}

الترجمة كولادة ثانية في لغة أخرى

جمال شحيّد جمال شحيّد 28 يونيو 2022
آراء الترجمة كولادة ثانية في لغة أخرى
(Getty Images)

 

منذ قرابة أربعين عامًا وأنا أتعاطى مهنة الترجمة ممارسةً وتدريسًا. زادت حصيلة الكتب التي ترجمتُها على ثلاثين كتابًا، منها كتابان ترجمتهما من العربية إلى الفرنسية مع المستشرق الراحل ميشيل بوريزي، وهما "السفينة" لجبرا إبراهيم جبرا (منشورات اليونسكو ودار لاركانتير، 1997) و"بريد بيروت" لحنان الشيخ (دار آكت سود، 1995). ومعظم الكتب التي ترجمتها فكرية وفلسفية وأدبية ونقدية، واقترحتْها عليّ دور نشر أو منظمات أو منتديات، واقترحتُ أنا ترجمة بعضها.

وشاركتُ في عشرات من المؤتمرات الخاصة بالترجمة في عدد من البلدان العربية والأجنبية (جُمعَتْ لاحقًا في كتاب عنوانه "تقاسيم ترجمية" صدر عن وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، عام 2021).

وعام 2017 فزتُ بجائزة الشيخ حمد للترجمة عن كتاب "المسرّات والأيام" لمارسيل بروست.

ومن الكتب التي ترجمتها كتاب "بين الأسطورة والسياسة" لجان بيير فرنان (دمشق، الأهالي، 1999)، و"رحلة إلى الشرق" لألفونس دي لامارتين (الكويت، مؤسسة البابطين، 2006)، و"المفكرون الأحرار في الإسلام" لدومينيك أورفوا (بيروت، الساقي، 2008)، و"تاريخ الجمال" لجورج فيغاريللو (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2011)، وجزآن من موسوعة "الطريقة La Méthode" لإدغار موران، وهما "معرفة المعرفة"، و"الأفكار" (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2012)، و"السينما الحركة" و"السينما الصورة" لجيل دولوز (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2014، 2015)، و"أصول الفكر الإغريقي" لجان بيير فرنان (المنامة، هيئة البحرين للثقافة والآثار، 2016)، و"الذاكرة والتاريخ" لجاك لوغوف (بيروت، مؤسسة ترجمان، 2017) و"تخوم الأخيولة" لجاك رانسيير (بيروت، دار الفارابي، 2021) هذا بالإضافة إلى الجزأين الأخيرين من سباعية بروست التي أعدتُ نشرها بالكامل لصالح دار الجمل في بيروت عام 2019، وصدرت بـ4000 صفحة.

من ترجمات كاتب المقال 



أرى أن الترجمة ليست نقلًا لغويًا من لغة إلى أخرى فحسب، بل "تتطلب المعرفة اللغوية الواسعة والقدرة على التعلّم وعلى البحث والتنقيب وحب الاطلاع والاجتهاد المتواصل والأمانة والاختيار المستنير والضمير المهني اليقظ"، كما قال محمد الديداوي (1). ويتضمن النص المصدر مجموعة من الأفكار والتوصيفات والعبارات الخاصة والتلميحات والموضوعات المرتبطة بالحياة المادية والفكرية والسياسية والأدبية والتاريخية والدينية والإنسانية، ويقتضي هذا من المترجم معرفة بالزمان والمكان والعادات والحيثيات، مما يدفع المترجم إلى التنقيب والتأني. فينبغي على المترجم مثلًا أن يعرف أن وزارة الدفاع كانت في الماضي وزارة الجهادية الحربية، وأن الحرب الكبرى هي الحرب العالمية الأولى.

