}

النساء والحب وثوابت التفكير النمطي

مها حسن 1 مارس 2022
آراء النساء والحب وثوابت التفكير النمطي
مارك شاغال، 1917

 

الحب شأن نسوي!

يقول سيد القمني: الحب إيماني، والبشر في أي مكان أهلي. وفي سياق مشابه جدًا، قال الشيخ محي الدين بن عربي: أدين بدين الحب أنّى توجهت ركائبه، فالحب ديني وإيماني.

أورد هذين القولين لرجلين مختلفي الانتماء الزماني والفكري، بين القمني العلماني وابن عربي المتصوف، اللذين اتفقا على عبارة واحدة: الحب إيماني، محاولةً إخراج مفهوم الحب، من معناه العاطفي اليومي المليء بسوء الفهم وقلة التقدير، إلى معناه الأوسع، المرتبط بالكون والوجود.

ولكن، ورغم الابتذال الذي يعاني منه مفهوم الحب اليوم، عبر تشييئه، وربطه بمفاهيم أخرى منفصلة عنه، فإن أحد أهم صور ابتذاله، أو الإساءة إليه، هو ربطه بالمرأة.

حين تتحدث النساء عن الحب، يقف العالم قبالتهن مشيرًا إلى ضحالة الحكاية، ليس لضحالة الحب في عيون هؤلاء، حيث سيأخذون الأمر ببعض الاحترام إن صدر عن الرجال، ولكن لضحالة مكانة المرأة عمومًا، وكأن النساء معنيات بالكلام عن الحب، تمامًا كما هنّ مختصات بالمطبخ، وإنجاب الأولاد، بنظرة استعلائية من عالم الرجال.

في بدايات وصولي إلى فرنسا، وأنا أتحدث مع رجل فرنسي وأخبره بأنني روائية، قال لي على الفور: تكتبين قصص الحب؟ كان كلامه يشبه بطريقة ما، كلام الأب الذي ينظر إلى ابنته، وسط مجموعة أولاده الذكور، فيقول لها: فين الشاي؟

الحب اختصاص النساء إذن، نقطة ضعفهن وهشاشتهن، بل والمنطقة التي نسيطر عليهن عبرها، هكذا يفكر المجتمع الذكوري، في العالم برمته، في غربه وشرقه. ولذا راجت مفاهيم عن الكتابة السيئة أيضًا، ليتم فرز أدب الرجال، عما يدعونه بالأدب النسوي.

تُعرّف الكثير من الكاتبات الغربيات هذا الأدب على أنه الأدب القاصر، الناقص، الهش. ويروج له نساء ورجال في العالم، لتتطابق مواقفهم في توجيه النساء للكتابة عن "الحب" بوصفه اشتغالًا سطحيًا وتافهًا، كما يتم توجيهها باستعلاء صوب المطبخ.

حتى وإن كان أكبر أبطال قصص الحب الشهيرة من الرجال: قيس، روميو، وغيرهما، وإن كان أيضًا أكبر نجوم الطبخ في العالم من الرجال، فإن النظرة اليومية، البديهية، للمرأة التي تتحدث عن الحب، هي نظرة فوقية تضع المرأة في خانة المشاعر التي لا ترقى لتكون في منصب مهم أو تتولى مسؤوليات متعلقة بالعقل والفكر.

الكاتبات والحب

بسبب هذه النظرة المُقللة من شأن المرأة التي تتحدث عن الحب، تم بطريقة ما تسويق صورة الكاتبة التي تتطرق للحب، على أنها صاحبة نص ضعيف، وهذا الكلام للأمانة يحمل بعض الصحّة، حيث استسهلت الكتابة كثيرات من النساء اللاتي لا تربطهن بالكتابة علاقة إبداعية عميقة، جئن إلى الأدب من باب تصفية الحسابات مع قصص الحب الفاشلة في حيواتهن، أو بسبب الرغبة في استعراض حضورهن كنساء يجلبن الاهتمام لا لنصوصهن بل لشخصياتهن، فظهرت نصوص ضحلة، كرّست النظرة الدونية لعلاقة الكاتبة مع الحب، بل وظهرت مطالبات مُتفق عليها، بمثابة شيفرات جماعية، تطالب المرأة بالكتابة في هذا الحقل، وتطبطب عليها، بغية الاستحواذ الرجالي على صورة الأدب الجادة، التي تبحث في ثيمات أخرى، غير الحب بالتأكيد.

تُعتبر رابعة العدوية أول من أدخل مفهوم الحب الإلهي في التصوف الإسلامي، حتى أنها دُعيت بـ"إمامة العاشقين"



هذا النوع من الكاتبات، الناقمات على الرجال، أو الغاويات للرجال، وضعن غيرهن من الكاتبات في خانة تأثيم تناول الحب في الأدب، كنوع من الطهرانية غير العادلة وغير المحقّة، التي اختارت المرأة الكاتبة الجادة الاشتغال عليها، وتعاملت مع موضوع الحب، كأنه من اختصاص غيرها من النساء الكاتبات المختصات بهذا الشأن، فخرجت بهذا الكتابة عن الحب، كحق للجميع، من رجال علمانيين أو متدينين أو لا أدريين، رومانسيين أو حتى مكتئبين، لتصبح في مجال النساء، محصورة بفئة جاهزة، خاصة في عالمنا العربي، اختارت هذه الكتابة، كطريقة للشهرة والضوء، لا كاشتغال حقيقي وجاد على الحب كمفهوم فكري أيضًا، كما اشتغلت عليه الكاتبات الغربيات بحرية، دون التعرض لخطر التبويب، كما فعلت حنه أرندت في كتابها "الحب عند أوغسطين"، الذي يُعتبر من أهم الشخصيات المؤثرة في المسيحية الغربية.

