}

جودت سعيد.. من غاندي سورية إلى غاندي العرب

نبيل سليمان 15 مايو 2022
آراء جودت سعيد.. من غاندي سورية إلى غاندي العرب
جودت سعيد (1931 ـ 2022)

رحل جودت سعيد عن واحد وتسعين عامًا في 30 يناير/ كانون الثاني الماضي، في إسطنبول، وهو من تعدّدت ألقابه وتناقضت: غاندي العربي، أو غاندي العرب ـ وهو اللقب الذي طالما أسعده ـ وشاع بعد 2011 لقبه: غاندي السوري، أو غاندي سورية، وعُرِفَ أيضًا بالمفكر الإسلامي، والمفكر العلماني، وداعية اللاعنف، والداعية الإسلامي، والمعارض للنظام السوري. ومن المعارضة السورية من رأى في (غاندية) جودت سعيد ودعوته إلى السلمية خدمةً للنظام.

عرفتُ جودت سعيد أول مرة عبر كتابه "مذهب ابن آدم الأول أو مشكلة العنف في العمل الإسلامي"، وأنا بعدُ طالبٌ في جامعة دمشق. وكان ما دفعني إلى الكتاب هو الدويّ الذي خلّفته اضطرابات مدينة حماة عام 1964، وبخاصة قصف مئذنة وقبة جامع السلطان، وما تردّد من الحديث عن دورٍ للإخوان المسلمين في ما جرى في حماة، وفي حمص، ودمشق أيضًا.
استهواني الكتاب الأول لجودت سعيد، كما استهواني كتاب "الفكر الأدبي، أصوله ومناهجه" لسيد قطب (1906 ـ 1966). وكان ما أقرأ في تلك الفترة يميل بي من الوجودية إلى الماركسية والقومية، ومن القومية بخاصة إلى الناصرية. وبالتالي، بقدر ما كنت معجبًا بكتاب سيد قطب، كنت ضد الإخوان المسلمين في صراعهم مع الناصرية.
وقد قرأت الكتاب الأول لجودت سعيد على وقع ذلك، وعلى وقع أحداث 1964 في سورية، حيث جلجل اسم مروان حديد (1934 ـ 1976)، الذي حُكم عليه بالإعدام، ونجا من الحكم بفضل سعي الشيخ محمد الحامد. وسوف يجلجل اسم مروان حديد بعد عقد كمؤسس وقائد للطليعة المقاتلة، وكداعية إلى القتال ضد السلطة البعثية. ولئن كان مروان حديد قد اعتُقِل عام 1975، وتوفي في المعتقل بعد سنة، فقد تفاقم الصراع بين السلطة والإخوان المسلمين، حتى كانت مجزرة حماة الشهيرة عام 1982.




عبر تلك السنين، كانت تحضر أعلى فأعلى أصداء دعوة جودت سعيد إلى السلمية، ونبذه للعنف، في كتابه الأول الذي تردد أنه كتبه في مواجهة عنفية الإخوان المسلمين. وقد نسيت ذلك الكتاب وصاحبه من بعد حتى ذكرني به الصديق الراحل بوعلي ياسين (1942 ـ 2000) قبيل رحيله، وكان قد قرأ له كتابيه "رياح التغيير" (1995)، و"كن كابن آدم" (1997). غير أني لم أقرأ الكتابين، ولا سواهما من مؤلفات جودت سعيد إلا بعد أن عرفته ثانية، وهذه المرة وجهًا لوجه، في مؤتمر سميراميس الذي انعقد في دمشق في 27/6/2011، وشاركتْ فيه شخصيات معارضة كثيرة، منهم جودت سعيد، وميشيل كيلو، ولؤي حسين، وشوقي بغدادي، وسلامة كيلة، وفايز سارة، وحسان عباس، وفدوى سليمان، وآخرون منهم كاتب هذه السطور. ومن المعلوم أن هذا المؤتمر نال من السخط حدّ التخوين، ما ناله من النظام، وممّن عدّوه في المعارضة محاولةً لإضفاء الشرعية على النظام.



