}

فلسفة أم فلسفات أفريقية؟

فريد الزاهي 25 فبراير 2022
آراء فلسفة أم فلسفات أفريقية؟
Adrian Ionut Virgil Pop/Dreamstime.com





حين ترجمتُ من سنوات قليلة مضت كتاب المفكر السنيغالي سليمان بشير دياني عن برجسون ومحمد إقبال وجدت نفسي أمام مثقف من طراز خاص. رجل يطوع الفلسفة لمنظوره الأفريقي، على طريقة ل. سنغور أحيانًا، لكن بكثافة تتداخل فيها معطيات متعددة، من إسلام أفريقي، وفكر غربي وحكمة شعبية... وحين ترجمت له كتابه الثاني بعد ذلك عن تعدّد أفريقيا، وهو عبارة عن محاورات مع أنثربولوجي فرنسي متخصص في أفريقيا، أدركت أن التكوين الفلسفي المنطقي الرياضي الصلب للرجل لم يمنعه من ارتياد آفاق فكرية جديدة جعلت منه أحد الوجوه الفكرية المعاصرة التي تسعى إلى تأسيس تفكير فلسفي جديد في قارة ظلت قرونًا طويلًا على هامش الفكر والفلسفة.

ما يُتداول اليوم عن الثقافة الأفريقية يتعلق بالفنون التقليدية والرواية والشعر والموسيقى كما بالفنون الحديثة والمعاصرة. ولا شك في أن هذه الأخيرة قد غدت في العقدين الأخيرين بالأخص مجال إشعاع وحركية حولت أفريقيا (شمالها وجنوبها) إلى مختبر للإبداع الأفريقي وإلى واجهة تعزز الطاقات الخلاقة للقارة وتجد موطنًا لها في الخارطة العالمية المعقدة للفنون. أما الفكر والفلسفة فإن حصتهما الضئيلة في هذا الإشعاع تعود بالأخص إلى اللبس الكبير الذي ظل يحيط بمفهوم الفلسفة الأفريقية، والبلورة "النظرية" الغامضة للحقول الفكرية التي تتلمسها، إضافة إلى هيمنة الأنموذج الفلسفي الغربي الذي يجعل من هوامش الفلسفة (حسب عبارة دريدا) مسألة فلسفية بامتياز تتطلب فكرًا يخلخل قواعد العقل والميتافيزيقا الغربية.    

هل الفلسفة غربية بامتياز؟

حين يتفلسف أحدهم في الغرب قد يجهل أي شيء عن أفريقيا وثقافة هذه القارة، وحتى عن الفلسفة التي تبلورت في الغرب الإسلامي بفاس والقيروان والقاهرة. ولا يبدو في ذلك أي حرج أو إحراج ما دامت الفلسفة تعتبر غربية بامتياز. ولولا الإثنولوجيا والأنثربولوجيا لما تعرف الغرب بشكل مغاير على أفريقيا وغيرها من الأصقاع النائية، ولظل حبيس ما يأتيه به رحّالته من مغامرات ومشاهد يمتزج فيها الغريب والعجيب. لكن، لنتصور اليوم فيلسوفًا أفريقيًا يزعم أنه يتفلسف وهو يجهل جهلًا تامًا الفلسفة الغربية منذ ما قبل السقراطيين حتى جاك دريدا. ألن يعتبر الأمر من باب التهريج؟

القليل مما يكتب عن الفلسفة الأفريقية يتجاهل شمال أفريقيا، وكأن هذه القارة تعيد إنتاج ثنائية الشمال والجنوب عالميا في حضنها. صحيح أن ثمة شرخًا تليدًا يفصل بين شمال القارة وجنوبها، غير أن التفاعلات الثقافية والدينية بين العديد من بلدان الشمال الأفريقي وبلدان جنوب الصحراء خلقت أواصر جديدة منذ قرون وأسهمت في التخفيف من الشرخ. ولعل هذا المعطى هو ما جعل سليمان بشير دياني أحد الفلاسفة القلائل الذين برزوا في المدة الأخيرة يحطم هذا الشرخ بالتفكير في الفلسفة الإسلامية باعتبارها مكونًا أساسًا في التفكير الأفريقي المعاصر.