في العالم العربي، قديمًا، اشتغلت النساء على مفهوم الحب، قبل أن تأتي الحداثة المقولبة لهذه الاشتغالات التي تقوم بها المرأة، حيث يحضرني مثال رابعة العدوية التي تُعتبر أول من أدخل مفهوم الحب الإلهي في التصوف الإسلامي، حتى أنها دُعيت بإمامة العاشقين، وقصيدتها التي تُلحن وتُغنى حتى اليوم:

عَرَفْتُ الهَوى مُذ عَرَفْتُ هواك
وأغْلَقْتُ قَلْبي عَلىٰ مَنْ عَاداكْ
وقُمْتُ اُناجِيـكَ يا مَن تـَرىٰ
خَفايا القُلُوبِ ولَسْنا نراك
أحِبُكَ حُبَيْنِ حُبَ الهَـوىٰ
وحُبْــًا لأنَكَ أهْـل ٌ لـِذَاك 

لا تزال من أكثر قصائد المتصوفة رواجًا.

كتابتي والحب

انشغلت دائمًا بهموم أوسع من تلك المتعلقة بالحب، غالبًا بسبب ولادتي في منطقة مزدحمة بإشكاليات كبيرة، يتعرض لها المرء منذ ولادته، وحين يكون أحدنا امرأة، فإن هذه التعقيدات تكثر حولها. لذلك كنت مهمومة بالكتابة عن عوالم يتسلل إليها الحب أحيانًا، دون أن يكون القصة المركزية للرواية.

ولكن في العمق، كانت تلك الطاقة العجيبة التي تدعى الحب، أحد الأسباب التي أخذتني إلى عالم الكتابة، لأنني أحب الناس، ولأنني أجدني معنية بهم وبمشاكلهم، ولأنني توّاقة، برأس باحث عن الحلول، في العثور على صيغ مُطمئِنة لهؤلاء الناس، صرت أكتب.

من المفارقات التي تحدث معي، وأنا أكتب بحب حقيقي، فأنسى أحيانًا أنني صانعة هذه القصة وشخصياتها، لكنني أتعلق بأبطالي.. أحاول أن أكون موضوعية، كالأمهات، فأحب جميع هؤلاء الشخوص، من رجال ونساء، من طيبين أو أشرار، لكن ميلي صوب البطل الذي أشتغل على تفاصيله العميقة أكثر، لأن حالته تكون مركزية في الرواية، تجعلني أشعر صوبه، كأنه صار جزءًا من حياتي الواقعية، وأشعر بألم حقيقي، حين أنتهي من الرواية، وأرسلها إلى النشر، كأنني فقدت علاقة جميلة كانت تدفئني وتملؤني بمشاعر خاصة ومميزة..

أعيش إحساس الفقدان بعد انتهاء الرواية. ويحصل أنه بعد مرور وقت قد يطول أحيانًا، بين زمن إرسال الرواية للنشر، وزمن توزيعها في الأسواق ووصولها إلى القراء، وخاصة حين يكتب أحدهم عن بطلي ذاك، أستعيد كل المشاعر التي عشتها أثناء الكتابة، كأنني أستعيد حبًا مفقودًا، أرتبك في التصرف إزائه.

لا أعرف إذا كان الكتاب الرجال يعيشون هذه المشاعر صوب أبطال رواياتهم، وبالتحديد صوب الشخصيات النسائية، وهذا باعتقادي دور النقد. لكنني أعرف جيدًا، بأن الحب الذي أشعر به صوب أبطالي، وخاصة حين أبدأ بنحت ملامحهم النفسية والجسدية والفكرية، وأراقبهم وهم يكبرون في النص، وتتضح معالمهم، فإن حبي صوبهم، يفوق مشاعري نحو البشر الحقيقيين على الأرض. وأعتقد بالتالي، أن هذه الطاقة الغامضة، التي تتولد بيني وبين البطل، هي مصدر مهم، غير مقصود بالتأكيد، ليقع القارئ لاحقًا في حب هذه الشخصية..

من القصص المهمة التي حدثت معي، أن قارئًا وقع في حب صوفي بيران بطلة روايتي "حبل سري"، وكان يقرأ الرواية في سورية، ويكتب لي وأنا في فرنسا، بأنه كلما توقف على إشارة مرور، تفقّد السيارات حوله، باحثًا عن سيارة بيجو كحلي، تقودها صوفي، ليلوح لها بيده.

قارئ آخر حدّثني كيف راح يحكي لأمه الأمية قصة بطلتي ريما، في رواية "مترو حلب"، فراحت أمه تبكي قائلة : مسكينة هذه الصبية كم تعذبت في حياتها!

تلك الرسائل، وغيرها، مما يصلني حتى اليوم، يمدّ حبلًا غير مرئي، من الحب، بيني وبين أبطالي، بين أبطالي والقراء، وبيني وبين القراء... فهل سيصدمني أحدهم بالقول غدًا: إن هذه أفكار ومشاعر كاتبة امرأة، ويصنفني بأنني نسوية الكتابة.


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.