}

بين الكلمة المسموعة والنصّ المكتوب.. في الصراع على المكانة

أحمد الجندي أحمد الجندي 6 يونيو 2022

"لأن الحرف يقتل، ولكن الروح يحيي".
حينما كتب بولس هذه العبارة ضمن رسالته إلى أهل كورنثوس، كان يعبر عن مدى انطباع كلمات رسالته في قلبه، وعن مدى إيمانه العميق بقيمتها، وأن يميز بين الفهم الحقيقي، والفهم الحرفي للكلمات. لم يكن بولس يعلم حينها أن عبارته تلك سوف يفسرها علماء الأنثروبولوجيا في العصر الحديث على أنها تعبير عن صراع قديم بين الكلمة المسموعة والنص المكتوب، ذلك الصراع الذي لا ندري هل حسمه تقدم تكنولوجيا الكتابة وعالم الكومبيوتر لصالحه، أم أن الكلمة المسموعة، أو سمها الكلمة المنطوقة، أو الشفاهية، إن شئت، لا تزال تحافظ فيه على مكانتها.
إن جاذبية الشفاهية ودراستها تنبع بشكل أساسي من أنها تدخل ضمن دائرة اهتمام تخصصات كثيرة، كالأنثروبولوجيا، والأدب، وعلم اللغة، وعلوم الدين... وغيرها، كما أن تأثيرها في الدين والأدب يضفي مزيدًا من الجاذبية على دراستها، ويجعل ضرورة اهتمام المتخصصين فيها أكبر.
ثمة ملاحظات عدة مبدئية مهمة يجب أن نبدأ بها، ويمكن اعتبارها، رغم طولها، مدخلًا إلى الموضوع:
1 ــ أول هذه الملاحظات أننا إذا أردنا دراسة تأثير الشفاهية في الدين والأدب فإن علينا التمييز بين طريقة طرح باحثي الأنثروبولوجيا، وباحثي الأدب، للموضوع؛ فعادة ما تهتم الأنثربولوجيا بالإجابة عن أسئلة من نوعية: هل كانت طبيعة المجتمع شفاهية، أم كتابية؟ ومتى بدأ المجتمع في التحول من الشفاهية إلى الكتابة؟ وهل كان التحول تدريجيًا، أم مفاجئًا؟ وهل أدى هذا التحول إلى اختفاء الشفاهية تمامًا؟ وما العوامل التي تدفع المجتمع لهذا التحول (أي من الشفاهية إلى الكتابة)؟ وغير ذلك من القضايا.
أما دارس الأدب، مثلًا، فيبحث في انعكاس الظاهرة على الأدب نفسه، كأن يدرس حجم الإنتاج الأدبي في المجتمع الشفاهي، والمعاني التي تطرق إليها الأدب الشفاهي، والظواهر الأدبية التي ظهرت مبكرًا، أو تأخرت، نتيجة الشفاهية، أو الكتابة، والانتحال، وكيف تأثر النقد بالشفاهية، وبالتحول إلى الكتابة، وغير ذلك من القضايا.
2 ــ الملاحظة الثانية ترتبط بالإشارة إلى أنه رغم أهمية موضوع الشفاهية في دراسة الظواهر الأدبية والدينية، إلا أنه لم يحظ بعد بالاهتمام المكافئ لأهمية الموضوع. ودعني أضرب لك مثالين على ذلك، أحدهما في الأدب العربي، والآخر في الديانة اليهودية؛ فالأدب العربي مثلًا كان قائمًا على النقل الشفاهي في عصوره الأولى (خلال العصر الجاهلي، وصدر الإسلام، وأغلب فترات العصر الأموي، وبعض فترات العصر العباسي)، لكن الظاهرة على الرغم من تخصيص عديد الدراسات لها، لم تنل اهتمامًا كافيًا بعد عند دراسة الأدب العربي في تلك العصور.




