، بعد أن خرجت عن طاعة الكرملين وقررت أن تخطَّ سياساتها بنفسها. هذا هو المشهد الذي شاهدناه من تهليل بعضٍ من اليسار العربي وغيرهم، لغزو أوكرانيا وتمجيد الحرب التي يعلقون عليها آمالًا، تكفي نظرة واضحة للواقع الروسي ولطبيعة نظامه، أن تبدِّدها. إن سماح كثيرين لأنفسهم بالفصل بين الواقع الروسي الحقيقي وطبيعة نظامه الاقتصادي والاجتماعي، وبين الوهم الذي يحملونه، يجعلهم ضحية استلابٍ بسبب غربتهم عن الواقع، بل ورفضهم التسليم بحقيقته.

بعدما درس كارل ماركس نقد الدين واللاهوت عند هيغل، خلص في كتابه "نقد فلسفة الحق عند هيغل" (1843) إلى القول: "إن نقد السماء يتحول (لدى ماركس) إلى نقد الأرض، ونقد الدين إلى نقد القانون، ونقد اللاهوت إلى نقد السياسة". وكما خلص ماركس إلى هذه الرؤية، كذلك يمكن لنا تطبيق مبدأ خُلاصته هذه، والاستناد إلى بحثه في الاستلاب وتركيزه على نقد العمل المُستَلِب، إلى نقد الحرب المُستَلِبة، وكذلك استلاب المهللين لها هذه الأيام. فالحرب باعتبارها قوة تفرِّق بين الناس فتفرزهم أعداء وأصدقاء، تعدُّ قوة استلاب وقوة عدوان تشيِّئ الإنسان حين تفقده إنسانيته. تصبح الحرب، شيئًا فشيئًا، كيانًا مستقلًا يتحكم بالبشر ويقرر مصائرهم لأنها، وبفعل آليات عملها، ستخرج عن سيطرتهم ما أن يعلن خصمٌ شنَّها على خصمه. في الحرب يخسر الإنسان إنسانيته فيغترب عن ذاته ولا يدركها، وقد لا يصدِّق أن الحرب مسَخَته فصيَّرته أداةً تقطع الرؤوس وتسحق الأجساد. وقد يعرف، في نهاية الحرب، مقدار اغترابه عندما يدرك، متأخرًا، سواء كان ممن خاضوها أو ممن هللوا لها ومجَّدوها، ما اقترفت يداه حين ساهم في صنع هذا الكيان الذي شيأه.

ويتكرَّس الاستلاب أكثر حين يسلِّم كثيرون أمرهم إلى شخصٍ يحمِّلونه آمالهم وأحلامهم لتحقيقها، وبل ويجعلونه الشخص الوحيد الذي يستطيع فعل ذلك من غير الآخرين جميعًا، وبذلك يتماهون معه، في حين أن تحقيق الحلم المشترك مناط بالفعل الجمعي. وفي حالتنا هنا، نأتي على التماهي مع المتسلط، التماهي بأحكامه وقيمه وبعدوانه، كما رأينا حين تماهى الكثيرون مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، خلال عدوان بلاده على أوكرانيا وأودعوه آمالهم بتحقيق حلمهم.

ولكن ما أسباب هذا النكوص الذي أوصل البعض إلى حالة الاستلاب للحرب والتماهي مع المتسلط؟ يُسبب العجز هذا النكوص، والذي بدوره يُعدُّ شكلًا من أشكال التخلف الاجتماعي الذي بقي الكثيرون يرزحون تحت ثقله، على الرغم من توفر أشكالٍ من التعليم والثقافة، وكذلك أدوات فهم الواقع التي تمكِّنهم من التخلص من هذا الشكل من أشكال التخلف. إذ خلال السنوات التي أعقبت استقلال الدول العربية، بعد الحرب العالمية الثانية، سرعان ما حلَّت مراحل الركود في الحياة السياسية والاجتماعية، وكذلك الاقتصادية، علاوة على القمع الذي تدار به شؤون هذه البلدان، فجعلت أبناءها يعانون الاضطهاد والقهر وعُقد النقص. جاء على هذا الأمر الباحث والكاتب اللبناني مصطفى حجازي في كتابه "التخلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور"، (المركز الثقافي العربي، 2005). وفي فقرة التماهي بالمتسلط (ص 123)، يقول حجازي: "التماهي بالمتسلط يشكل أحد المظاهر البارزة في سعي الإنسان المقهور لحل مأزقه الوجودي والتخفُّف من انعدام الشعور بالأمن، والتبخيس الذاتي الذي يلحق به من جراء وضعية الرضوخ. إنه كحل عبارة عن هروبٍ من الذات وتنكُّرٌ لها"... "إنه استلاب الإنسان المقهور الذي يهرب من عالمه كي يذوب في عالم المتسلط ونظامه آملًا في الخلاص".

خلص ماركس في كتابه "نقد فلسفة الحق عند هيغل" (1843): "إن نقد السماء يتحول إلى نقد الأرض، ونقد الدين إلى نقد القانون، ونقد اللاهوت إلى نقد السياسة"  


ولكن، هل يُلام هؤلاء على ما وصلوا إليه من التهليل للحرب وتمجيدها، أيًّا كان مُوقِدُ نارها، وأيًّا كانت تبريراتها، في موقفٍ يخالف الأخلاق؟ أم يمكن التبرير لهم بسبب واقعهم الضاغط عليهم والذي لم يترك لهم نافذة يطلون منها على واقعٍ أفضل؟ لا يمكن التبرير لمن درَجَ على تحييد عقله، في عالم الفضاءات المفتوحة والمعلومات والحقائق المتاحة بكبسة زرٍّ، والتي تدفع الفرد للاطلاع على معارف أكثر وإلى التأمل والمقارنة والاستخلاص. كما لا يمكن القول إن الفرد فقد الحصون الفكرية التي تمنع انخداعه، والتي تعينه على تفسير الظاهرات المستجدة، فكيف يسهل عليه التماهي بفكرة أو وهمٍ أو حتى بزعيم.

بين إمكانية لوم هؤلاء، لأن النموذج الذي يحلمون بسيادته هذه الأيام يوجِّهه حاكم بأمره، لا منطق لديه سوى منطق القوة، وبالتالي لا مكان لديه للحقوق والرأي الآخر، وهو النموذج الذي سعى الفكر الإنساني، للتنظير له من أجل نقضه، والذي إن ساد سيكون انهياره حتميًّا مثل انهيار النموذج الاشتراكي الذي سبقه والذي غيَّب الحقوق التي تعد من أهم ركائز الدولة المستقرة؛ وبين عدم لومهم لأنهم نشأوا وترعرعوا في ظل أنظمة ديكتاتورية قمعية، لا مكان فيها للرأي الآخر، ولا تقيم للإنسان اعتبارًا، وتستجيب للمطالبة بالديمقراطية بزج المطالبين في المعتقلات؛ بين هذا وذاك، تكمن أهمية العودة إلى البحث في الذهنيات التي تحمل معتقدات كهذه، وفي مدى صلابة إيمانها بهذه المعتقدات. وكذلك في الخمول العقلي أو العجز عن التفكير الذي أصاب كثيرين طوال العقود الثلاثة التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي، ومنَعَهم من دراسة الظاهرة الروسية الحديثة دراسة كلية، استنادًا إلى المبدأ الماركسي الذي يعتمد التحليل الاقتصادي في فهم الظاهرات، من أجل تفسيرها، انطلاقًا إلى تغييرها، أو تغيير ما في أنفسنا تجاهها، وهو أبسط ما يمكن لنا، في ظل النار التي تندلع فينا وحولنا.


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.