ويجب عليه أن يدرك المعنى المقصود ببعض العبارات فيترجم Payer en monnaie de singe بـ"أكل عليه دينه" وAttendre la saint Glinglin بـ "انتظر دون طائل"، و Attendez-moi sous l'orme للدلالة على موعد خلّبي، و Etre l'avocat du diable [محامي الشيطان، أو استلام القضايا الشائكة]... وعلى المترجم اللبيب أن يكون منفتحًا على التطور اللغوي والثقافي. ففي بدايات الترجمة العباسية، نُقلت بعض الكلمات اليونانية بحرفيتها إلى اللغة العربية كـ"بويطيقيا" و"أتيغورياس" و"أرثماتيكا" و"إيساغوجي"... ولكنّها عُرّبت لاحقًا إلى "الشعرية" و"المقولات العشر" و"علم الحساب" و"المدخل". عليه أن يعاير ترجمته مع التطور اللغوي المعاصر: فمع طرافة عبارة "الأيس والليس" نفضّل الآن استعمال عبارة "الوجود والعدم". لقد أورد الطهطاوي في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" (1835) كلمة "سبكتاكل" [وجمعها "سبكتاكلات"] لأن كلمة مسرح لم تكن معروفة آنذاك مع العلم أنها مرّت قبل ذلك بكلمة "مرسح". وبسبب الجهود المبذولة في العصر الحديث، انتقل المترجمون من كلمة "خطاطة" و"إسكيمة" إلى "ترسيمة" لترجمة schéma. ويرى الأستاذ علي القاسمي في كتابه "علم المصطلح" (بيروت، مكتبة لبنان ناشرون، 2008) أن "الترجمة تعمل على إحداث نهضة ثقافية واقتصادية وأن هناك تناسبًا بين التقدم الحضاري وكمية الترجمة. البلدان التي تترجم أكثر هي التي تحقق تقدّمًا أكبر؛ وأغنى عصور الفكر هي التي تزدهر فيها الترجمة وتتوسّع" (ص 140). ويرى أن بغداد العباسية أصبحت عاصمة الدنيا لقرنين من الزمن بسبب الترجمة أساسًا. ولكن كمية المترجمات الآن في ديار العرب ما زالت متواضعة "فلا يتجاوز المعدّل كتابًا واحدًا لكل مليون نسمة، وحوالي 200 كتاب لكل مليون نسمة في إسبانيا" (ص 147). ويضيف بشيء من الحسرة أن ما ترجمه العرب منذ عصر المأمون حتى اليوم لا يتعدى عشرة آلاف كتاب "وهو أقل مما تترجمه إسبانيا في سنة واحدة" (ص 147).


والمترجم الحصيف يأخذ بعين الاعتبار الاختلافات الثقافية/الاجتماعية، ويجد نفسه أحيانًا أمام مآزق كثيرة في إيجاد المعادل الترجمي. في الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، يستعملون concert و fugue و contrepoint، وترجمتها القواميس الفرنسية العربية بصورة هزيلة، فترجمها "قاموس عبد النور" بـ"طباق" و"تسلسل" و"حفلة موسيقية" وقاموس "المنهل" بـ"طباق وطباقية" و"تتابع" و"حفلة موسيقية وتناغم في الأصوات أو الآلات"، وقاموس "المنجد الكبير" بـ"معزوفة طباقية" و"مقطوعة الهروب" و"حفلة موسيقية". وفي أوساط الموسيقيين العرب يستعملون "كونتربوان" و"فوغ" و"حفلة موسيقية". وإذا انتقلنا إلى أحوال الطقس لوجدنا أن اللغات غنية في بعض المجالات وفقيرة في غيرها. لقد أورد جورج مونان في كتابه "المشاكل النظرية للترجمة" حوالي 20 مفردة في اللغة الفرنسية للدلالة على أنواع الثلوج. فكيف يسعنا أن نترجمها إلى العربية دون عناء؟ وكذلك نجد حوالي 50 نوعًا من الخبز في الفرنسية، وحوالي 400 مفردة عربية للدلالة على أنواع التمور، وحوالي 40 مفردة للدلالة على حركات لعبة الشيش، فكيف نجد لها كلها معادلات في الترجمة. لقد أورد رفائيل نخلة اليسوعي في كتابه "غرائب اللغة العربية"(2) عشرات الكلمات للدلالة على الأصوات أذكر بعضها للتفكه: تعتع، تختخ، تغتغ، ثغثغ، عطعط، تمتم، جمجم، غمغم، لثلث، لجلج، رجرج، بقبق، بربر، ثرثر، وشوش، همهم، نحنح، خنخن، دمدم... وورد في كتاب "الساق على الساق في ما هو الفارياق" لأحمد فارس الشدياق مجموعات كبرى من الألاعيب اللغوية والمرادفات التي اكتفى مترجم الكتاب رينيه خوّام بترجمة جزء يسير منها. مثلًا يتكلّم الشدياق عن الطريقة التي كان رجال طائفة دينية في لبنان يتناولون طعامهم، قال: "كانوا إذا قعدوا للطعام سمعتَ زمزمة وهمهمة وقحطحة وطمطمة. فخلتَهم وحوشًا على جيفة يترملون ويرهطون وينهسون ويتعرّقون ويتمشّشون ويَلْمُظون ويلوسون ويلطّعون ويتنطعون" (3). وعلى الرغم من أن المترجم اكتفى بإيجاد بعض المعادلات دون استيفائها يبقى كتاب "الساق على الساق..." من أروع ما كُتب في العربية إبان القرن التاسع عشر. ويرى المستشرق الفرنسي ماتياس إينار، الحائز على جائزة غونكور لعام 2015، أن أهم كتابين صدرا في ذلك القرن هما "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي" لغوته وكتاب "الساق على الساق" للشدياق (4).