كان صوت جودت سعيد قد صدح بالسلمية خلال الشهور الثلاثة السابقة للمؤتمر، وسيظل يعلو، مثل صوت رزان زيتونة (1977 ـ 2013 تاريخ اختفائها) وطيب تيزيني (1934 ـ 2019)، وباسل شحادة (1984 ـ 2012)، وغياث مطر (1986 ـ 2011)، وسواهم.
وها هو في مؤتمر سميراميس يتّقد في سنواته الثمانين، ويبدي ويعيد في السلمية، كأنما هو في ساحة الأمويين حاملًا لافتته: (لا للعنف.. ولا لقتل المتظاهرين.. ونعم للثورة السلمية). ها هو معتمرًا القلبق (القبعة) الشركسي الذي لا يهديه الشركسي، كما لا يهدي حصانه، ولا سلاحه. ها هو وقد اعتُقل ولداه، وقُتِل شقيقه، يقذفه العنف إلى تركيا. ها هو يودع الأجيال القادمة أمانتَه التي ثقُلتْ كتابًا بعد كتاب: (الإسلام والغرب والديمقراطية ـ الإنسان حين يكون كلًا وعدلًا ـ اقرأ وربك الأكرم ـ حتى يغيروا ما بأنفسهم...).
وها أنذا ألقاه مرةً فمرةً بعد 30 يناير/ كانون الثاني الماضي، فيحدثني عن بئر عجم ـ قريته/ بلدته ـ الجولانية، عن بيته، والحجر البازلتي، وقرميد الأسطحة الحمراء، عن البلوط، والزعرور، والسنديان، والتفاح، والخوخ، والثعالب، والخنازير، عن شركس القفقاس الذين زينوا الفسيفساء السورية. وأحدثه عن بئر عجم على عهد أبيه وجده: الأمطار تجعل أرضها لا تصلح إلا للذرة البيضاء أو الصفراء، ثيرانها التي يجر واحدها عشرة محاريث، لأنها مخصية، بناتها أجمل البنات الجولانيات والسوريات، والشركسية للشركسي، وليست للغريب و.. وأقدم له نسخة من الجزء الثاني "بنات نعش" من رواية "مدارات الشرق"، ثم أقدم له نسخة من رواية "هزائم مبكرة"، وأتمتم خجلًا: كرمى لك يا سيدي حضر الشركسي وحضرت الشركسية في هاتين الروايتين، فيبتسم ويطوّف ذراعه حول بيته وقد عاد إليه بعد حرب 1973، ورممه، وزنّره بخلايا النحل، وفجأة: هو ذا مشرد عن بئر عجم من جديد، كأن لم يكفه التشرد أول مرة بفعل هزيمة 1967.




فجأة، كأنما أصحو من منام، أعود وحيدًا، فألجأ إلى المكتبة، لأرى جودت سعيد طالبًا يدرس على يدي مالك بن نبي (1905 ـ 1973)، فألوّح بكتاب المعلم الجزائري "شروط النهضة"، بترجمة عمر كامل مسقاوي، وعبد الصبور شاهين، الذي قاد حملة تكفير نصر حامد أبو زيد. وألوّح بكتاب المعلم الباكستاني محمد إقبال (1877 ـ 1938) "تجديد التفكير الديني في الإسلام"، بترجمة عباس محمود العقاد. وينتأ في المكتبة كتاب "النزعة المادية في العالم الإسلامي: نقد كتابات جودت سعيد ـ محمد إقبال ـ محمد شحرور"، لعادل التل، الذي ينعت جودت سعيد بالشركسي المسلم، وبالشيخ الأحمر، ويحكم بانتمائه إلى الفكر المادي، وبأنه داعية إلى هذا الفكر. حسنًا، ولكن هذا كتاب إبراهيم محمود "الهجرة إلى الإسلام: حول العالم الفكري لجودت سعيد" يتحدث عن نموذج إنساني متميز ومتوحد مع ذاته، ومتفاعل مع أفكاره في تجليها الإنساني الكوني، من موقف إسلامي نادر في بساطة أفكاره وجدية أطاريحه.
كيف فاتني أن أقرأ هذا الكتاب الذي صدر منذ عام 1995، على الرغم من كل ما يصل بيني وبين إبراهيم محمود منذ عقود؟
حسنًا. ما دمت في ملجأي ليل نهار منذ عقود، سأدع المفكر الإسلامي العراقي، عبد الجبار الرفاعي، يتحدّث عن "موت الحرب" عند جودت سعيد، فيأخذ عليه أنه لم يتنبه في كتاباته لبواعث العنف الكامنة في النفس الإنسانية، ولم يتحدث عن التمثيلات الرمزية للعنف. وشعار "موت الحرب" بالتالي ليس واقعيًا، غير أنه يكشف عن تشبع روح جودت سعيد بالسلام في باطنه وظاهره، ويعبر عن أمانيه الإنسانية المتفائلة. ويمضي هذا الصديق الذي أبرمت وباركت صداقتنا تونس منذ سنوات، إلى أن جودت سعيد انتقائي، وانتقائيته تفتقر إلى بناء رؤية شاملة.
وبالمناسبة، عبد الجبار الرفاعي مؤسس ورئيس تحرير مجلة "قضايا إسلامية"، ومن كتبه: "الدين.. الكرامة.. الإنسانية"، و"مقدمة في علم الكلام الجديد"، وقد أربكني قوله في جودت سعيد، ربما لأنني أستبطن كما أعلن: السلمية أولًا وأخيرًا، من دون أن أغفل عن الإكراهات التي تحفّ بالسلمية والغاندية السورية، أو العربية، أو في أي فضاء آخر، وزمن آخر.

مقالات اخرى للكاتب

استعادات
1 مايو 2024
استعادات
15 أبريل 2024
يوميات
31 مارس 2024
آراء
15 مارس 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.