}

"الغريبُ الأليف".. عن هوامش الحداثة الفنية

فريد الزاهي 25 يوليه 2022
آراء "الغريبُ الأليف".. عن هوامش الحداثة الفنية
(الشعيبية طلال)

ثمة شخصيات وأحداث وعلاقات وممارسات تنطبع في التاريخ الثقافي المحلي، مع أن أصولها الثقافية بعيدة آتية من أصقاع أخرى من المعمور. فالغريب والأجنبي، خاصة في مرحلة الإمبراطوريات الإمبريالية، لم يكن فقط ذلك المستعمر الشرس الذي يمارس القهر والسلب والنهب والتقتيل. فهوامش الاستعمار مليئة بالتجارب الخصبة التي عاشها فنانون ومثقفون خارج بلدانهم، بعيدًا عن أواليات السلطة وإكراهاتها، وعن ادعاءات تفوُّق العرق الأوروبي، وإرادة السيادة والسيطرة. ونحن ندين لهذه الهوامش المتحركة بكثير من المآثر التي كان استكشاف الآخر فيها موردًا غنيًا لبناء تصورات جديدة للإبداع وللفكر والفن. وإن تمحّصنا قليلًا في فكر الرحالة الكولونياليين والإثنوغرافيين والفنانين والمصورين المواكبين لحركات التوسع الاستعماري، فسنعثر فيها أيضًا على لحظات إشراق تخلصهم من مقاصدهم الاستعمارية، وعن وهج إبداعي وفكري يبعدهم عن السياسة والفكر اللذين كانوا في خدمتهما، ويقربهم من الواقع الجديد الذي أتوا لتغييره وإلحاقه.
في هذه الهوامش، نبتت أعمال أدبية وفكرية أضحت معالم بارزة تسلط الضوء على التلاقح الثقافي المستعصي على التطبيع الاستعماري. فكانت كتابات فيكتور سيغالين احتفاء بالغريب والآخر، فيما وراء الحدود الجغرافية. وكتب رايمون روسيل رائعته "انطباعات أفريقية"، وهي رواية منزاحة عن النظرة التحقيرية للآخر، وسوف يحتفي بها السورياليون، وأندريه بروتون، ثم آلان روب غرييه. وراح مشيل ليريس إلى شرق أفريقيا، مواكبًا للرحلة الإثنوغرافية لمارسيل غريول في بداية الثلاثينيات، ليعود هذا السوريالي المنشق بكتاب شخصي يحتفي فيه بسحر أفريقيا، ويكشف فيه عن تناقضات الفعل الاستعماري.
بيد أن هذه الرحلات الخاطفة التي جعلت أندري شوفريون (ابن أخ هيبوليت تين الشهير) يشبع نظرته الرومانسية بفضاءات المغرب، بالرغم من نظرته الأرستقراطية المتعالية (الرحلة ترجمناها إلى العربية، وصدرت عن مشروع كلمة منذ سنوات)؛ وجعلت طبيبًا نفسانيًا شهيرًا (كان أستاذًا لجاك لاكان) هو غاتيان كليرامبو يحل في المغرب، ويترك لنا صورًا فنية نادرة عن المغاربة، ليست هي ما يشد انتباهنا هنا. فقد اختار العديد من المثقفين والفنانين الغربيين الاستقرار في بلدان غريبة عنهم ليعانقوا تربتها ويذوبوا في فضاءاتها ويجعلوها أحيانًا مثوى لهم، وليساهموا بشكل فعال في بناء حداثتها الثقافية والفنية. إنها حيوات وحكايات قد تكون مكتملة أحيانًا، وناضجة بما يكفي؛ غير أنها أحيانًا أخرى تنسحب ولا تتبدى في العلاقة مع هذا الفنان أو ذاك، لأنها كانت خلفية حاسمة في بلورة كيانه.


فنانون أجانب وراء بدايات فنانين مغاربة
كان غابرييل فيرْ المهندس المصور وراء أولى الصور الفوتوغرافية التي تركها لنا سلطان المغرب في بدايات القرن العشرين. وكانت تلك التجربة التي جعلته يحط الرحال بالمغرب، بداية ممارسته للفوتوغرافيا بعد أن استقر في البلاد إلى وفاته، تاركًا لنا إرثًا هامًا عن الناس والأماكن ذا قيمة فنية لا تضاهى. وفي مطالع القرن الماضي، كانت مدينة طنجة معبرًا للكتاب والفنانين العالميين، ومستقرًا لبعضهم، ومن بينهم ماتيس، وبول بولز. وكانت عاصمة للتلاقح الثقافي، يأتيها الراغبون في حياة جديدة بعيدًا عن نمطية الحياة الغربية، حيث يمتزج الحشيش بالخمر بالموسيقى والشعر والفن.