توقّف أمبرتو إيكو عند مسألة الألوان التي تبدو دلالاتها شديدة التعقيد مذ تناولها الكاتب اللاتيني أولو جيلو Aulu Gello إبان القرن الثاني للميلاد في كتابه الموسوعي "الليالي الأتيكية" Noctes Atticae 



وتشكّل الشتائم والمسبات التي تزخر بها بعض الروايات الحديثة، صعوبة ترجمية، لأن بعض موضوعاتها يختلف من لغة إلى أخرى ومن عصر إلى آخر. فالشتائم التي وردت في بطون الكتب الأموية والعباسية تبدو محتشمة مقارنة بما هي عليه في الأدب العربي الحديث. فمن يريد أن يأخذ فكرة عن الشتائم الجنسية الحديثة، يجد ضالّته مثلًا في رواية "هياج الأوز" للكاتب السوري الكردي سليم بركات (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2010).  

وتوقّف أمبرتو إيكو عند مسألة الألوان التي تبدو دلالاتها شديدة التعقيد مذ تناولها الكاتب اللاتيني أولو جيلو Aulu Gello إبان القرن الثاني للميلاد في كتابه الموسوعي "الليالي الأتيكية" Noctes Atticae. قال إيكو: "إن طريقة تمييز الألوان وتجزئتها وتنظيمها تتغير من ثقافة إلى ثقافة... ويبدو من الصعب أن نترجم الألوان بين لغات بعيدة في الزمن أو بين حضارات مختلفة" (5). ورأى أن الألوان تشكّل مسألة ثقافية وليست فيزيائية فقط، وأن اللغة الإنكليزية تحتوي على 3000 لفظة تدل على الألوان. فينبغي على المترجم العربي في هذه الحالة أن يلجأ إلى مقولتي "التدرجات" و"الأطياف" للتعويض عن الخسائر المعجمية.

أثناء ترجمتي للجزأين الأخيرين من سباعية بروست، اعترضتني صعوبات عديدة. كنت أقع أحيانًا على جمل طويلة تبلغ 35 سطرًا، فأحار في البداية من أين أبدأ، مما اضطرني إلى قراءة الجملة الطويلة مرتين وثلاثًا. وبعامة كنت أقطّع هذه الجمل العملاقة إلى جملتين أو أكثر. وكانت أحيانًا تعترضني صعوبات لتحديد عائد الضمير il leur a dit قال لهم أو قال لهنّ أو قال لهما (بالمذكّر والمؤنث). وعندما كان النص يتقبّل أكثر من تأويل، كنت أتوقّف وأمايز بين التأويلات، وأختار في المحصّلة تأويلًا آمل أن يكون الأفضل والأنجح. أما الصعوبات المتمثّلة بالحالات التاريخية أو الفنية أو الفكرية أو الحضارية بعامة فكنت أحلها بالعودة إلى القواميس والموسوعات والمراجع المختصة. وأعترف بأنني استفدت كثيرًا من طبعة لابلياد للسباعية التي تمت بإشراف شيخ البروستييّن في العالم جان إيف تادييه. فبالإضافة إلى الكتب الثمانية التي ألفها تادييه عن بروست، أتى متن نص السباعية في سلسلة لابلياد بـ3054 صفحة، واحتلت الحواشي والتعليقات والشروح 4118 صفحة، وجاءت لابلياد في أجزائها الأربعة بـ7172 صفحة؛ وتضاهي من حيث الدقة والمنهجية العلمية الكتب المقدسة التي اشتغل عليها الباحثون الدينيون على مدى العصور. وإزاء بعض الجمل العويصة أو الضبابية، كنت أسأل عنها أصدقائي الفرنسيين الباحثين في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى حيث كنت أعمل، ولدهشتي قلّما كانوا يجدون حلًا مقنعًا؛ وكنت ألجأ إلى تشجير الجمل وجدولتها وأستقر من ثمّ على مخرج أراه أكثر منطقية من غيره.