في الديانة اليهودية، كذلك، كان تأثير الشفاهية كبيرًا، وهذا كان ناتجًا عن تأخر كتابة كثير من نصوص مصدرها الأول (العهد القديم) لقرون عدة، فضلًا عن أن المصدر الثاني لليهودية (التلمود) قائم على ما عرّفته اليهودية باسم الشريعة الشفوية، إلا أن دراسة هذا التأثير كانت متأخرة نسبيًا؛ ومن أهم الأعمال التي اهتمت بهذا الموضوع كتاب سوزان نيديتش: the oral world and the written word، وكتاب وليم شنيدويند: how the bible became a book?، الذي ترجمته، ونشر منذ أعوام عدة ضمن منشورات المركز القومي للترجمة في مصر.
3 ــ الملاحظة الثالثة تتعلق بضرورة تحري الموضوعية في هذا الصدد، وسأضرب هنا أيضًا مثالين؛ يقول أحد الباحثين العرب إن "عرب الجاهلية لم يكونوا يعتمدون في حفظ قصصهم على الذاكرة فقط، بل على الكتابة في المقام الأول"، وهذا كلام بالغ التحيز، لأنه مبني على دراسة لم تراع الجانب الأنثروبولوجي في موضوع الشفاهية والكتابة والانتقال بينهما، كما أنها لم تراع مسألة الكتابة العربية، وتاريخ نقوشها المتأخر؛ إذ يؤرخ لأقدم النقوش العربية في منتصف القرن الثالث الميلادي، وهو تاريخ متأخر جدًا مقارنة ببقية لغات شعوب المنطقة.
هذا التحيز يشبهه في الدراسات اليهودية قول من ينسب كثيرًا من التراث الشفاهي في التلمود إلى موسى عليه السلام، من خلال قولهم بأن الرب أعطى موسى توراة مكتوبة، وأخرى شفوية.
4 ــ تتعلق الملاحظة الرابعة، وقد تكون أكثر الملاحظات أهمية، بالصراع الذي حدث بين التراث الشفوي والنصوص المكتوبة على المكانة، أو الأفضلية، عند أفراد المجتمع؛ وهو صراع ناتج عن أننا أمام شكلي تأليف مختلفين. في هذا السياق، أطرح سؤالين يعكسان وجود هذا الصراع؛ أولهما هل ترتبط مكانة الثقافة ومصداقيتها بتحول التراث الشفاهي إلى نصوص مكتوبة؟ والآخر: إلى أي مدى حل الكتاب والكمبيوتر محل المعلم أو الأستاذ، وهل تراجع دور المعلم في ظل انتشار الكتابة والكتب؟ لكن، ونحن نفكر في الإجابة عن هذين السؤالين، علينا أن نضع في الحسبان أن التحول من التراث الشفاهي إلى النصوص المكتوبة لم يكن أمرًا سهلًا، خاصة عند أولئك الذين كان لديهم اهتمام بالغ بالتراث الشفاهي، وأن هذا التحول، إضافة إلى الصراع بين التراث الشفاهي والنصوص المكتوبة، يجب أن يؤخذا في عين الاعتبار عند دراسة الموضوع.