في أوائل العقد الثاني من القرن العشرين، ترك محمد بن علي الرباطي مدينته الرباط ليستقر في طنجة بحثًا عن عمل. وما لبث الشاب أن وجد ضالته، فاشتغل طباخًا لدى السير جون لافورت، رسام البورتريهات الرسمي للعائلة الملكية البريطانية الذي كان يقطن حينئذ في المدينة. أحس الرسام بموهبة خادمه، فجهد في تعليمه الرسم. وهكذا كان انبثاق الفن التشكيلي في المغرب، من خلال لوحات صغيرة مرسومة بالغواش، تكاد في رسم معالم شخصياتها تعتمد تقنية المنمنمة، غير أنها تستخدم المنظور. كانت موضوعات بن علي الرباطي عبارة عن مشاهد من الحياة اليومية والأسواق والأعراس والكتاتيب القرآنية... غير أنها تتوخى الدقة ما أمكن في الرسم والألوان. وكان معرضه في مرسيليا، ثم في لندن، تأسيسًا لقواعد الممارسة الفنية التشكيلية المبني على اللوحة المسندية، كما على العرض والعيانية، في مغرب لم يعرف أبدًا التصوير المسندي إلا لدى الأجانب الحالّين في البلاد، أو العابرين لها، من قبيل دولاكروا، أو ماتيس... هكذا ولد الفنان المغربي الذي يوقّع لوحاته، ويعلن عن ذاتيته وفردانيته، ومعه ولدت ممارسة التصوير الفني، بل إنشاء أول قاعة معارض على يد بن علي الرباطي في طنجة في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين.
إذا كان بعض الفنانين من قبيل محمد السرغيني، ومريم مزيان، وحسن الكلاوي، ثم الجيلالي الغرباوي، قد اختاروا التكوين الفني الأكاديمي في إسبانيا وفرنسا، فإن فترة الاستعمار في المغرب قد عرفت ظهور فنانين عصاميين كان سبب ارتيادهم هذا العالم يعود إلى احتكاكهم بفنانين أجانب مقيمين في المغرب. فقد تلقى محمد بن علال بمراكش دروس الرسم الأولى على يد الفنان جاك أزيما، الذي كان يشتغل لديه. وكما ابن علي الرباطي كانت المشاهد اليومية هي ما يتقن تصويره. والعديد من لوحاته نستشف فيها بصمة أستاذه، سواء في تشكيل الشخصيات، أو في انتقاء الألوان.
بيد أن ثمة فنانًا فطريًا سيكون له موقع مميز في تاريخ التشكيل المغربي هو مولاي أحمد الدريسي، الذي كان عاملًا مزارعًا ثم بستانيًا في مراكش، تلك المدينة التي كان يرتادها الكتاب والفنانون، من قبيل أورسون ويلز، وكلود أولييه، وإلياس كانيتي، في ذلك الوقت، ويحل فيها بين الفينة والأخرى ونستون تشرشل ليرسم من سطح إقامته جبال الأطلس المغمورة قممها بالثلج. في عام 1954، اشتغل الدريسي لدى زوج من الفنانين السويسريين مستقرين في مراكش، فلاحظ مشغله الفنان فويكْس عشقه للرسم، فوفر له ما يحتاجه في هذا المضمار من ورق وقماش وأدوات، وتركه يصوغ كائنات إنسانية وحيوانية بطريقته المميزة، وبنحافتها البالغة التي تبدو فيها وكأنها خارجة من حلم طفولي. لقد كان الدريسي أول فنان مغربي يعرض في متحف لوزان للفن الفطري عام 1952، وسافر إلى العديد من البلدان الغربية، واستقر في باريس لمدة طويلة في الخمسينيات قبل أن يعود إلى بلاده، ويستقر فيها نهائيًا، ويفتح فيها قاعة عرض عام 1959، ويعرض إلى جانب فنانين معروفين، من قبيل محمد القاسمي، وبلكاهية، وغيرهما.

محمد القاسمي 




أما أحمد بن إدريس اليعقوبي فقد التقى ببول بولز في مدينة فاس عام 1947، وبدأ يسجل حكاياته ويترجمها. وقد شجع هو وزوجته الشاب المغربي على رسم شخصيات حكاياته. وكان أن نظم له بول بولز معرضه الأول في طنجة الذي عرف نجاحًا لم يكن منتظرًا، وبيعت أغلب لوحاته. وهكذا انطلقت مسيرة فنان عالمي يجمع بين سوريالية حالمة وعالم ساحر. وفي 1952، سوف يعرض اليعقوبي في غاليري دونيز بارسونز في نيويورك، التي سيستقر فيها حتى وفاته. وقد عاشر هذا الفنان أكبر الفنانين العالميين، من حركة "البيت جنيرايشن" الذين عاشوا في طنجة، من قبيل بولو بولز، ووليام بورّوغ، وغيرهم... وكان بول بولز أيضًا قد ترجم رواية "الخبز الحافي" لمحمد شكري سنوات قبل صدور نصها العربي في السبعينيات، فأدخل بذلك الكاتب الشاب المشاغب إلى رحاب العالم، قبل أن يترجم له الطاهر بنجلون الرواية نفسها إلى الفرنسية، وقبل أن تصدرها دار الآداب في أواخر السبعينيات، وتتعرض للمنع في العديد من الدول العربية.