تفنّن بروست في صياغة جملته، فتارة هي حلزونية وإهليلجية، وتارة هي مستقيمة دون تعرّج، وطورًا هي جرفية تشبه تضاريس أرض تَركت فيها البراكينُ والزلازل كثيرًا من النتوءات والمهاوي. فتقف في البداية أمامها مشدوهًا فاغر الفم، ثم – إن حظيتَ بمفتاح الجملة ومغاليقها  -تنفتح أمامك كنوزها. ما جعلني أقْدِم على ترجمته إلى لغتنا هو إعجابي بعبقرية هذا الرجل الذي سمّاه الناقد الإيطالي جيوفاني ماشيا Giovanni Macchia بـ"ملاك الليل" (صدر بالفرنسية عام 1993). خلال الثلاثة عشر عامًا التي انكبّ فيها بروست على كتابة سباعيته، حاول أن يبني رؤية للعالم انطلاقًا من زئبقية الزمن واندثاره. وكانت هذه الرؤية مشهدية تشبه رؤية الرسّام الذي يوظّف في جداريته الفسيحة آلاف الترييشات التي لا يتجلّى بهاؤها إلا بعد إنجاز الجدارية. وعلى الرغم من الثغرات الصغيرة التي لم يستطع تلافيها، بسبب وفاته المبكّرة (51 سنة)، أتى برائعة من أبهى الروائع العالمية. يقول تادييه الآنف الذكر إن الإنكليز عندهم شكسبير، والألمان غوته، والروس دوستويفسكي، والإيطاليون دانتي، والإسبان ثيربانتس، أما الفرنسيون فعندهم بروست.

خلال الثلاثة عشر عامًا التي انكبّ فيها بروست على كتابة سباعيته، حاول أن يبني رؤية للعالم انطلاقًا من زئبقية الزمن واندثاره



النصوص الشائكة

كثيرًا ما يتهرّب المترجمون من النصوص الشائكة، لأنها غير مجزية ماديًا وتستهلك وقتًا طويلًا؛ ولكنّها تمثّل تحديًا يستمرئه المترجم المقدام، حتى وإن مُنيت ببعض الخسائر، لأن الترجمة في جميع الأحوال لا تصل إلى قول الشيء ذاته بشكل كامل، كما يقول أمبرتو إيكو في كتابه الآنف الذكر "أن نقول الشيء نفسه تقريبًا". الترجمة ولادة ثانية في لغة أخرى، دون أن تكون استنساخًا. وتكمن وعورة بعض النصوص في المفردات المستحدثة (كما حصل لي في معنى كلمة "اجتياف" introjection التي تعني التماهي مع الحالات النفسية الخارجية)؛ وتكمن أيضًا في الجمل المتاهية والسديمية التي يتشتت فيها المعنى وينتثر، كما في الـdissémination لجاك دريدا. ويتكلّم بعضهم عن النصوص العصيّة على الترجمة les intraduisibles، كما في الترجمة الشعرية. وهذا يدفعني إلى القول إن الترجمة الأدبية الكاملة الأوصاف وهم. قد يؤدي المترجمون الكبار في الأدب حوالي 95% من المتن الأصلي، ولكنّهم يعوّضون عن خسارة الـ5% الباقية بإضافة بعض الحواشي التوضيحية. وأعطى إيكو بعض الأمثلة عن الخسارة والتعويض في كتابه الصغير "تأملات في اسم الوردة"، ترجمة سعيد الغانمي ومراجعة أحمد الصمعي (بيروت، دار الكتاب الجديد، 2013). وهذا ما ورد في نص دريدا La traduction relevante (الترجمة الوجيهة). وهذا ما أورده دومينيك ڤولتون في كتابه L'autre mondialisation ("العولمة الأخرى") إذ قال: "اللغة ليست مجموعة من الكلمات، هي أيضًا وبخاصة طريقة في التفكير والحلم والتخيّل ورؤية العالم. لا يحقق الناس تداعيات الأفكار ذاتها، ولا التركيبات الذهنية والتفكرات نفسَها، لأنها تختلف من لغة لأخرى" (6).