5 ــ تتضمن الملاحظة الخامسة مفارقة لطيفة؛ إذ أننا في أغلب الأحيان حينما ندرس التراث الشفاهي ندرسه مكتوبًا؛ كدراستنا للأدب العربي في العصر الجاهلي، أو في عصر صدر الإسلام، أو دراستنا للتراث الديني الشفاهي في العهد القديم، أو في التلمود، وهي مفارقة جديرة بالتأمل.
6 ــ يلاحظ كذلك أن الحضارات القديمة كانت قائمة على الشفاهية بحكم معرفة فئة محدودة من الناس بالكتابة؛ فحضارات بلاد النهرين، ومصر القديمة، واليونان، كلها كانت تعتمد الشفاهية وسيلة لنقل التراث، وإن كان ذلك بنسب متفاوتة؛ إذ كان الاعتماد على الشفاهية في حفظ التراث أكبر في الحضارات الأقدم زمنًا.
كما أن الكتابة في هذه الحضارات، وعند من تأثروا بها، مثل بني إسرائيل، كانت امتدادًا للأداء الشفاهي، وهذا لم يكن يعني بالطبع أن كل النصوص ذات أصل شفاهي، بل يعني أن نقلها الشفاهي كان هو الذي يحدد أسلوب كتابتها في ما بعد، لأن هذه النصوص لم تكن للقراءة الشخصية الفردية، بل للإلقاء على العامة شفاهة في المناسبات المختلفة.
7 ــ أما الملاحظة الأخيرة فتدور حول ما يلحق بالتراث الشفاهي من تغيير عند تناقله عبر الأجيال، أو من شخص إلى آخر، إلى أن يصبح نصًا مكتوبًا، وهي إحدى أهم مشكلات النقل الشفاهي. وهنالك أكثر من شكل لهذا التغير؛ إذ يتراوح التغير بين التعديل الجزئي للرواية الشفوية بما لا يخل بالبناء الأساسي لها، وبمعناها العام، أو التعديل الكبير الذي يمس هذا البناء، ويؤثر على المعنى، أو الانحراف الكلي للرواية عن معناها الأصلي، أو اختلاق روايات بديلة.
أسباب هذه التغييرات تكون أحيانًا عفوية، ومن دون قصد، لكنها في أحيان أخرى تتم بشكل مقصود نتيجة أيديولوجيات من تناقلوا التراث الشفاهي، وتوجهاتهم، إلى أن وصل إلى مرحلة الكتابة. وعادة ما تكون الأسباب غير المقصودة ناتجة عن نسيان بعض تفاصيل الرواية، أو كثير منها، نتيجة الاعتماد على الذاكرة في عملية النقل؛ فبعض التراث قد يبقى محفوظًا في الذاكرة لقرون طويلة، خاصة لو كان تراثًا شعريًا، وبعضه لا يبقى منه سوى خيط رفيع من القصة الأصلية نتيجة الارتجال، وعادة ما يكون الارتجال هو القاعدة في انتقال التراث الشفاهي، بينما يظل التذكر استثناء. والاعتماد على الارتجال يعني أن الحذف، أو الإضافة، سيكونان أمرين شائعين، مع احتمال فقدان جزء كبير من الحكايات الأصلية، أو ربما كلها. وهذا بدوره يعتمد على المدى الزمني الفاصل بين أصل الرواية وزمن كتابتها، وكلما طال هذا الفاصل كلما أصبحت إمكانية انحراف الرواية عن أصلها أكثر احتمالًا.