جاكلين برودسكيس عَرّابة الفنانين العصاميين

جاكلين برودسكيس 


غالبًا ما كان يذكر اسم جاكلين برودسكيس (1912 ـ 2006) حين الحديث عن حيوات فنانين عصاميين، من قبيل محمد القاسمي، وميلود لبيض، ومحمد الورديغي، وفاطمة حسن. فهذه الفنانة المغمورة سوف تستقر في المغرب عام 1935، وتلتحق بوزارة الشباب والرياضة، قسم الفنون التشكيلية، منذ 1950، لتصبح مسؤولة عن ورشات التشكيل التي أسستها في العديد من المدن سيمون غرونر، حتى عام 1964.




ثم إنها في عام 1966، سوف تنشئ أول ورشة خاصة للتكوين التشكيلي في الرباط. هكذا وجدت حريتها في اختيار الأشخاص ومتابعتهم وتكوينهم. كان رواد الورشة بستانيين ونساء يمتهن الحرف التقليدية، وشبابًا لم تتح لهم فرصة التكوين الأكاديمي. هذه المتابعة سوف تعطي ثمارها، إذ إن القاسمي مثلًا لم يلبث أن أصبح أحد أعمدة الحركة التشكيلية، هو وميلود لبيض. أما الورديغي، وفاطمة حسن، فيمكن وضعهما إلى جانب الشعيبية طلال، كأهم فناني ما يعرف بالفن الخام، أو العفوي.

جاكلين برودسكيس وميلود لبيض 


وإذا كان حال الفنانين السابقين عليها قد اقتصر على تبني شخص واحد، فإن التجربة التي اكتسبتها برودسكيس في تدبير قطاع الفنون التشكيلية في وزارة الشباب والرياضة، والمصاعب التي اعترضتها، قد مكناها من تبني استراتيجية جديدة لا تكتفي بالتربية الفنية لكافة المسجلين في الورشات، وإنما بالأخص في العمل الشخصي الدؤوب الذي جعلها تتبنى العِرابة، كمفهوم ثقافي، والاحتضان، كمفهوم تدبيري. لهذا، فإن ظنها لن يخيب في تكوين ومتابعة تلك الباقة من الفنانين العصاميين الآتين إليها من الدرك الأسفل للمجتمع، لا ليمارسوا الفن كهواية نافلة، وإنما ليجعلوا منها معبرًا نحو التعبير الشخصي عن تجربة وجودية، ومتخيل شعبي وثقافي سيغني بشكل لافت المشهد التشكيلي المغربي.

(ميلود لبيض) 


بالموازاة مع ذلك، كان الشاعر والناقد الفني، جان كلارتنس لامبير (الذي كان ينتمي إلى حركة كوبرا الشهيرة)، قد تعرف على أحمد الشرقاوي في باريس، وشجع مسيرته الفنية. ثم إنه تعرف على أعمال الشعيبية طلال، وربط بينها وبين هذه الحركة الفنية التي تدعو إلى العودة إلى طفولة الفن. ولا يمكن أن ننسى هنا العمل الدؤوب الذي قام به الناقد الفني والكاتب، بيير غوديبير، لصالح الفنانين المغاربة في بداية الستينيات. فقد كان هو أيضًا وراء تشجيع تجربة الشعيبية الوليدة. وقام أيضًا بجمع رواد الحركة الفنية الشباب في "صالون الفنانين الشباب" عام 1963. وفي السنة الموالية، أصدر أول سلسلة مونوغرافيات عن الفنانين المغاربة، من قبيل فريد بلكاهية، ومولاي أحمد الدريسي، وأحمد الورديغي، وغيرهم، أضحت مرجعًا للدارسين والباحثين في تاريخ الفن.

الناقد بيير غوديبير


هكذا، إذًا، يكون الغريب وراء تبلور جديد لكيان الإنسان المحلي. فإذا كانت صورة الكولونيالي قد عتَّمت نظرتنا لوجوده وثقافته، فقد صاحبتها أسماء صاغت لنا صورة أخرى للآخر المحتل الغاصب، وشخصيات تخلت عن هويتها لتستنبتها في غيرية الآخر، لا بهاجس إكزوتيكي (غرابي)، وإنما بهاجس الاختلاف الخصب. الآخر هنا يغدو ندًّا لا عدوًا، يكسر قوقعة الاستعلاء الثقافي ليفتح ذاته على مصراعيها لاحتضان المختلف، ويعايشه في صميمية اهتماماته الوجودية. إنها تجربة تبدأ بعشق البلد، وتنتهي بتبنيه، وممارسة هوية مركّبة تغدو موطنًا جديدًا منفتحًا على الإبداع والثقة الكاملة في الخيال الخلاق لأبنائه.
وسواء أكانت هذه الأسماء شهيرة، أم مغمورة، فإن ظلها بات لصيقًا بتكون فنانين اشتهروا في ما بعد، لا بفضل هؤلاء، وإنما بالموازاة مع طموحهم الخفي في أن تكون تلك اللمسات، أو ذلك التكوين، أو تلك المعونة، حافزًا لانطلاق مسير شخصي سيغدو مطبوعًا بها، حاملًا لوهجها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.