يكفي أن نفكر في الفلسفة لنعتبرها رديفًا للعقل، ولنجعلها الابنة البارة للغرب. بيد أن العقل ليس غربيا حصرًا، والأشكال الميتافيزيقية كما التجريبية التي تمنح له ليست مقصورة على المفكرين الغربيين. ولا أدل على ذلك أن سقراط ليس أول فيلسوف، فقد تفلسف الكثيرون قبله ممن وصلتنا شذراتهم وممن لم تصلنا حتى أسماؤهم. وقد كان من اللازم أن ننتظر نيتشه ثم هايدغر لكي ندرك أن الفلسفة سابقة على العقل السقراطي والمنطق الأرسطي بكثير، وأن الشعر الفلسفي لأنكسماندر وهيرقليطس لا زال يسري في قلب صرامة الفلسفة الغربية. والعديد من الفلاسفة اليوم في فرنسا يدافعون عن وجود فلسفي عربي لم يكن فقط عبّارًا للفكر الغربي وإنما حلقة أساسية من تطور الفكر الإنساني تربط بين اليونان والنهضة الأوروبية.

إن التفكير في الفلسفة الأفريقية يعني بشكل ما إعادة التفكير في تاريخ الفلسفة عمومًا حتى لا تظل فقط تاريخًا أحاديًا للفلسفة الغربية وحدها. ولبلوغ ذلك لا بد من إعادة النظر في مفهوم الفلسفة نفسها، والكفّ عن اعتبارها فقط تفكيرًا ميتافيزيقيًا لكي ننظر إليها باعتبارها عقلًا عمليًا.

تكمن أهمية فكر سليمان بشير دياني في سعيه إلى إدماج "الإسلام" الأسود في سيرورة بناء الفلسفة الأفريقية ومن ثم في المكونات الأساس لهويتها الأفريقية



من الإثنوفلسفة إلى الحكمة الفلسفية

في 1945 أصدر المبشر المسيحي البلجيكي بلاسيد تومبيلز كتابًا بعنوان "فلسفة البانتو" (نسبة إلى لغات شعوب البانتو التي تمتد من وسط أفريقيا إلى جنوبها)، مانحًا بذلك الشرعية لأول مرة للحديث عن فلسفة منسوبة لأفريقيا. وفي 1969، اجترح الفيلسوف البنيني بولان هونتوندجي مفهوم "الإثنوفلسفة" لتعيين أي كتاب في الإثنولوجيا يقوم على تفكير فلسفي واضح. وأضحى هذا المفهوم يعين الحكمة الأفريقية ويستخدمه الغربيون أنفسهم في الحديث عن الفكر الأفريقي. سعى الإثنوفلاسفة من قبيل إيسياكا بروسبير لاليي والفيلسوف كانغو ثم موديمبي وكذا أوديرا أوروكا، من بين آخرين، إلى منح هذه الهجنة طابعًا ممكنًا ومشروعًا من الناحية الفكرية بدعوى القرب من مصادر هذه الفلسفة، أي الشعوب الأفريقية ولغاتها وموروثها الحكمي متبنين مقاربات فلسفية كالفينومينولوجيا وغيرها. ولأول مرة يتم الحديث فكريًا عن "الأسود" و"الأفريقي" بعمومية مفهومية تمنحه وجوده المفترض. ولأول مرة أيضًا، يأخذ الفكر طابعًا تحرريًا من الاستعمار، سعيًا وراء بناء الذات والهوية الأفريقية. لقد كان هدف هذه الفلسفة مجاوزة "وحشية" الأفريقي باتجاه بناء الشخصية الأفريقية انطلاقًا من موروثها الأسطوري والجماعي. وقد سعى الفيلسوفان أوديرا أوروكا ووايْرودو إلى توسيع مفهوم الفلسفة كي لا يظل محصورًا في الغرب، وسجين موضوعاته التقليدية، بل ليغدو تفاعلًا بين الجماعي والفردي. هكذا بلور وايرودو الحكمة الفلسفية ذات الطابع الأكاديمي التي تجعل من الحكماء الشعبيين مصدرًا للفكر الفلسفي. وهذا التوجه الأخير، وهو يرغب في تحرير الإثنو فلسفة من إرثها الكولونيالي، يمكّن من الإمساك بهذه الحكمة الأفريقية التي تمكن من التفلسف بشكل احترافي.