لكن إذا كان احتمال تعرض التراث للانحراف مقصودًا، أو غير مقصود، وسواء كان انحرافًا جزئيًا أو كليًا عن أصله أمرًا واردًا، فلماذا كان النقل شفاهة وليس تدوينًا؛ وهذا يدعونا إلى التفكير في أسباب النقل الشفاهي للتراث.


أسباب النقل الشفاهي

مخطوطة من القرن العاشر الميلادي تعود إلى العهد الفاطمي في مصر (Getty)


تختلف أسباب النقل الشفاهي للتراث من مجتمع لآخر، بالطبع، لكنها أسباب كثيرة نكتفي منها باثنين: أولهما الجهل بالكتابة؛ حينها يكون المجتمع مضطرًا إلى الاعتماد على نقل التراث شفاهة. ويقدر بعض الباحثين في الأنثروبولوجيا نسبة العارفين بالكتابة في اليونان القديم بـ10% من مجموع سكانه، وكلما ذهبنا أقدم كلما قلت النسبة، حتى تصل إلى 1% تقريبًا عند المصريين القدماء، والبابليين. ومن حق القارئ أن يسأل: كيف تتدنى النسبة المقدرة عند المصريين والبابليين مع وجود كل هذه النقوش والنصوص في الحضارتين المصرية والبابلية؟
لقد كان من المعروف في الحضارات القديمة أن معرفة الكتابة كانت بالكاد مقصورة على الطبقة الحاكمة صاحبة التأثير (رجال الدولة والبلاط والكهنة)، وأن الكتابات التي كانت تنقش على الجدران لم تكن من أجل أن يقرأها العامة، بل من أجل تأثيرها الروحي، وإظهار قوة الحاكم، أو ما يعرف بالقوة الروحية للكتابة. فقد كانت النظرة للكتابة قديمًا على أنها منحة إلهية، ووسيلة اتصال بالعالم الإلهي؛ وفي هذا السياق، عرفت الشعوب القديمة آلهة الكتابة، ففي بلاد النهرين كانت الكتابة ملكًا تامًا للإلهة نيسابا، ثم انتقلت بعدها للإله نبو، ثم أصبح الإله أيا، أو إنكي، هو من يعلم الناس الكتابة، والإله تحوت هو الذي علم المصريين الكتابة. وفي التراث اليهودي، تشير المشناه إلى أن الرب هو الذي خلق الأبجدية وفن الكتابة في اليوم السادس. وما زالت تلك القوة الروحية للكتابة حاضرة إلى يومنا هذا فيما يقوم به بعض السحرة من أعمال سحر تكتب فيها رموز غير مفهومة.
السبب الآخر يرتبط بطبيعة المجتمع؛ وهل يفضل نقل تراثه شفاهة، أو كتابة؟ فبعض المجتمعات كانت تعتبر كتابة الأدب ونصوصه انتقاصًا من قدرة الأديب على حفظ أعماله شفاهة؛ وهذه النظرة كانت وما زالت موجودة في النظرة إلى شعراء العربية بشكل خاص.
وهنا يجب التفريق بين معرفة بعض الشعراء، أو الأدباء، بالكتابة وأدواتها، واستخدامهم لهذه المعرفة في نقل ما ينتجونه. والمثال الأبرز على ذلك أن عددًا من شعراء الجاهلية ذكروا أدوات الكتابة فعلًا، لكنهم لم يكتبوا أشعارهم من الأصل:
خذ مثلًا قول الأخنس بن شهاب التغلبي:
لابنة خطان بن عوف منازل... كما رقَّش العنوان في الرَّق كاتب.
وقول الزبرقان بن بدر:
هم يهلكون ويبقى ما صنعوا... كأن آثارهم خُطت بأقلام.
والواضح أن العرب كانوا يفضلون المشافهة على الكتابة؛ فلم نسمع في عصور الأدب العربي الأولى أن شاعرًا ألقى قصيدته من صحيفة مدونة. ويقول الجاحظ "وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام". ويقول كذلك "إذا ترك الإنسان القول ماتت خواطره، وتبدلت نفسه، وفسد حسه". وكأن الجاحظ هنا يربط الحياة الإنسانية بالبيان الشفاهي. وخلال القرنين الثاني والثالث الهجريين، كان يعاب على رواة الشعر القراءة من الصحف. ونقل عن سهل بن هارون (أستاذ الجاحظ) أنه من العسير اجتماع بلاغة الشعر وبلاغة القلم.