ولا بدّ في الترجمة الأدبية الناجحة من معايرة النص المترجَم مع النص الأصلي، دون تصنّع أو تحذلق. تقول القاعدة الذهبية: ينبغي المحافظة على مستوى الأسلوب الأصلي ونبرته؛ فلا يختار المترجم أسلوبًا مقعّرًا ومفصّحًا لنص حديث كُتب بأسلوب صحافي وعلمي، ظنًا منه أن نبش أوابد اللغة في القواميس العتيقة يجعل الناس يعترفون بطول باعه في لغة السلف الصالح، فيفقد النص بالتالي طبيعيته وسلاسته. أما إذا كان النص الأصلي مجلّلًا بمهابة القرون ويحمل لغة معتّقة، فلا بد للمترجم في هذه الحالة من نقل هذا الحوار الجليل إلى اللغة المترجَم إليها، ولكن دون إسفاف أو تحذلق. وهذا ما فعله المستشرق أندريه ميكيل في ترجمته "كتاب الاعتبار" لأسامة بن منقذ (7). فالعربية شأنها شأن باقي اللغات الحيّة، لغة تتطور. ولكن المستشرق الفرنسي أندريه رومان – وقبله المستشرق ريجيس بلاشير – يعتبر أن هذه اللغة بلغت أوجها في القرن الرابع الهجري ثم تراجعت وما زالت تتراجع. لقد وضع رومان كتابًا عنوانه "نظرية الترجمة الأدبية من الفرنسية إلى العربية وممارستها" (8) أدرج فيه 55 نصًا فرنسيًا تمتد من القرن السابع عشر وحتى القرن العشرين لمشاهير الكتّاب الفرنسيين. والغريب أنه يبدأ ترجمة عدد من النصوص بحرف ف، ويستبعد علامات الوقف في ترجمته، مسترشدًا بنصوص السلف الصالح. ويخترع لنا كلمات موجودة في قاموس كازيميرسكي، مثل "الصباغة" بدل "المصبغة" لترجمة teinturerie. ويترجم curiosité si aveugle بـ"رغبة في الاطلاع تذهب بهم العُمَّيْهى"، ويترجم كلمة brigands عند بول كلوديل بـ"العيارين" العباسية، وعنوان الجزء الثاني من سباعية بروست بـ"في ظل البيض أغصان الصبا الأغيد" بدل "في ظلال ربيع الفتيات"... ويريد في ترجمته هذه النصوص الحديثة أن يُظهر للعرب أنه يمتلك ناصية اللغة العربية وأنه يصول ويجول في صرفها ونحوها وبيانها وبديعها وبلاغتها وجزالتها وطباقها وجناسها، ناسيًا أن لغتنا الشريفة اقتربت من لغة الحياة ومالت إلى البساطة ورونق التطور والحداثة. العربية التي يتكلمها نصف مليار إنسان والتي تحتل المرتبة الخامسة بين اللغات المعتمدة في منظمة الأمم المتحدة لن تموت في هذه العمَّيْهى.

إن تجربتي في الترجمة نابعة من سنوات التدريس الطويلة التي أمضيتها في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، ومن الكتب الفكرية والأدبية الكثيرة التي نقلتها إلى العربية والفرنسية. وأسترشد في هذه المهنة بتصريح خوسيه ساراماغو الذي قال إن الكتّاب يصنعون الأدب المحلي، أما المترجمون فيصنعون الأدب العالمي.  

(*) نصّ مداخلة قدمت في معرض الرباط الدولي للكتاب الذي أقيم مؤخرًا في العاصمة المغربية.

هوامش:

1. محمد الديداوي: "الترجمة والتعريب. بين اللغة البيانية واللغة الحاسوبية"، بيروت/الرباط، المركز الثقافي العربي، 2006، ص 294.

2. بيروت، دار المشرق، 1996، ص 45.

3. "الساق على الساق في ما هو الفارياق"، بيروت، دار مكتبة الحياة، 1966 (وهي نسخ عن الطبعة الأولى التي صدرت في باريس عام 1855)، ص 107.

4. Mathias Enard, Boussole, Actes Sud, p. 321-324.

5. أمبرتو إيكو: "أن نقول الشيء نفسه تقريبًا"، ترجمة أحمد الصمعي. بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2012، ص 443.

6. وردت في كتاب Michaël Oustinoff: La traduction (coll. Que sais-je?), p. 118.

7. Usâma Ibn Munqidh: Des enseignements de la vie. Souvenirs d'un gentilhomme syrien du temps des Croisades. Paris, Imprimerie nationale, 1983.

8. André Roman: Théorie et pratique de la traduction littéraire du français à l'arabe. Paris, Klincksieck, 1981.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.