التفلسف أفريقيا

كان من الضروري الانطلاق من هذه المعطيات الخصوصية لبلورة مشروعية للفكر النقدي الفلسفي. وكأننا بالفلسفة في أفريقيا تنهج في بداياتها ما عرف لدينا بعلم الكلام لبلورة إرهاصات تفكير فلسفي، أي أنها تتخذ من المعطيات الثقافية الخاصة مجالًا لخلق التفاعل بين المنظورات الفلسفية المعروفة ومعطيات الحكمة المحلية. ومثلما حدث لدينا، تنطع فلاسفة من قبيل موديمبي ووايرودو، لنقد "علم الكلام الأفريقي" هذا من أجل فتح سبل جديدة لبناء فكر فلسفي تفكيكي يعارض الطابع الكوني للتفكير الفلسفي. فالفلسفة لديهم لا يمكن أن تنفصل عن شروطها الثقافية. 

بيد أن الجيل الجديد من الفلاسفة من قبيل بشير سليمان دياني، الآتي من تقليد منطقي، سوف يعيد النظر في الطابع الوطني للفلسفة. وتكمن أهمية فكر دياني في سعيه إلى إدماج "الإسلام" الأسود في سيرورة بناء الفلسفة الأفريقية ومن ثم في المكونات الأساس لهويتها الأفريقية. فالفلسفة هنا تغدو معبرًا لا معطى نسقيًا. وبشكل مغاير يسعى هونتوندجي إلى إعادة ربط الفلسفة الأفريقية بالفلسفة العالمية ليجعل منها "فلسفة مقارنة" منفتحة وتحليلية للذات والآخر. أما موديمبي وبيديما فقد دعيا لتحرير الفلسفة من الإرث الكولونيالي وإقامة الحوار مع فلسفات القارات الأخرى.

ولعل هذا الفوران القلق، هو ما جعل أغلب الفلاسفة المعاصرين، يتبنون مفاهيم الفكر ما بعد الكولونيالي واللاكولونيالي، من خلال المواجهة والتفجير للمنظورات الغربية المتوارثة، قصد خلق المسافة معها وتحييد المفاهيم الفلسفية عن مركزيتها الغربية. إن مفهوم "العبور" الذي بلوره الفيلسوف بيديما يسمح اليوم بالانزياح عن فكر الهوية وضخ دماء جديدة في التفكير الفلسفي الأفريقي. فالعبورية تعني نقد الماضوية المنحصرة في هويتها العتيقة ونقد المستقبلية المؤمنة بآت مثالي. إن فلسفة العبور هذه دعوة لبلورة الفلسفة الأفريقية باعتبارها علاقة تفكك الثنائيات والثوابت.  

إذا كان أغلب الفلاسفة المعاصرين اليوم في أفريقيا قد نهلوا مصادرهم من التقليد الفلسفي، وبعضهم يدرّس في الجامعات الغربية والأميركية، فإن القلق الفكري الذي يراودهم بصدد بناء فلسفة أفريقية تسير في اتجاهات متباينة تجعلها في الحقيقة إما فلسفات أو تصورات فلسفية أفريقية. فالحديث عن فلسفة أفريقية هنا يواجه معضلة تعدّد اللغات والتقاليد الشفهية. كما أنه يغدو بحثًا عن هوية مستعادة في وقت ينحو فيه التفكير الفلسفي إلى الشتات والتعددية ومنح الخصوبة للبين بين والبرازخ والشتات ومناطق العبور... وذلك بالضبط ما يجعل أفق الفلسفة بأفريقيا يحبل بالأسئلة العالقة والسيولة النقدية والانفتاح اللامتوقع.

  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.