مسألة تفضيل الشفاهية على الكتابة لم تكن تخص العرب وحدهم؛ فقد كانت قضية مثارة في الثقافات المختلفة حتى عند الفلاسفة القدامى أيضًا، فظهور الكتابة كان تحديًا للتراث الشفوي وللمجتمع الشفاهي، وهو أمر لم يكن ليمر من دون مقاومة. ففي اليونان القديمة مثلًا: يسرد أفلاطون في مؤلفه "فيدروس" موقفًا لسقراط يقول فيه "إن الكلمات المكتوبة تبدو كما لو كانت تتحدث إليك، وكأنها عبقرية، لكنك لو أردت الاسترشاد بسؤال تلك الكلمات عما تقصده فسوف تظل تقول لك الشيء نفسه إلى الأبد. فبمجرد أن يتحول شيء ما إلى نص مكتوب، فإن ذلك الشيء المكتوب ـ أيًا كان ـ سوف يتراكم في أرجاء المكان".
وخلال العصر الروماني، كانت هنالك مقاومة طبيعية للكتب والكتابة بين كل طبقات المجتمع، خاصة بين الحرفيين والصناع الذين كانوا يدركون أنهم تعلموا مهاراتهم على أفضل ما يكون في بيئة شفوية. وكان الكاتب الروماني بليني يؤكد على أهمية الرسالة الشفوية، وأنها مناقضة للكتاب، وهذا كان واضحًا في قوله "إن الصوت الحي أكبر تأثيرًا".
هذا الموقف وجدناه أيضًا في الأدب المسيحي؛ يقول بولس لأهل كورنثوس "أنتم رسالة المسيح مخدومة منا، مكتوبة لا بحبر، بل بروح الله الحي، لا في ألواح حجرية، بل في ألواح قلب بشري". ويقول لهم أيضًا "الحرف يقتل، لكن الروح يحيي" (رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس 3: 3، 6). وهذه العبارة التي جعلت الكلمة المكتوبة نقيضًا للصوت الحي لم تكن مصادفة ولا قولًا عابرًا، بل كانت تعبر عن منهج ثابت في الحضارات والثقافات القديمة.


ما الذي يدفعنا إلى الكتابة؟

من مخطوطات البحر الميت المكتشفة في وادي قمران بالقرب من البحر الميت في الضفة الغربية (نهر الأردن) بين عامي 1946 و1956 (Getty)      


إذا كنا قد سألنا عن أسباب النقل الشفاهي؛ فإن ثمة سؤالًا آخر في المقابل عن الأسباب التي تدفعنا إلى الكتابة. وتحتاج الإجابة عن هذا السؤال إلى أن نجيب عن ثلاثة أسئلة فرعية:
الأول: بماذا نكتب؟ والسؤال هنا عن أدوات الكتابة التي قد تكون حجارةً وجدرانًا، وألواحًا طينية، أو جلودَ رقٍّ، أو أوراقًا، وهي مع ترتيبها من الأقدم والأصعب إلى الأحدث والأسهل سوف يحتاج كل منها قلمًا مختلفًا يتناسب مع ما نكتب عليه. كما أن نوعية الأحبار، ومدى احتياجنا إليها، سوف تتغير بحسب المادة التي نكتب عليها. وعلينا هنا ألا ننسى أن تكلفة بعض هذه الأدوات المرهقة لغالبية الناس من المزارعين وسكان المدن الفقراء سوف تكون عائقًا أمامهم في تعلم الكتابة وممارستها، وهو ما سيعطي أفضلية لاستمرار التراث الشفاهي.
نحتاج هنا أن نضع في الحسبان أنه كلما طال النص كلما احتجنا إلى مساحة كتابة أكبر؛ وهذا ما أدى إلى إيجاد اللفائف. غير أن طول اللفائف جعل مسألة التنقل داخل النص، أو الوصول إلى معلومة بعينها داخل اللفائف، أمرًا صعبًا، وهو ما سيؤدي لاحقًا إلى الوصول إلى ما يعرف بكتاب المخطوطات في القرن الأول الميلادي، والذي سيتطور في ما بعد إلى شكل الكتاب الذي نعرفه حاليًا؛ فقد كان كتاب المخطوطات وسيلة أسهل في الاستخدام من اللفائف.
الثاني: ماذا نكتب؟ أي ما الذي لدينا لنكتبه؟ إذ يؤكد علماء الأنثروبولوجيا على أن الكتابة تنتشر في المجتمع كلما ازداد تعقيدًا؛ ولتوضيح ذلك، لنأخذ المجتمع العربي الجاهلي كمثال. لقد كان هذا المجتمع بسيطًا وفطريًا، محدود الاحتياجات، قائمًا على سلطة القبيلة، وبالتالي فإن احتياجه للكتابة كان محدودًا للغاية. هذا الوضع سوف يتغير بشكل متصاعد بداية من عصر صدر الإسلام، وصولًا إلى العصر العباسي، نتيجة تعدد مؤسسات المجتمع، من دواوين ووزارات، وجيش وجنود، ومصادر دخل الدولة، من غنائم وزكاة وخراج، ومصارفها.. إلخ.
وهذا الوضع يماثله حالة المجتمع الإسرائيلي قبل قيام مملكة داود وسليمان في نهاية القرن الحادي عشر ق.م. فقد كان مجتمعًا قبليًا لا يحتاج إلى الكتابة، إلا في نطاق محدود. وحتى بعد قيام المملكة في ذلك الوقت، فإن عائقًا آخر كان موجودًا، وهو أن الأبجدية لم تكن قد عرفت بعد عند بني إسرائيل في عصر شاؤول وداود وسليمان، ملوك إسرائيل الأوائل. هذا الوضع سوف يتغير لاحقًا مع نهاية القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد نتيجة الحملات الآشورية والبابلية على مناطق سورية وفلسطين، ثم سيصل إلى ذروته خلال العصر الفارسي في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد؛ حيث ستبدأ عملية تدوين أسفار التوراة، وكثير من نصوص العهد القديم.
أما السؤال الثالث: لمن نكتب، خاصة في حال كان غالبية أفراد المجتمع لا يعرفون القراءة والكتابة؟ لعل أوضح مثال على ذلك حالة الأدب العربي في عصوره الأولى، وخاصة العصر الجاهلي.
لا يكفي هنا الإجابة عن سؤال واحد من الأسئلة السابقة لنعرف ما الأسباب التي تدفعنا إلى الكتابة، بل أن نجيب عن هذه الأسئلة مجتمعة، واضعين في الاعتبار أيضًا صعوبة الكتابة نفسها، أو سهولتها، تبعًا لطبيعة الكتابة، وإن كانت تصويرية، أو مقطعية، أو أبجدية.
من المهم هنا أن نتجنب إصدار الأحكام التي تعطي لأحد شكلي التأليف (الشفاهي والمكتوب) أفضلية على الآخر؛ فليس بالضرورة أن يكون التراث الشفاهي أقدم من التراث المكتوب، كما أنه ليس بالضرورة أيضًا أن يكون المكتوب أكثر صدقًا من الشفاهي.


التراث الشفاهي والنص المكتوب؛ الأقدم والأصدق
من بين الأخطاء الشائعة في مسألة الشفاهية والكتابة ما يظنه بعضنا من أن التراث الشفاهي أقل مكانة من الأدب المكتوب. هذه النظرة غير الصحيحة ناتجة عن خطأ آخر يرى أن الشفاهية كانت تعبيرًا عن مرحلة فطرية من الإنتاج الأدبي للشعوب، وأن تقدم الشعوب جعلها تلجأ للكتابة بديلًا عن استخدام الذاكرة.




صحيح أن انتشار استخدام الكتابة أثر في الكلمة المسموعة، وأن الكتابة وتوظيفها في حفظ التراث هي مرحلة متأخرة عن مرحلة الكلمة المنطوقة، لكن وجود الكتابة لا يعني بأي حال من الأحوال نهاية التعبير الشفاهي، كما أنه لا يعني توقف الشعوب عن تناقل الروايات شفاهة، بل إن كثيرين ممن كانوا يعرفون الكتابة فضلوا أسلوب التناقل الشفاهي.
وقد ضربت لكم أمثلة على ذلك من قبل عند العرب واليونان والرومان ومن التراث المسيحي، لكنني هذه المرة ــ بحكم تخصصي في الدراسات اليهودية ــ سوف أركز على ما حدث في التراث اليهودي. لقد كانت فرقة الفريسيين اليهودية خلال القرن الثاني ق.م تعرف الكتابة، لكن أفرادها على الرغم من ذلك اعتمدوا نقل التراث شفاهة، ويرجح أنهم لم يشجعوا كتابته، وهم الذين أوجدوا مفهوم التوراة الشفوية، حين قالوا بأن الرب أعطى موسى توراتين؛ إحداهما مكتوبة، والأخرى شفوية، وهي التي ستتحول في ما بعد إلى ما نعرفه اليوم باسم التلمود، ويقال أيضًا إن اقتباساتهم من تراث العهد القديم كانت تتم شفاهة.
بالتالي، فإن القول بوجود فترة شفاهية في تاريخ بني إسرائيل أعقبها عصر كتابة تحول فيه الإنتاج الأدبي من الشفاهية إلى الكتابة هو قول غير صحيح؛ لأن الشفاهية ظلت مستمرة، ولم يكن الأمر متعاقبًا بالضرورة؛ فليس حتميًا أن يكون الشفاهي قديمًا وفطريًا وساذجًا، فالعالم الشفاهي ظل موجودًا حتى بعد انتشار الكتابة.
ولم يكن ظهور الكتابة والتوسع في استخدامها يعني بالضرورة نهاية التراث الشفاهي؛ فالانتقال لم يكن كليًا أو حادًا، بل اتسم بالمرونة، بحيث لم يلغ أحدهما الآخر، وهذا يعني أن الأعمال الشفاهية ظلت موجودة حتى مع وجود النص عند بني إسرائيل؛ بل ربما كان لها تأثير على النص المكتوب نفسه، وقد يحدث في كثير من الأحيان أن يكون النص مكتوبًا، لكن انتقاله من جيل إلى آخر يبقى معتمدًا على الشفاهية.
وهذا يعني أنه في مرحلة ما قد يتفاعل التراث الشفاهي مع التراث المكتوب، فنصبح أمام تراث شفاهي يكمل النص المكتوب، أو يضيف إليه، ثم يكتب هذا التراث. وقد تتكرر هذه العملية مرات عدة، لنصبح أمام تراث تفسيري ممتد. والشفاهية بهذا المعنى ترتبط بالتفسير نفسه؛ أي أن التفسير قد يعتمد على مرويات شفاهية، ثم تتحول هذه المرويات لتصبح نصًا مكتوبًا... وهكذا في عملية تفاعلية بين الرواية الشفوية الأولى التي تحولت إلى نص داخل العهد القديم، تبع هذا النص، أو زامنه، وجود روايات شفوية سابقة له تحولت في ما بعد إلى تفسير له، ثم تحول هذا التفسير إلى كتابة.
جدير بالتصحيح أيضًا ما قد يظنه بعضنا من اعتبار النص المكتوب أكثر مصداقية من الرواية الشفاهية؛ وهذه مسألة نسبية يتفاوت بشأنها الحكم على أيهما أكثر مصداقية؛ فالنص المكتوب حين تتدخل الأهواء في كتابته تكون مصداقيته محل شك كبير، وحين تتدخل أيدي مدوني التراث الشفاهي بالحذف، أو الإضافة، فإن هذا يحرف التراث عن أصله. في الوقت نفسه، ربما يجد المدون أن التراث المتداول شفاهة قد انحرف فعليًا عن مساره الصحيح، فيحاول العودة به إلى هذا المسار. أي أن المصداقية تكون أحيانًا لصالح التراث الشفاهي، وفي أحيان أخرى لصالح النص المكتوب.
هناك بالطبع توضيحات أكثر، وأسئلة أخرى كثيرة بعضها يرتبط بسمات التراث الشفاهي، وكيفية التعرف عليه داخل النصوص المكتوبة، وهل الشعر أسهل عند النقل الشفاهي، أم النثر؟ وكيف يمكن أن يؤثر النقل الشفاهي في الدين والأدب؛ هذه الأسئلة وغيرها تحتاج إلى نقاش جديد.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.